د. عادل بن خليفة بِالْكَحْلة
(مُنسّق منتدى التفكير في الحراك العربي)
«ما كانوا يعلمون أن ذلك مستحيل، فعلوه»[1]
1_ ما «المرصد»؟ وما ضرورته؟
«المرْصد» بالمعنى الأكاديمي، هو عمل علمي جماعي(أو فردي)، يغطّي سنة أو مرحلة، من وجود دولة أو مجموعة من الدول، في حقل من الحقول، أو مجموعة منها.
مَرْصَدنا من النوع الشامل، أي يحاول أن يغطّي أكثر ما يمكن من تحولات الاجتماع التونسي، برؤية نقدية، هادفة إلى استشراف البديل.
و المرصد التونسي الذي يصدره منتدى التفكير في الحراك العربي، هو الوحيد من نوعه في تونس[2]، رأيْنا أنه ضروري، حتى تُراجع الدولة والمجتمع المدني، ومؤسساتهما، الحالة العامة بالبلاد، وحتى يجدا الاختزال الجامع لما هو استراتيجي، وحارق، ونقاط ضعفه، ومنطلقات بدائله الإنقاذية، العاجلة والآجلة.
إننا نعيش أوهام «نموّ»، بينما لابد من تأسيس «التنمية»، بل التنمية العادلة المستديمة، والوَحدوية مع الجوار المغربي _العربي. فينبغي أن لا نواصل _باستهتارِ السلطة وبصمت الباحثين_ في تعريض أبنائنا وأحفادنا للموت مستقبلا، بمناويل صحة وتعليم واجتماع وبيئة وقضاء واقتصاد وفنون، قاتلة.
نظامنا الاجتماعي القائم منذ الاستقلال في سبيله إلى الانحلال. فلا غنى عن تحويل جوهري، إرادي، تقدمي.
ومثل هذا التحويل الإرادي، لا يمكن أن يتم بالمسالك التقليدية والتي كُرِّرت أو استُنسخت أو حُوكِيَتْ. وأزمةٌ بضخامة أزمتنا، ينبغي أن تُحَلَّ، لا بتغيير المنوال الاقتصادي والمنوال السياسي فحسب، بل أيضا بتغيير جِذري «لبنى الثقافة والمدرسة، والدين والإيمان، والحياة ومعناها»[3].
ونحن مطالَبون أوَّلاً، بطرح الأسئلة الحقيقية، لا الأسئلة التي لا علاقة لها بواقعنا المتفجّر. فيجب أن نبتعد عن الانتفاضة التشنجيّة، إن أردنا الثورة البنّاءة.
بدايةً، يجب تغيير مفهومنا للسياسة بالذات. فالسياسة التقدمية، ليست مجرد الانتخاب أو الانتماء لمجموعة سياسية، وإنما «أن يخترع كل واحد منا المستقبلَ»[4]، و أنْ يتخيّل نمط اجتماع خلاّق، مختلف جذريًّا، عن حقول حياتنا الحاضرة والماضية.
2_ بين المرصد التونسي عدد1 و المرصد التونسي عدد 2:
أصدرنا المرصد التونسي عدد1: « تونس بين انتخابات 2014 وانتخابات 2019».
وها نحن نُصْدر المرصد التونسي عدد2: « تونس بين انتخابات 2019 وانتخابات 2022».
يَصْدُرُ المرصد التونسي عدد2 في ظرف سياسي واقتصادي وبيئي، وقطري وإقليمي وعربي وعالمي، في أعقاب جائحة الكوفيد_ 19 العالمية، متميز بالغموض والتقلب والتدهور المتزايد على جميع المستويات.
3_ الجدة في المرصد التونسي عدد 2: البحث في المنوال البديل:
حاولنا في هذا المرصد الثاني أن نواصل بتوجهنا الاستراتيجي والاستشرافي والنقدي ـ العلمي، في توسيع لمجالات اهتماماتنا. وقد كان متراوحا بين المقالات العلمية، والتحقيقات، والتقارير العلمية، والتوثيق، واليوميات السسيولوجية.
فلئن بقي رصدنا للتحولات السياسية، والاقتصادية، والفلاحية، والثقافية، وللاحتجاجية، ها نحنُ نُخصص للتحولات البيئية، وللتحولات الصحية، فصلين مستقلين، وها نحن ننتبه إلى حقول جديدة في كل فصل . وقد حاولنا، ما بوسعنا، أن نغطي أكثر ما يمكن من ولايات البلاد. ولم تغب عنا المقارنة مناويلينا في مجمل حقول حياتنا، بمناويل النجاح في العالم (اقتصاد، صحة، بيئة، ثقافة…). فعلاوة على تأكيدنا الوجود السَّوْقِي للجوار المغربي_ العربي، والعلاقة بالقضية الفلسطينية، كان لنا اتجاه مقارني(حضور اليمن، واتحاد جنوب إفريقيا، والمغرب الأقصى، الجزائر، وكوبا …).
ركزنا في المرصد عدد2 على نقد المنوال السائد، بحثا عن «المنوال البديل»، سواءًا كان اقتصاديا أو فلاحيا أو صحيا أو بيئيا أو ثقافيا. أو غير ذلك.
«المنوال» هو نسق مجرّد. إنه مُجْمَل تأويلات أو أمثلة أو ترسيمات توجيهٍ للتنمية، تستهدف بشكلانيتها «تعديلاً هامًّا، وربما حاسمًا»[5] للبنى الاقتصادية أو الفلاحية أو الصحية أو البيئية أو الثقافية، أو غيرها.
فلقد آن الأوان للقطع مع نَسق مناويل متقادمة، لم تتغير منذ سنة «الاستقلال»، وإرساء مناويل بديلة أكثر عقلانية وعدالة، في الاقتصاد (والفلاحة والصناعة والسياحة..)، وفي الصحة والبيئة والثقافة والتحضر، والتعليم[6].
4_تحوّلات سياسية:
ففي فصل «تحولات في السياسة العامّة»، قدّم لنا زميلنا بفريق المرصد، أ.رشيد القنوني، الباحث القارّ بهذا الفصل، قراءة في التحولات السياسية المتسارعة ببلادنا منذ انتخابات 6 أكتوبر 2019، منتهيا إلى ضرورة توضيح الاختيارات الاستراتيجية أو مراجعتها في اتجاه مصلحة الشعب الفضلى، في زمن يشهد تغييرات جذرية على مستوى موازين القوى الدولية»، فكل المتنافسين السياسيين في بحثه لا يحملون مشاريع بدائل في السياق نفسه.
انتهى أ.د. عادل بِالْكَحْلة إلى سؤال إشكالي: «هل يستطيع البرلمانيون الجدد و كتَلهم تدارك عدم حَملِهم مشاريعَ ومناويل تنموية و صحية وبيئية وثقافية وتعليمية ملائمة للعاجل و الآجل؟ و إن كان لهم ذلك، هل تسمح لهم صلاحياتهم الدستورية الضعيفة بأن يؤثروا في أداء الحكومة و توجهات الدولة الداخلية والخارجية، أم «إن البرلمان لم يعد يعني شيئا»، كما كان مِنْ قَبْلُ، مثلما قال الرئيس؟؟؟».
وهاهو زميلنا د. مصباح الشيباني، الباحث القارّ بنفس الفصل، يقدم لنا قراءة في تجربة حركة الإخوان المسلمين بتونس في الحكم بالعقْد 2011 ــ 2021، منتهيا إلى تحوُّل «الوطنية والكرامة والسيادة _ بالنسبة إلى الإخوان _ إلى نقيصة أو جريمة سياسية ومرضا نفسيا، بعد أن كانت قيمة إنسانية وشرطا من شروط الإيمان في خطابهم الديني التعبوي للقطيع».
5_ تحولات الجِوار الإقليمي وعلاقاتنا به:
في فصلنا الجديد، «تونس وجوارها المغاربي والعربي»، وقفنا مع أ. د. عبد الجليل البدوي، على ضرورة «أن المرحلة الراهنة بالمغرب العربي الكبير، لا تقتضي فقط فتح الحدود وتيسير انتقال البضائع والأشخاص ورأس المال، بل تقتضي أساسا دخول المؤسسات والمنشٱت في عمليات شراكة واندماج وتنسيق، قادرة على دعم الأنشطة القائمة وعلى اقتحام مجالات جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحولات العالمية».
ومع د. رافع الطبيب ننتهي إلى أن ما نشهده اليوم من«استفاقة المارد الجزائري، باعتباره فاعلا رئيسًا في معادلات الإقليم، مما يستوجب تعميق البحث والمعرفة حول آليات الحكم وسوسيولوجية السياسة في هذا البلد الجار الذي سيتحول حتما، إلى شريك أصيل لتونس في أكثر من مجال».
أما أ. د. عادل بِالكَحْلة فقد أكد ضرورة استئناف العلاقات التونسية _ السورية بما يحمل من مَنافع استراتيجية للطرفيْن. وأما صحافيّ فريق المرصد، أ.هشام بوعبيدي، فقد وثّق أهم الأحداث في علاقة تونس بالقضية الفلسطينية.
6_ تحولات صحية حاسمة تفرض منوالاً صحيا جديدًا:
في فصل «التحولات الصحية»، قدمت لنا أ. فاطمة الفراتي المؤامرة العالمية على صحة الناس، اعتمادًا على دراسات الباحثة كْلِير سِيفِرَاك، التي بَيَّنَتْ وجود «تواطئ دولي في كيفية إدارة الأزمة الصحية في سنوات الألفين. فالفاعلون هم دول المركز الإمبريالي وأثرياء العالم ومنظمة الصحة العالمية (…)، والمفعول بهم هم سكان الأرض ناسا و حيوانات ونباتات…».
أما أ. محمد السْكَنْدراني، فقد انتهى إلى أن النظام الصحيّ التونسي « يتطلّب اليوم أكثر من أي وقت مضى، إرساء مقاربة جديدة تهدف إلى ضمان الحق في الصحة للجميع(…). ومن الأكيد، أن المنوال الصحي التونسي البديل، لن نستطيع تصميمه إلا بعد المقارنة بين المناويل الصحية الناجحة، من أجل جعل منوالنا ملائما لخصوصياتنا التونسية».
مع أ.د. عادل بِالْكَحْلة، كان تناول التدبير السياسي والثقافي للكوفيد _19 بتونس عامة، وبحالة محلية، مؤكدا ضرورة تجاوز المنوال الصحي السائد منذ بداية الاستقلال، والذي أثبت تخلفه وعدم عَدالِيّته، بهذه الجائحة.
ومع تجربة الدكتور الطبيب هادي كمال الخرشوفي، أثناء هذه الجائحة، تبين لنا أنه « من الضروري تغيير منوالنا الصحي التونسي المهترئ لتجاوز نقائصه الفظيعة وتفاوتاته الاجتماعية والطبقية والجهوية، مقارنين بين المناويل الصحية في العالم».
ومع د. الحبيب النهدي، نقف على إشكالية الحالة الصحية والبيئية في مدينة قابس، مقترحا «جملة من التوجهات الكبرى التي من شأنها تطوير القدرات والمهارات التواصلية» في القطاع الصحي.
7_ تحولات بيئية متسارعة تَفْرض منوالاً بيئيًّا وطنيًّا:
في فصلنا الجديد في «التحولات البيئية»، وقفنا مع أ.د. رجاء شْعَيْري على: «أنه لا بد من تعهد مشروعِ تطهيرٍ ومراقبةٍ للإلقاءات غير المعالجَة بهذا القطاع. وأن الهدف الرئيس من هذا التطهير هو ضمان إزالة التلوث عن سبخة المكنين وحمايتها. فالفضاء الطبيعي والمساكن الوظيفية يجب أن تكون مَحْميةً عَبْرَ تحسينٍ لوضعية مُعالَجَة المياه المستعملة ومراقبةٍ لمَواقع الرَّدْمِ».
كما وقفنا مع أ. منير حسين على الدعوة إلى «تبني ميثاق بيئي ملزم يحترم الحق في البيئة ويوازن بين البحث عن الربح واحترام البيئة، ومراجعة كل التشريعات والقوانين المتعلقة بالبيئة»؛ وفي تناوله مشكل مصبات النفايات في عْقارب(جهة صفاقس) والقزاح(جهة المنستير) والرَّجِّيش(جهة المهدية)، أكد أن «مشكلة النفايات الصلبة في تونس من أكثر المشاكل التي تؤدي إلى احتجاجات اجتماعية بيئية»، منبها إلى خطورة تكاثر المصبات العشوائية «التي تؤثر بشكل كبير في حياة المواطنين وبيئتهم وحقهم في العيش في بيئة سليمة».
مع أ. سامي مْهِنّي، كان التركيز على مشكلات بحيرة المنستير، منبّها إلى أن كل المؤشرات والعوامل «تعمل على أن يكون خليج المنستير في القريب العاجل بالوعة ذات سماء مفتوحة، لكن الأمل موجود في جملة من المشاريع التي هي مطروحة منها ما هو بصدد الإنجاز ومنها ما يحتاج إلى مساندة من مواطني المنطقة لفض بعض المشاكل الميدانية والمضي قدما في تبني البعض الآخر».
ثم قدَّمَتْ أ. فاطمة العايب، المختصة في علم التوثيق، للباحثين جَرْدًا بالأطروحات والرسائل المتعلقة بخليج قابس وبحيرة المنستير وسبخة المكنين، التي تعاني من مهدِّدات جَمَّة.
8_ تحولات اقتصادية تؤكد ضرورة المنوال العدالي عاجلاً:
في فصل «التحولات الاقتصادية»، يقدم لنا أ.د. عبد الجليل البدوي، المستشار القار لفريق هذا الفصل، قراءةً في ميزانية 2022، مبينا أنها «حافظت على نفس الاختيارات النيوليبرالية الفاقدة لكل بعد تنموي واجتماعي، كما كرست هيمنة «اللوبيات» والمافيات و«الكْنَاطْرية» التي ستقود إلى مزيد اللجوء إلى التداين الخارجي والقبول بشروط صندوق النقد الدولي».
وأما د. رضا بوكراع، فقد أكد أن المنوال ما بعد الكوفيد يجب أن يحمل «الثوابتِ البنيويةَ التابعة للدولة ودورها في تدبير مُجْمَل الحياة السياسية في مختلف خصائصها الاقتصادية والصحية والتِّقانية»، وأنه دون دولة قوية، لايستطيع «لا الانبثاق ولا الاشتغال».
أما زميلنا د. عادل بوزيد، فقد رأى من خلال دراسته في المقاولة السياحية الراهنة أن «الضرورة تقتضي الفهم الحقيقي لكيفية تأسيس الفعل المُقَاوَلي ومهاراته، سواء بالنسبة إلى الأفراد أو الجهات الحكومية، من أجل إحداث فعل التجديد الحقيقي في النسيج الاقتصادي والتأسيس لمنوال تنمية مستديم».
أما د. معز السالْمي مع د. محمد غُصْن المِرْسْني، فقد توصّلا بمقالهما: «الإشكالية المعاصرة للجهات المهمَّشة:حالة بن قَرْدان» إلى استمرار معضلة ذات أهمية حاسمة منذ «ما بعد الثورة» التونسية، وله علاقة بمسألة الفساد، وهي «مسألة عدم المساواة الاجتماعية والإقليمية، والتي تقسم البلاد إلى منطقتين متضادتين: واحدة داخلية، تغيب عنها التنمية الاقتصادية، وغالبًا مهجورة لمصيرها على الرغم من، الثروة الطبيعية التي تخفيها، أو بسببها».
أما الحالة الجهوية الثانية في الهامشية، فقد تناولها أ. د. عادل بِالْكَحْلة، في جهة تطاوين، مستنتجا من يومياته السسيولوجية أن «إنقاذ ولاية تطاوين عاجلاً، إنما يعني إنقاذ الجزء الأكبر من الاقتصاد التونسي؛ وما مطالبة كل المجتمع المدني التونسي والدولة التونسية اليوم بتأميم نفط ولاية تطاوين وغازها؛ وإعداد خطة إنقاذ اقتصادي_ اجتماعي عاجلا ومنوال تنمية عدالي آجلاً، فيها، بالآن نفسه، إنما هي دفاع عن سيادة كل الدولة التونسية على كل حِمَويَّتِها».
وفي آخر الفصل، يقدم لنا الدكتور عبد الجليل البدْوي مشروع البديل الاقتصادي الأمثل، والأكثر واقعية ونجاعةً، وقابلية للتطبيق، مؤكدا أن«العالم يشهد تحولات مناخية عميقة وخطيرة ستكون لها انعكاسات كبيرة ومختلفة على بلادنا، نظرا لموقعها الجغرافي ولطبيعة مناخها. واختيار بديل تنموي قائم على الانتقال نحو اقتصاد أخضر سيمكن من تركيز الشروط والظروف الملائمة لمواجهة هذه التحولات والحد من تأثيراتها السلبية».
9_ نحو مشروع إنقاذ للفلاحة والصيد البحري:
في فصل «تحولات الفلاحة والصيد البحري»، قدمنا عاِلم الاقتصاد الفلاحي، أ.د. محمد اللُّومي، جَمْعًا وترجمةً، وقد وَقَفْنَا على تأكيده أن «ضرورة تبنّي منوال ثورة خضراء مضاعفة، قائمة من ناحية على التكثيف الإيكولوجي لأنساق الإنتاج، وعلى فلاحة عائلية كفيلة وحدها بضمان إرساء حِمَويٍّ للفلاحة وضمان تأْرِين الأحْمِية».
أما د. عبد القادر النقبي، فقد تكلَّف بعرض مشروع مِنْوال البديل الفلاحي التونسي لجماعة بَرْسْبَكْتِيف؛ باعتبار أنه كان المشروع المضادّ الوحيد للمنوال الفلاحي التونسي، المُتخلف والتبعي والمهمّش للفلاحين، وللريف، والفلاحة؛ متوصّلا إلى أنَّ «للخروج من هذه الأزمة الفلاحية، أكدت الحركة، وجوب معالجة المشاكل المتعددة والمختلفة، التي أنتجت هذه الأزمة، وخاصة الإنسانية الاجتماعية، من خلال منوال فلاحي إنساني عدالي بديلا لمنوال السلطة التونسية».
أما د. هشام النْعِيجَة، فقد توصل في دراسته في «الأمن الغذائي في تونس: الواقع والأفاق»، إلى أنه «لا بد من حلول عاجلة، منها التعويل أكثر على الإنتاج الفلاحي التونسي، رغم تزايد مخاطر تأثيرات التغيرات المناخية، والعمل على الحدّ منها باتباع استراتيجيات فلاحية تعطي الأولوية للبذور المحلية المتأقلمة مع الوسط والمقاومة للجفاف، وخفض نسبة تبذير الغذاء _خاصة المورّد منه_ لارتفاع كلفته».
كما قدَّم د. عبد القادر النقبي تشخيصه لواقع الصيد البحري بتونس، من خلال حالة مشروع الميناء الجديد بطبلبة، مبينا ضرورة «تغيير استراتيجيات قطاع الصيد البحري، بما يخدم الفئات البحرية الفاعلة، المباشِرة بالقطاع. وذلك في إطار أساسي، هو استرجاع الدولة التونسية لدورها المنهوب، في هذا القطاع الأساسي، والهام بالبلاد».
10_ الفساد المؤسسي ومعالم حوكمة رشيدة:
في فصلنا الجديد «الحوكمة في سياقات جديدة»، رأى د. حسين الرْحِيلِي، أنه يمكن القول أن «تجربة جِمْنَة ليست تجربة للاقتصاد الاجتماعي التضامني بالشكل الكلاسيكي أو المتعارف عليه، بالأقل في المدارس الأوروبية، بل هي تجربة في التنظُّم الذاتي للسكان في إطار تصور اشتراكي للتنمية، ولتسيير الشأن العام محكوما بتحقيق حاجيات السكان في الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في إطار تصور تقدمي لمسار التاريخ ».
كما قدّمت أ. سوسن ونّاس واقع الفساد في السلطة القضائية والشُّرْطِية بتونس، مبيّنة أن القضاء «يشكّل إحدى ورشات العمل الكبرى في مسار البناء الديمقراطي. ولكن غلبت فيها القيم القطاعية والإفراط في التركيز على تطوير هيكلة المؤسّسات، في مقابل تغييب فكرة البحث عن نجاعتها والبطء في تنزيل وُعُودِ الإصلاحْ، نتيجة الاهتمام بالتموقع والمصالح».
أما أ.د. محمد ابن كَحْلة، فقد اقترح علينا النظر في أوقاف حَدَاثية، هي أوقاف الجامعات الأمريكية، مقدّما حالتيْ بُوسْطِن وهارْفارد؛ ورأى أنه «من الأكيد أن تمويل النشاط البيداغوجي(التدريس، إيواء طُلاّبي…) والنشاط البحثي لجامعاتٍ تونسيةٍ تعاني من معضلات جَمَّة، لم يَعد الدور الحكومي قادرًا وحده على القيام به(…)، وربما كان تفكيرنا في أوقاف حداثية(لا تحمل إبستميّة سُحْنُونية ولا وَنْشَريسيّة) ضروريا في إعدادنا لمنوال جامعي جديد».
أما د. أحمد بوزويته، فقد توصل إلى أن «التعاون المالي بين الدولة والجماعات المحلية من أهم الدعائم الرئيسية لتنزيل اللاّ مركزية. من هذا المنطلق، جاءت المنظومة القانونية بمجموعة من القواعد التي يمكن اعتبارها بمثابة إطار صَلْب لنجاح تجربة الحكم المحلي».
أما أ. نزار تقية، فقد بين برنامج أن التنمية الحضرية والحوكمة المحلية «يهدف إلى القطع مع فترة الحوكمة المركزية والتغلغل القوي للحزب الحاكم»، وبَيَّنَ أهمية المقاربة التشاركية في التمثلات الاجتماعية لعموم التونسيين، لكنه أكد من خلال بحث ميداني، أنهم «لم ينخرطوا بالكثافة المرجوة، مثلما تؤكده مختلف الإحصائيات الخاصة بعدد الحاضرين بالجلسات البلدية».
11_ تحولات حاسمة في الحياة المدنية:
في فصلنا عن «تحولات الحياة المدنية»، بيَّنَ أ.د. مصباح الشيباني «تميز الدستور وأغلب التشريعات القانونية بعديد الثغرات التي كشفتها التطبيقات العملية. وكثيرٌ من أحكام تثبيت السيادة وتفعيلها في الممارسة، بقيت رهينة استكمال إرساء الهياكلها الخاصة بها والضامنة لها».
أما د. عقيل البكّوش، فقد قدّم دراسة مقارنة في حفظ الذّاكرة من خلال ثلاث تجارب في العدالة الانتقاليّة بإفريقيا، بين جنوب إفريقيا والمغرب الأقصى وتونس، متوصلا إلى اتفاق التجارب الثلاث في المعايير التي اعتمدتها، « باعتبارها معايير دُوَلِية مفروضة في سياق العولمة الليبرالية وتنميط المجتمع الدولي وفق مقتضيات دوران السلع وحرية السوق، فإنّها اختلفت اختلافا بيّنا في منطلقاتها وفي مآلاتها».
وفي دراسة د. توفيق سلطان عن مقولة الدولة في الفعل التحاوري اليمني، أكد أن الواقع السياسي للمجتمع اليمني يتطلب «تجاوز الطوباوية التأسلمية، الفارضة لجغرافية الفكر السياسي الديني التقليدي ونمطيته في بناء الدولة؛ لأنها صنعت حدودًا وهمية، مقيّدة لحرية الفكر السياسي، وأصبح التدين التأسلمي في المجتمع اليمني بديلا للهوية المعرفية والسياسية».
12_ خصائص جديدة في الاحتجاجية التونسية:
في فصلنا القار، في «الاحتجاجية»، اكتشف أ. المولدي بن عْلَيّة في دراسته الميدانية عن الحركة الاحتجاجية في فيفري 2019، أنها تفتقر إلى الشرط الأولي والأساسي لنجاح الحركة الاجتماعية، وهو المشروع الثقافي و مضادة منوال التنمية السائد.
وفي دراسة د. منال الكَنْزالي، نقف على أن وسائل التواصل الاجتماعي فرصة للحركات الاجتماعية لتقنِع بأفكارها، «فجعلتها تنجح في تكوين رأي عام موحّد وفي فرض وجودها على أرض الواقع، وفي توصّلها إلى تحقيق أهدافها التي تكوَّنت لأجلها».
أما د. هاجر الجندوبي، فقد توصلت في بحثها الميداني عن احتجاجية فلاحي ولاية باجة بين شهر ديسمبر من سنة 2019 وشهر جانفي من سنة 2020، إلى أن تلك الاحتجاجية نجحت _نسبيا_ في وصول الفلاحين إلى إدراك الفرص الموجودة «للحصول على الضمانات الكفيلة بتحسين وضعيّتهم من ناحية، ومن ناحية أخرى توسيع قدرتهم على الفعل، وعليه تتحوّل إلى استراتيجيات بديلة ترفع التحدّيات أمام الفلاحة والفلاّحين والعالَم الرّيفي».
أما أ. جعفر حسين، فقد انتهى إلى أنه « بقدر ما يعتبر الاحتجاج ظاهرة مجتمعية صحية، لكنه يستدعي المساءلة والنقد، إذ لاحظ حضورها المتشتت وتحركها جماعاتٍ وكياناتٍ غيرَ متجانسة في تركيبتها وأهدافها وفي سقفها المطلبي. وهذه معضلة فرضها واقع التعدد والتنوع ولكنها عائقا أمام انتقال الحركات الاجتماعية من وضع الاحتجاج إلى وضع القوة المنظّمة القادرة على التغيير».
13_ تحولات في سيرورة التراث بالاجتماع الراهن:
في محور «التحوّلات في التراث»، رأى أ. د. عماد بن صُولة أن من الواجب «تجميع كلّ الشركاء المعنيين في إطار مجلس أو هيئة وطنية تسهر على صون التراث غير المادي في إطار تشاركي، يتجاوز التقسيمات القِطاعية والحِمَويّة، ويكرّس روح التعاون والتكامل بين المؤسسات الرسمية والجماعات والمجموعات المنخرطة في سيرورة ممارسة التراث غير المادي ونقله إلى الأجيال الشابة».
أما أ.د. عادل بِالْكَحْلة، فقد قدّم بدراسته الميدانية عن دينامية صراع الجمعية المحلية من أجل تقدير أول ساعة شمسية حداثية، بتثمين إريك مِرْسِيِيه، رئيس جمعية الساعات الشمسية الإسلامية العالمية، «كانت عينة من غربة التراث المادي التونسي وهامشيته في الثقافة والسياسة التونسيتين الراهنتيْن، وعن مُحَاصَريّة الجمعيات المحلية المرَافِعة عنه».
14_ أخيرا… تكريم آباء علم الاجتماع الرَّاحِلين: الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع في تونس يودعوننا:
في هذا المرصد عدد 2، كان من الضروري من باب الوفاء أنْ نُقْحم فصلا استثنائيا في تكريم آباء علم الاجتماع الذين أفنوْا عمرهم الأكاديمي في تكويننا، وتوفّوا أخيرا. وهم أ.د. ليليا بن سالم، وأ.د. عبد الوهاب بوحديبة، وأ.د. محمد عبد الباقي الهرماسي، وأ.د. فرج الإسطمبولي، وإن لم يكن أ.د. منصف ونّاس مؤسسا، إلا أننا اعتبرناه كذلك، لأنه كان من الجيل الأوّل الذي دَرَس عن الآباء المؤسسين مكتسبا الكثير من خصائصهم، قادرًا على الإبداع مثلهم. وقد تكفل بهذا الفصْل: د. الحبيب النهدي، ود. عادل بوزيد، ود.عقيل البَكُّوش، وأ.المولدي بن عْلَيّة.
-*-
أما المُؤلفات الصادرة أخيرًا عن منتدى التفكير في الحراك العربي، فقد قدّمنا منها: الأشكال الجديدة للتدين بتونس (مع د. عقيل البَكّوش)، و العلاقات التونسية السورية في السياق الإقليمي والعالمي الراهن (مع د. عبد الباسط غابري)، و من أجل شروط دنيا لمغرب موحد (مع أ. علي بالطيب)، والمرصد التونسي عدد1: تونس بين انتخابات 2014 وانتخابات 2019 (مع د. توفيق سلطان).
خاتمة الافتتاح:
من الأكيد أنّ مرحلتنا الراهنة، منذ نهاية عام 2022، دَقيقة وصعبة جدّا، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وصحيّا، وثقافيا، وبيئيا. وقد بدأ فريقنا بعْدُ في تحسس المرصد عدد3 من أجل متابعتها ونقدها.
أرجو أن ينال المرصد عدد2 حقه في القراءة والدفع نحو الحلول… فلا خير في عمل يُتْرك لغبار الرفوف، فذلك يعني أن الأكاديميين والمُواطنين والدولة قتلوهُ في المهد.
-*-
كلمة أخيرة قبل القراءة:
ينبغي أن يستمر مشروع «المرصد التونسي»، مشروع «الأمل» التونسي، منْ أجل استمرار الكلمة العلمية، غير التَّرَفية، الباحثة عن البديل.
هذا العمل الجماعي، ليس جدليًّا فحسب. فهو يقدّم تفكيرًا تعاوَنَ عليه فريقٌ كبيرٌ عددا(35 باحثا) ومتنوع الاختصاصات، ولعلهم مِن أفضل المختصين في مجالاتهم.
إنه يبحث في مكوّناتِ المرحلة واحتياجاتنا المستقبلية، وفي تناقضات سياقاتِ حقول الحياة الراهنة في تونس، باختلافاتها وتنوعاتها، ويقترح محاور التجاوز البديلة استراتيجيًّا، وخطوات التغيير الممكنة والواقعية باتجاه مناويل حقولٍ أفضل فأفضل.
-*-
«إن المشروع هو بين أيديكم. ولا يستطيع أحد منا، إذا لم يحمل تعهده الشخصي،
أن يتهم آخر بالإخفاق.
أجل، معكم، وبكم، وحيث تكونون، يمكن للمستقبل والأمل أن يبدأ اليوم بالتحقق»[7].
********************************
[1] غارودي(روجه)، البديل، دار الآداب، بيروت، 1988، ص237.
[2] يُصدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مَرصدًا دَوريًّا، كل شهر أو بضعة أشهر. ولكنه يختلف عن أطروحة مرصدنا، «المرصد التونسي»، فمرصد م.ت.ح.اق. اج. هو مرصد شهري، بينما مرصدنا يغطي سنة أو مَرْحلة، ومرصد م.ت.ح.اق. اج. مَرصد إخْباري، من نوع الحَوْليات، بينما مرصدنا تحليلي _استشرافي _أكاديمي، ذو خلفية بَدائلية.
[3] غارودي(روجه)، البديل، دار الآداب، بيروت، 1988، ص7.
[4] م. س، ص8.
[5] Echaudemaison(…) et autres , Dictionnaire d’économie et de sciences sociiales, Nathan, Paris, 1984, P. 285.
[6] تجنّبنا الاهتمام بالتعليم في مراصدنا، لأن للتعليم والتربية فريقًا خاصًّا هو: فريق نقد المدرسة التونسية. وقد أصدر جماعيًّا: نقد المدرسة التونسية1، و نقد المدرسة التونسية2(والكتاب3 بصدد الإنجاز)؛ بينما أصدر رئيس الفريق (د. مصباح الشيباني: التعليم في تونس بين ارهاصات الأزمة وهواجس الإصلاح، سنة 2021).
[7] غارودي(روجِه)، مشروع الأمل، دار الآداب، 1988، ص143. من الهام جدًّا للجميع أن يقرؤوا بتمعن هذا الكتاب/ المشروع، فهو شاحذ لكثير من الأفكار والاقتراحات البديلية_ الثورية. ويندرج في هذا السياق العديد من كتبه/ المشاريع الأخرى، مثل: البديل(دار الآداب، بيروت، 1988)؛ ومنعطف الاشتراكية الكبير (دار الآداب، بيروت، 1982). [انظر مقالي: «دَرْسُ رُوجه غارودي في التغيير الجذري للاجتماع والحضارة»].