من الحقائق التي لايمكن تجاوزها في أي قراءة موضوعية للمشهد الدولي وإحتمالاته المستقبلية، أن الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا التي إندلعت قبل سنتين قد وضعت حجر الأساس لمرحلة جديدة في النظام الدولي القائم ، وأن الحرب على غزة وصمود المقاومة ومنجزاتها، وجرائم العدو الصهيوني وفضائعه كل ذلك قد دشن رسميا بداية هذه المرحلة ، أو بالأحرى دفعت بها في مسار لاعودة فيه، فمع بداية الحرب في أوكرانيا تعالت أصوات الإدانات الغربية ضد روسيا وجرى الإستحضار المكثف لسرديات حقوق الإنسان، وحماية النساء والأطفال، ولم يكن ثمة أدنى تردد في وصم روسيا ورئيسها بالوحشية والإرهاب، فضلا عن المسارعة إلى فرض عقوبات لامتناهية وبسرعات مذهلة على روسيا في مقابل فتح أبواب المساعدات على مصراعيها إلى أوكرانيا، وبطبيعة الحال تم تجاهل حقيقة جوهرية في هذا الصدد وهي أن الحرب في أوكرانيا لم تكن لتقع لو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تريدها، والتفاصيل معروفة للجميع.
لكن كل هذه المواقف بإسم الإنسانية وحقوق الإنسان تلاشت وكأنها لم تكن مع بداية الحرب الصهيونية على غزة،هنا إختفى غرب حقوق الإنسان، وتجلى الغرب كما عرفته شعوب إفريقيا بوجهه البشع وإيديولوجيته الحداثية التي تحمل في أصل حداثتها فكرة الإبادة كما يقول بعض المفكرين، لكن مايهمنا في هذا المقال ، هو أن الحرب في أوكرانيا أي حرب الغرب ضد الروس، والحرب على غزة ، أي حرب الغرب على أحرار العرب، قد وضعت العالم فعلا على أعتباب مرحلة أو نظام دولي جديد.
وكُل نظام دولي جديد ينبثق بالضرورة عن حرب كبرى.
كل تحول هام أو حاسم في أي نظام دولي قائم ، يُسْبق ويُرافق بأزمات سياسية وإقتصادية ، وحتى مع بعض الحروب المحلية أو المحدودة.
هَلْ هذه نظرية ؟ ، نعم ، هي كذلك. وهي نظرية من شقين ، كما ترى، فتعلَّم أيها العربيُّ ، ولاتصغ للديمقراطيين الجدد، والإنسانيين الموسيميين…فيضِّلونك عن سواء الحقيقية ، ويطمسون بصيرتك عن حقائق الواقع ، وقوانين التحول في حركة التاريخ ، وسياسات الأمم.
و هذا الذي يحدث ، الآن في أوكرانيا ، أو في غزة، هل ينطبق عليه الشق الأول ، أم الشق الثاني من النظرية ؟
الذي يحدث اليوم في أوكرانيا كما في غزة يصدق عليه الشق الأول من النظرية ، بمعنى أننا بصدد نظام دولي جديد ، ولسنا فقط بصدد تحولات عامة أو حاسمة في النظام الدولي القائم ! هنا قد يعترض البعض بقوله : أين هي الحرب الكبرى ، حتى تتحدث عن نظام دولي جديد ؟ والجواب : الحرب الكبرى قاىمة بالفعل الآن ، مسرحها الأراضي الأوكرانية ، والأراضي المقدسة ، لكن أطرافها تتجاوز الأربعين أو الخمسين دولة ، فالحلف الأطلسي وحده يضم ثلاثين دولة .
نعم ، الحرب القائمة حاليا ، لاتشبه الحرب العالمية الأولى التي إنبثق عنها نظام دولي جديد ، كما أنها لاتشبه الحرب العالمية الثانية التي إنبثق عنها النظام الدولي الذي هو بصدد الإنتهاء الآن ، بل إن الحرب الحالية القائمة في أوكرانيا لا تشبه كثيرا حروب الوحدة الألمانية ( ضد الدنمارك ، وضد النمسا ، وضد فرنسا سنة 1870على التوالي ) بقيادة المستشار أوتوفون بسمارك ، وهي الحروب التي إنبثق عنها نظام أوربي دولي قائم على توازن القوى…
الحرب القائمة في اوكرانيا وفي غزة لاتشيه هذه الحروب في شكلها التقليدي ، وإمتداداتها الجغرافية ، وذلك بسبب وجود معطى حاسم لم يكن موجودا في الحروب السابقة التي إنبثقت عنها الأنظمة الدولية السابقة ، وهو السلاح النووي الذي يتوفر عليه طرفا الصراع ، الطرف الروسي ، والطرف الغربي.
وبالنسبة لمن قد يلاحظ أن السلاح النووي قد توفر في الحرب العالمية الثانية ، أقول : توفر في نهاية الحرب ، ولم يكن حاسما في مجرى هذه الحرب، وقد اوضحت في منشور سابق ، سبب إستخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة النووية في نهاية تلك الحرب.
السلاح النووي الذي يملكه طرفا الصراع ، هو مايحول دون إتخاذ الحرب الحالية في أوكرانيا شكلا تقليديا سافرا كالحروب السابقة،ومن الواضح أن المقاومة في غزة لاتملك سلاحا نوويا، لكنها أوجعت الغرب لأنها ضربته في صميم وجوده ، ورمز هيمنته وسطوته، وطرحت نفسها كمعادل أخلاقي وجودي للصهيونية وتحالفاتها المتداخلة مع السرديات الغربية الكبرى.
لكن ، من ناحية المضمون فالحرب الحالية هي حرب كبيرة ، وسينبثق عنها نظام دولي جديد ، مضمونه الحد إلى أبعد مدى من هيمنة الغرب ، وظهور عالم تعددي بشكل غير مسبوق ، فتعلم أيها العربي ، وأحذر من الديمقراطيين الجدد ، والإنسانيين الموسميين ، وأحذر من الإعلام الغربي، والإعلام العربي المأجور..
روسيا ستخرج منتصرة من هذه الحرب ، ولايوجد أي مجال للأوهام في هذا الصدد ، والأسباب البسيطة الذي ستقود إلى إنتصار روسيا هي بالتحديد الأسباب التي يعتقد دعاة اليمين العربي المتطرف والمتواطئ، والمعقد من الروس وقوة التحدي لديهم ، أنها ستكون سبب هزيمتها، وكذلك المقاومة في غزة مصيرها الإنتصار الذي أصبح واضحا من خلال ملاحظة إرتفاع وتيرة التحالف بين الكيان الصهيوني والأنظمة العربية المتحالفة معه أمام مايعتبرانه خطرا وتحديا مشتركا فرضته المقاومة الماجدة.
فأحذر أيها العربي من دعايات ودعاوى اليمين الذي أضلك بإسم الدين ، وجعل منك وقودا لحروب الغرب في أفغانستان، وليبيا ، وسوريا، والشيشان…إلخ..
إنه ، أي هذا اليمين العربي الذي يتدثر بالدين كلما كانت هناك حاجة لمواجهة أو إحباط أي حركة وطنية أو قومية، إنه ذات اليمين الي يسعى الآن لتسخير الدين في محاولة جبانة ولا أخلاقية ولكنها يائسة لإحباط جهود المقاومة الوطنية الفلسطينية التي فتحت صفحة جديدة في التاريخ يوم السابع من أكتوبر2023، إن العرب الذين يتآمرون اليوم على المقاومة الوطنية الفلسطينة في غزة بالحصارالإقتصادي والإعلامي ، وبالدعم الصريح والسري لمعسكر العدو هم العرب الذين إنكشفوا وتعروا وافتضحوا كما لم يحدث من قبل، وهذا الإنكشاف غير المسبوق في المواقف والنوايا هو المقدمة الضرورية لما سيأتي بعدها، وليس سرا أن هذا الإنفضاح للعرب المتصهينين مرتبط بصورة عضوية بالإنكشاف العالمي للصهيونية وتهاوي سردياتها الأنانية،الأسطورية العنصرية.
– كاتب من الجزائر