لا انفكاك للتصوّر السعودي عن الخروج من حرب اليمن عن العقلية التي بدأ بها الحملة مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات (25 آذار /مارس 2015) بما سمّي عملية «عاصفة الحزم». العقلية القائمة على الاستعلاء والهيمنة، بعيداً من أهداف الحروب ورسم الاستراتيجيات، لا تزال سارية، رغم مضيّ خمسة أعوام على العبث. ربط أصحاب القرار في قصر اليمامة بالرياض مصيرهم بنتيجة الحرب، إذا هم على أعتاب عام سادس، لا مروحة واسعة من الخيارات أمام مشعلي الحرب. أما المتاح في هذه المرحلة، فخياران: الأوّل، الاستمرار في الحرب. وهذا يعني مزيداً من الاستنزاف السعودي، بلا أفق للفوز. وهذا يعني أيضاً تهديداً مباشراً للداخل السعودي، وستكون له تبعيات سياسية واقتصادية وخارجية على النظام برمّته. الثاني، إنهاء الحرب من خلال تسوية سياسية. وهذا أيضاً ستكون له تبعات كبيرة، لأن أي تسوية ستكون نتاج الفشل والإخفاق والأفق المسدود سياسياً وعسكرياً. والتسوية هذه، إن تمّت، فهي بفعل انتصار صنعاء، وعليه فإن الأخيرة ستفرض شروطها على طاولة المفاوضات. وأهم هذه الشروط رفض المس بالسيادة الوطنية اليمنية. من هنا، الصيغ السابقة التي قدّمت لحركة «أنصار الله» بأنهم مكوّن بين خمسة أو أربعة مكوّنات على أقل تقدير، رفضتها صنعاء أثناء مراحل الصمود والدفاع، وبديهي أنّ ما لم يكن مقبولاً في سنوات المقاومة والتصدّي لن يكون مقبولاً في «أعوام الحسم والهجوم». تبحث الأمم المتحدة، عبر مبعوثها إلى اليمن مارتن غريفيث، عن حلول مؤقتة كتلك التي فرضتها الوقائع الميدانية في محافظة الحديدة، في اتفاق السويد. وقد حاول غريفيث تكرار تلك التجربة في مدينة مأرب، إلا أن جهوده باءت بالفشل بسبب الرفض السعودي لرفع الحصار عن اليمن، وممانعتها استفادة المحافظات التي تحت سلطة «المجلس السياسي الأعلى» في صنعاء من تقاسم الثروة النفطية وإعادة التغذية بالطاقة الكهربائية المقطوعة من مأرب بقرار من الرياض.
الثابت أن الكلمة الأخيرة لإنهاء الحرب بيد واشنطن، التي لا تزال ترى في استمرارها مصلحة لها على أكثر من صعيد، لا سيما في مجال مبيعات الأسلحة للسعودية، أو لجهة إضعاف اليمن وإبعاده عن محور المقاومة.
حصاد الخيبة السعودية
لا شك في أن جبهات القتال في محور المقاومة باتت مترابطة ومتشابكة أكثر من أي وقت مضى. استطاع المحور في هذه السنة إزالة الكثير من الموانع التي كانت تعيق سابقاً الإعلان عن وحدة الموقف والمصير لأعضائه، الذين أصبحوا أكثر جرأة في التعبير بوضوح عن الأهداف الواحدة والمسار المشترك. في الملف اليمني، تجلّى الأمر واضحاً في التبادل الدبلوماسي بين كل من صنعاء وطهران، واستقبال المرشد علي خامنئي وفداً يمثّل القيادة اليمنية، تلك كانت الإشارة الشديدة الدلالة على عمق العلاقة بين الجانبين وانتقالها إلى الحيّز العلني. الاتهامات الغربية، غير الرسمية، لإيران بالوقوف وراء عملية «أرامكو» خريف العام الماضي، وكذلك الإعلانات الأميركية المتكرّرة عن ضبط أسلحة نوعية إيرانية مهرّبة إلى حركة «أنصار الله» عبر البحر، أسهمت عن غير قصد، وفعلت ما عجزت عن فعله كل من طهران وصنعاء تجاه تظهير الترابط القوي بين العاصمتين، ورفعت العتب واللوم اللذين كان يلقيهما بعض النخب والمسؤولين اليمنيين، عن إيران، باتهامها بتواضع مساعدتها لليمن في تصدّيه للعدوان عليه.
ساعد أيضاً على تمتين روابط محور المقاومة، لا سيما اليمن، انتقالُ إيران من استراتيجية «النفس الطويل»، إلى استراتيجية «المقاومة الفعّالة»، التي كان الخط الفاصل فيها إسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة فوق الخليج، من دون أن تستطيع واشنطن الرد مباشرة.
لم يعد خافياً لدى دوائر القرار الإقليمي والدولي أن دول محور المقاومة وأطرافه يقومون بتوزيع الأدوار تكتيكياً والتعاون بين دول ومكوّنات المحور من منطلقات سياسية وعسكرية وأخلاقية، في إطار استراتيجي متكامل، مع إدراك من الجميع حقيقة أن قوة أيّ من أعضاء المحور وضعفه يؤثّران على العضو الآخر، بنسب متفاوتة وبصورة أو بأخرى. على أن كل ذلك لا يلغي الخصوصيات الوطنية لكل مكوّن من دول المحور.
في المقابل ، يعدّ تقدّم محور المقاومة في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن ضرورة حتمية لتراجع المملكة السعودية التي تقف على رأس المحور المواجه في الإقليم.
التقدّم الدراماتيكي اليمني في العام الخامس للحرب، ضيّق الخناق حول عنق المملكة، وهو غيّر من أولوياتها، من محاربة المحور في مناطق النفوذ الإقليمي إلى الانكفاء إلى الداخل السعودي.
تراجعت المملكة عن تحدّياتها السابقة مع طهران، وسقط تهديد وليّ عهدها محمد بن سلمان بنقل المعركة إلى الداخل الإيراني. وتراجعت أيضاً «العنتريات» كشعار «تقليم أظافر طهران في العواصم الأربع (بيروت، دمشق، بغداد، صنعاء)». والتراجع هنا لا يعني تغيير الأهداف، بل تغيير الأولويات بالنسبة إلى الرياض التي انكفأت للحفاظ على أمنها من داخل حدودها. وهي تبحث عن تسويات تضمن لها السلامة والأمن داخل المدن والمنشآت الحيوية في البلد.
التقدّم الدراماتيكي اليمني في العام الخامس ضيّق الخناق حول عنق المملكة
في الحرب التي تشنّها السعودية على اليمن، تحوّل التحدّي الموجّه نحو صنعاء إلى تهديد خطير للرياض وبقية المدن. ومع الوقت، يزداد هذا التهديد قتامة وسوداوية وأفقاً مسدوداً. لم يعد للرياض، وفق الظروف الموضوعية الراهنة، القدرة على إملاء شروطها. فالتحوّل في موازين القوى ومعادلات الردع التي رسمها العام الخامس للحرب، «عام الحسم» وفق التسمية اليمنية، مكّن صنعاء من الانتقال من الدفاع إلى الهجوم «التدريجي والتصاعدي»، ابتداءً من استعادة السيطرة على القسم الشمالي من الضالع، والسيطرة على معظم محافظة البيضاء، وإنهاء تمرّد الحجور، مروراً بعملية كتاف وادي آل جبارة، والسيطرة على فرضة نهم، وأخيراً وليس آخراً استعادة محافظة الجوف، فضلاً عن إجراء التمهيدات العسكرية لتحرير مدينة مأرب.
وعلى الصعيد الداخلي، نجاح لصنعاء في الحفاظ على وحدة الصف، التي كان أبرز معالمها نجاحها المسبق في منع اختراق قوى العدوان لجبهتها الداخلية، في نقل النموذجين اللبناني والعراقي، في العملية الأمنية المشهورة «أحبط عملهم». ولعل من أبرز معالم مرحلة التصدّي ليس الصمود بذاته، على أهمّيته الكبيرة، بل القدرة على مراكمة القوّة؛ تطوّر تقني وفني في مجالي منظومتي الصاروخي والمسيّر، فضلاً عن مراكمة التجارب. أمر جعل العام الخامس فيصلاً في عملية التحوّل. وتكمن أهمّية هذه المرحلة في أنها كشفت عجز نظام الرياض عن منع التحوّل أو حتى اكتشافه، إلا ما تعلنه القوّات المسلّحة اليمنية بنفسها. وبهذا الانتقال، نجحت صنعاء في وضع حد فاصل بين استراتيجية أعوام التصدّي والصمود و»الصبر الاستراتيجي» للانتقال إلى أعوام الحسم.
الرياض، كما هي دائماً، فوجئت بالانتقال السريع (في العام الخامس الفائت)، وأُخذت به على حين غرّة. وبعد أن كانت تمنّي النفس بقرب سقوط صنعاء، إذا بها تضطر، أمام خطورة التحدّيات، إلى استجداء الحماية المباشرة من واشنطن التي أرسلت الآلاف من جنودها ومنظومات سلاح الدفاع الجوي «باتريوت» وغيرها، مقابل مليارات الدولارات المدفوعة سلفاً. وكذلك طلبت إرسال تعزيزات عسكرية من حلفائها الاوروبيين، لكن المساعدة لم تصل سوى من اليونان التي نشرت منظومة باتريوت شرق المملكة. تجدر الاشارة إلى أن اليونان ليس لديها القدرة على العمل العسكري خارج حدودها، وتعاني من ضائقة اقتصادية، وتصنّف أوروبياً على المستوى الاقتصادي درجة رابعة وما فوق، وقد استجابت للمطلب السعودي بنشر منظومة الدفاع الجوي بدوافع مالية فقط.
متاعب الرياض مع الحلفاء
المتاعب السعودية في اليمن ليست مقتصرة على الإخفاقات الميدانية المتتالية في جبهات القتال، والتي تشكّل كابوساً ثقيلاً لها. تلاحق المملكة المتاعب في كل الاتجاهات، الخارجية والداخلية والاقتصادية. ومتاعب الأصدقاء شكّلت إزعاجاً، يزيد تأثيره مع تآكل قوّة النظام السعودي.
ابتزاز الأصدقاء مالياً يكاد لا ينتهي، وهو ليس حكراً على الرئيس الأميركي دونالد ترامب. يأتي في الدرجة الثانية، الوكلاء اليمنيون الذين راكموا ثروات مالية هائلة. والوضع ذاته بالنسبة إلى كل من مصر والسودان. أدّت الاندفاعة الهجومية التدريجية اليمنية، بالعديد من الدول المشاركة في التحالف، إلى إعادة حساباتها لـ«العودة خطوات إلى الوراء» خشية استمرار الاستنزاف والغرق في المستنقع اليمني. لكن التراجع إلى الخلف لم يرقَ إلى إعلان الانسحاب الكلّي أو الخروج من التحالف بشكل رسمي. من جهة أخرى، تعتمد هذه الدول البقاء في التحالف ضمن سياسة استرضاء النظام السعودي والاستفادة من معوناته المالية والاقتصادية.
الإمارات
لم تحسم دولة الإمارات، أو ليس لديها القدرة على حسم بقائها في الشوط الأخير من المنازلة مع اليمن، الأمر الذي أبقى اتفاق الرياض «حبراً على ورق»، معلّقاً إلى انتظار الوجهة النهائية لأبو ظبي. وإن كان ثمّة من يربط في الجانب السعودي مصير الرياض وأبو ظبي معاً، في حرب خاضاها معاً، ولا بد أن يشتركا في نتائجها، في الربح والخسارة، بالقول إننا «بدأنا الحرب معاً ونخرج منها معاً».
تقطع الرياض الطريق أمام محاولات الخروج الإماراتية المتكرّرة من الحرب. وإزاء ذلك، فإن السياسة الإماراتية حيال اليمن مربكة، ويداها العسكرية والسياسية مغلولتان. وهي أعلنت انسحابها مرّتين هذا العام. في الأولى، أعلنت أنها انتقلت من الحرب إلى استراتيجية «السلام أوّلاً». وفي الثانية، أعلنت أنها انتقلت من القتال المباشر إلى الإدارة غير المباشرة من خلال الوكلاء المحليين الذين بلغ عددهم 200 ألف مقاتل، حسب إعلانها. وفي كلتا المرّتين، كان ادعاؤها أقرب إلى إعادة الانتشار والتموضع منه إلى الانسحاب. وسبق أن أعلنت عام 2016 الانسحاب لتتراجع عنه في اليوم الثاني. حاولت الإمارات التطلّع نحو طهران في نصف استدارة للعب على النقيضين، لكنها لا تملك مساحة واسعة للمناورة بينهما، كما أن قدراتها الذاتية لا تؤهلها لمثل هكذا أدوار. ذلك فضلاً عن أن الرياض تضع حليفتها أبو ظبي دائماً أمام خيارين: الاستمرار معها في الحرب حتى نهايتها مع حفظ حصّتها من الكعكة اليمنية، بشروط بقائها تحت عباءتها، أو الخروج بخفّي حنين بلا حصّة، وبذلك ينفضح دورها في «التبعية المطلقة» للرياض في حرب عبثية استعدت فيها الشعب اليمني، وعليها أن تترقّب تبعاتها المادية والمعنوية كاملتين ثمن انصياعها للرياض على حساب اليمن.
تدرك الرياض، ويدرك معها الخصوم والأصدقاء، المحلّيين والإقليميين، أن خروج الإمارات من الحرب يعني بقاءها وحيدة في المستنقع اليمني، مع مزيد من انكشاف لقواها المتهالكة، وتعرية لما تبقى لها من هيبة. ولن يكون بمقدورها إدارة الملفات المختلفة على الصعد العسكرية والسياسية والمحلية لليمن.
صراع الوكلاء
بقي صراع الوكلاء يؤرّق الجانب السعودي ويستنزف إمكاناته وجهوده ورصيده، رغم إملائه عليهما توقيع اتفاق الرياض (بين «الشرعية» و«المجلس الانتقالي الجنوبي») باحتفالية حضرها وليّ عهد السعودية محمد بن سلمان، ووليّ عهد الإمارات محمد بن زايد.
أدارت السعودية صراع الأصدقاء في الداخل اليمني، لكنها لم تستطع أن توفّق بينهم. ووقفت عاجزة أمام نزف الدماء الدافق من عروق وكلائها في ما يسمّى «الحكومة الشرعية»، وكذلك وكلاء حليفتها، أي «الانتقالي الجنوبي»، وإن كان ثمة رأي يقول إن الرياض تتعمّد إبقاء جذوة الصراع مشتعلة للتحكّم بالطرفين معاً. على أي حال، فإن الصراع بين الجانبين واجهتُه صراع على السلطة والنفوذ بين المكوّنات المحلّية، ولكن خلفيّته الحقيقية اختلاف على تقاسم المغانم بين الطرفين المؤسّسين لما سمّي «التحالف العربي»: السعودية والإمارات. وإن كان ذلك لا يلغي الصراع السياسي المحلّي على السلطة في البلد.
أدارت السعودية صراع الأصدقاء في الداخل اليمني، لكنها لم تستطع أن توفّق بينهم
لم تسمح السعودية لأحد الطرفين بالتغلّب والسيطرة على كامل المحافظات الجنوبية. وعندما أوشكت الكفّة أن تميل لمصلحة الحكومة على غريمها «الانتقالي» تدخّلت أبو ظبي، بغضّ نظر من الرياض، من خلال طيرانها الحربي، لترسم الخريطة الجغرافية السياسية مؤقتاً بين أطراف النزاع في إطار معركة مدروسة مسبقاً بأن لا يكون غالب ومغلوب فيها. وبانتظار الحسم النهائي للدور الإماراتي بالبقاء في التحالف أو الخروج منه، استقرّت تموضعات «الأمر الواقع» على النحو الآتي: «الشرعية» (حكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي) في المحافظات الشرقية، و«الانتقالي» في المحافظات الغربية لدولة اليمن الجنوبي سابقاً.
مصر
يتجاهل العالم مشاركة مصر في التحالف. إلا أن القاهرة هي إحدى الدول المشاركة في تحالف الحرب على اليمن، من خلال قوّة بحرية تشارك مع الدول الخليجية والغربية في حصار الشعب اليمني. وهي مهمّة لم تتغيّر منذ بداية العدوان، وإن كان النظام في القاهرة يدّعي بأن مشاركته في التحالف تأتي تحت عنوان الأمن الملاحي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب. غير أن الموقف المصري يتبنّى الموقف السعودي في المحافل الدولية والإقليمية بحذافيره في ما يخصّ الشأن اليمني. وقد ارتضت الرياض هذا الحجم من المشاركة المصرية، رغم رغبتها مشاركة الأخيرة في القتال البرّي، إلا أن حسابات القاهرة الداخلية وتجربتها السابقة في اليمن حالت دون ذلك، مع العلم بأن المعونة المالية السعودية لمصر تأتي من ضمن تحالف في أكثر من ملف إقليمي، واحد منها اليمن.
السودان
خرج السودان من جبهات القتال من دون إعلان رسمي، بعدما اتخذ بداية العام الجاري قرار تقليص عدد العسكريين السودانيين في اليمن من 5 آلاف (العدد السابق 15 ألفاً سحب منهم 10 آلاف في الصيف الماضي) مبقياً على 657 جندياً، من دون أن يحدّد مهمّة الجنود المتبقّين أو أماكن تموضعهم. مصادر صنعاء تؤكد أن العدد الموجود في جبهات القتال أكبر من ذلك بكثير، وكثير من المقاتلين السودانيين ليسوا جنوداً نظاميين في القوات السودانية. إذ لا تزال القوات السودانية تنتشر في محاور نجران وجيزان وعسير والخوبة لحماية الحدود السعودية، مع انتشار تكتيكي في ميدي وغرب حرض في محافظة حجة اليمنية، وتتموضع سرايا سودانية في معسكرات ما يسمّى «قوّة الواجب» (قوّات مشتركة للتحالف) في المخا غربي تعز، ومعسكر بلحاف في شبوة، ومطار الريان في حضرموت. ومهمّة هذه السرايا حراسة عناصر وضباط قوات التحالف.
المصدر: الاخبار اللبنانية