محمد محمود مرتضى |
ما قبل عام 2000 كان تاريخ العرب لا يختلف كثيراً رغم اختلاف الأشهر، فشهر تقام فيه ذكرى النكبة، وآخر تقام فيه النكسة، وثالث تكثر فيه المجازر. ورغم النكبات والنكسات الكبرى، ثمة نكسات ونكبات كثيرة غُض الطرف عنها لأن التاريخ لا يحتملها.
هو تاريخ لم تعرف الأنظمة العربية فيه الا البكاء والعويل والنحيب. صحيح أن الدعم الغربي للكيان الاسرائيلي لعب دوراً هاماً، الا أنه لا ينبغي أن نغفل عن عوامل الضعف الداخليّة التي عاشتها المجتمعات العربيّة جراء السياسات المتعاقبة للأنظمة الحاكمة ما جعل هذه
المجتمعات جاهزة للتهاوي أمام عوامل القوّة الخارجيّة المتمثلة بالحركة الصهيونيّة وقوى الاستعمار التي ساندتها.
الواقع أن عناصر التهاوي الأهم لا تتعلق بمحدودية القدرات العسكرية بقدر ما تتعلق بانهيار المعنويات والاستسلام للتفوق الصهيوني، وعدم الثقة بالذات في امكانية تحقيق الانتصار. ورغم أن حرب اكتوبر عام 1973 لم يكتب لها النجاح لأسباب باتت معروفة، الا أنها كانت اشارة هامة الى ان هزيمة الكيان الاسرائيلي لا تحتاج الى معجزة بقدر ما تحتاج الى عزيمة، وأن كسر شوكة الصهيونية لا تحتاج الى عدة وعديد بقدر ما تحتاج الى روح قتالية وتصميم وايمان بالنصر.
وفيما كانت الأنظمة العربية تصر على مد يد بتراء للسلام كان الكيان الاسرائيلي يرد بالمزيد من الحروب وعمليات القتل، وفيما كان العرب “يتباكون” على عاصمة عربية (بيروت) سقطت عام 1982 تحت الاحتلال، كان ثمة مجموعات بدأت تتبلور أخذت على عاتقها النهوض بهذه الأمة، ورفع جلباب الذل عنها، ولم تكن الرصاصات التي أطلقت على الجنود الصهاينة في شارع الحمرا في بيروت سوى البداية.
لعل من أعظم المفارقات أنه عندما انطلقت المقاومة في لبنان، تعامل الكيان الإسرائيلي معها بشكل أكثر جدية من الانظمة العربية التي غالبا ما كانت تسعى لتسخيف الفعل المقاوم من أجل اجهاضه.
لقد ادركت المقاومة منذ اليوم الاول ان مهمتها ليست سهلة، وانها ستكون في مواجهة الحكام العرب قبل ان تكون في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وان مهمتها الاساس تكمن في بناء روح مقاومة، وزرع بذرة القدرة على الانتصار، وان التعبئة المعنوية أهم من التدريب العسكري، وان استخراج القدرات الكامنة عند الشباب هو التحدي الاكبر في ظل محيط عربي غارق في الاستسلام والاحباط. وان الصراع الاكبر مع العدو سيكون صراع العقول والمعنويات، وان النصر يحتاح الى صبر وتضحيات ولن يكون بمتناول اليد خلال اشهر.
وهكذا انطلقت المقاومة بعزم وحماس. لم تهن ولم تضعف، الى أن حققت النصر، ودحرت الاحتلال عن الاراضي اللبنانية. كان تحرير لبنان أمرا فريدا من نوعه في تاريخ الصراع، فقد كان انسحابا تحت النار، ولم يكن بوثيقة يقدم الاسرائيلي نفسه بها على انه يقدم الارض كمكرمة.
ورغم ان هزيمة التحرير كانت مدوية في الكيان الاسرائيلي، الا ان وقعها على العرب لم يكن اقل دوياً.
في الخامس والعشرين من عام 2000 كان تحرير جنوب لبنان، لكن الأهم من تحرير الأرض انه حرر الشعوب العربية من اوهام التفوق الاسرائيلي. وليس مصادفة ان يكون التحرير في شهر آيار وهو الشهر الذي يتذكره العرب، لا سيما الخامس عشر منه على انه يوم النكبة، وكأن القدر اراد ان يقول أن النكبة الكبرى ليست في احتلال ارض فلسطين بقدر ما هي في احتلال نفوس العرب. وان النكبة ليست في سقوط فلسطين بقدر ما هي في سقوط الروح المقاومة، وان النكبة ليست في اعلان “اسرئيل” “دولتها” بقدر ما هي في اعلان العرب لهزيمتهم.
لقد أراد القدر محو أيار بوصفه شهر النكبة ليحل محله أيار المقاومة والانتصار. لقد حرر أيار الأرض وحرر عقول أجيال من الشبان الذين آمنوا أن فعل المقاومة وحده يستطيع محو كل أشهر النكبات والنكسات. وأن طريق المقاومة هو طريق العزة والكرامة والنصر المؤكد.
العهد الاخباري