ظلت القدس عربية حتى سنة 1929، حين نظم المتطرفون اليهود مظاهرة كبيرة في شوارع القدس، واقتربوا من حائط البراق، وهناك رفعوا العلم الصهيوني، وأخذوا ينشدون النشيد القومي الصهيوني (هاتكفا -الأمل)، وشتموا المسلمين، وطالبوا باستعادة ما يسمونه (حائط المبكى) زاعمين أنه الجدار الباقي من هيكل سليمان.
وفي اليوم التالي خرج المصلون المسلمون بعد صلاة الجمعة في مظاهرة ضمت الآلاف من أهالي القدس والقرى المجاورة، واتجهوا نحو حائط البراق، وحطموا منضدة لليهود كانت موضوعة فوق الرصيف، وأحرقوا بعض الأوراق المدسوسة في ثقوب حائط البراق، وحين حاول اليهود الاحتشاد بعد ذلك، تصدى لهم العرب الفلسطينيون، ودارت الاشتباكات بين الطرفين فيما عرف بعد ذلك بثورة البراق؛ التي امتدت إلى كل المدن والقرى والفلسطينية، وأسفرت عن مقتل 133 يهودياً، وارتقاء 116 عربياً.
جاء رفض العرب المسلمين لوجود منضدة صغيرة قرب حائط البراق دليلاً على إدراك العرب بالغريزة والإيمان أن وراء هذا الوجود الشكلي مخططًا بعيدَ المدى، يهدف إلى تدمير المسجد الأقصى، وإقامة ما يسمونه جبل الهيكل، لقد اقتصرت أطماع اليهود في ذلك الوقت على الوصول إلى حائط البراق، وأن يقتربوا منه، وأن يلامسوه بأيديهم، وهذا ما لم يتحقق لهم إلا بعد أن هزموا الجيوش العربية سنة 1967، واحتلوا القدس كلها، لتتم إزالة حي المغاربة بسكانه العرب عن الوجود، وتسويته بالأرض، وتبليط المكان بالحجارة، وإطلاق اسم (ساحة المبكي) على المكان الذي كان سكناً للفلسطينيين المغاربة، وأطلقوا اسم (حائط المبكي) على الحائط الذي حمل اسم حائط البراق لمئات السنين.
التدرج الإسرائيلي في تحقيق الأهداف يشير إلى أن هجمة المتطرفين اليهود على المسجد الأقصى ليست إعلامية، ولا هي مناورات سياسية، إنها هجمة عقائدية، دينية، لها أهدافها بعيدة المرمى، وهذه رسالة إلى كل العرب والمسلمين، رسالة تفضح أطماع المتطرفين اليهود في تدمير المسجد الأقصى، كما دمروا سابقاً حارة المغاربة، فلا شيء اسمه المسجد الأقصى لدى المتطرفين اليهود، فهاذ المكان المقدس يسمونه “هار هبيت” ومعناها “جبل الهيكل” الذي تلتقي تحت قبته كل أطماع اليهود في السيطرة على القدس، وسيتم ذلك بالتدرج والتدحرج من التقاسم المكاني والزماني إلى السيطرة الكلية على المكان.
المجموعات اليهودية المتطرفة التي احتشدت في القدس لإحياء ذكرى دمار الهيكل سنة 1929 هي نفسها التي ستحتشد، الاثنين 10/5/2021 لإحياء يوم القدس بأكثر من مئة ألف يهودي، منهم عضو الكنيست والحاخام والمبايع لعقيدتهم، وجميعهم مقتنع أن لا حق للمسلمين بالصلاة في المكان، وأن هذا المكان هو قدس الأقداس بالنسبة لليهود، وأن دينهم لا يصح إلا إذا مارسوا العبادة في “هار بيت” أي تحت قبة المسجد الأقصى بعد تدميره، لذك فالحشود التي يعد لها اليهود هي حشود جدية، ولها أهدافها الكبيرة والبعيدة، والتي ترسم معالم مرحلة من السيطرة على المقدسات الإسلامية والمسيحية.
المواجهة لهذا المخطط الصهيوني يجب ألا تقتصر على المقدسيين، فالقدس هي قلب الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة وفلسطينيي الـ48، والقدس نقطة التلاقي، وقد أكد ذلك فلسطينيو الـ48، الذين هبوا بكل طاقتهم للدفاع عن القدس، وكان حضورهم لافتاً، لأن فلسطينيي غزة لا يسمح لهم بالوصول إلى القدس، ولا يسمح لفلسطينيي الضفة بدخول القدس إلا بتصريح.
معركة القدس أوسع مدى من الجغرافيا، معركة القدس هي معركة تاريخية عقائدية، تحتم على كل مسلم وعربي وفلسطيني أن يقف سداً منيعاً في وجه أطماع المتطرفين اليهود، إنهم يحتشدون لجس النبض، فإن صار التراخي، ونجح الصهاينة في دخول المسجد الأقصى، وإقامة طقوسهم، فذلك يعني أن الضفة الغربية قد حسمت كلها أرضاً يهودية، على طريق إقامة إسرائيل الكبرى، الحلم الذي يراود خيال كل متطرف يهودي.
(رأي اليوم)