منذ عقود, تواجه الولايات المتحدة عقدة الصعود الصيني الهائل, وتخشى ذاك اليوم الذي ستتربع فيه على العرش الدولي, وقد تسبب ذلك بدفع الولايات المتحدة لإتباع سياسةٍ عدائية تجاهها, أدت إلى رفع مستمر لمستوى التوتر بين البلدين.
وفي السنوات والفترات الماضية, أظهرت الولايات المتحدة كل ما في جعبتها تجاه الصين, وإعتبرتها “المنافس الرئيسي” و”العدو الإستراتيجي”, ومصدر الخطر والتهديد الأمريكي, كما اعتبرتها مسؤولة عن فيروس كورونا, والذي دعاه ترامب بـ “الكورونا الصيني” , كما أرّق مضجعها التطور العلمي والتكنولوجي والإقتصادي والتجاري وحتى العسكري الصيني, ناهيك عن تمدد نفوذها في محيطها وحول العالم، من خلال خطى ثابتة أكدت فيه بكين حضورها كقوة عظمى قادرة على قيادة العالم.
ولأجل ذلك, خاضت معها حرباً تجارية, وحرب العقوبات الإقتصادية, وحاولت ولا زالت تحاول قطع طريق الحرير التاريخي, ونسف مشروع الحزام والطريق, ولم تتوان عن المس بأمنها القومي بشكلٍ مباشر عبر بدعم حكومة تايوان, وبأشكالٍ أخرى تمثلت بالإنسحاب من أفغانستان, وبمد يد العبث نحو التيبت وتركستان الشرقية ومنغوليا, وبرعاية الجماعات المسلحة من بلوشستان الباكستانية إلى ميانمار، وجزر سليمان في المحيط الهادئ, لمهاجمة الدبلوماسيين الصينيين والمواطنين ومشاريع البنية التحتية والشركات الصينية, كذلك بشن الحروب على أهم حلفاء الصين كروسيا وإيران وسورية, ولم تتوقف عند حدود التطاول على الحزب الشيوعي الصيني, ورمزه الكبير الرئيس شي جين بينغ ووصفه مراراً بالدكتاتور …
ومع ذلك تدرك واشنطن أن انتهاجها سياسة العداء والكراهية تجاه الصين, ستأتي بنتائج مدمرة على الولايات المتحدة, بالإضافة إلى أن اصطفافها إلى جانب أي طرف تحاربه الولايات المتحدة سيعقد المشكلة وسيجعل إمكانية إنتصار واشنطن مجرد حلم, وهذا بحد ذاته شكل جوهر قلقها ومخاوفها وانزعاجها في الحرب الدائرة حالياً مع روسيا في أوكرانيا, وفي وقتٍ باتت تخشى فيه مواجهة كلا الحليفين الروسي والصيني عسكرياً , كان لا بد لها من إبعاد الصين, والإتجاه نحو احتوائها ظاهرياً, وتخفيف التوتر معها على كافة الصعد.
وكما رأينا مؤخراً, فقد أثمرت عوامل القوة الصينية, ومنحتها ازدياداً واضحاً لمكانتها ووزنها الإقليمي والدولي خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط , تُرجم من خلال نجاح الوساطة الصينية وإبرام الاتفاق ما بين إيران والسعودية, في وقتٍ لم تنفك فيه الولايات المتحدة عن تشويه سمعتها, وبمضاعفة لائحة إتهاماتها, بتهمة غريبة, زعمت من خلالها إقامة بكين قاعدة تنصت في كوبا لجمع المعلومات عن أميركا, في الوقت الذي تبدو فيه الصين أكثر إصراراً على ضرورة ووجوب “وقف التدخل الأميركي في شؤونها الداخلية” وبمطالبة واشنطن “بالكف عن الإضرار بمصالح الصين تحت اسم المنافسة”.
وعلى الرغم من قصة المنطاد, واتهام بكين بالتجسس, وبتزويد موسكو بالسلاح لموآزرتها في حربها في أوكرانيا, اتجه وزير الخارجية انتوني بلينكن في حزيران الماضي إلى بكين, في زيارةٍ تم الإعلان عن أهدافها بشكل مسبق, لتفادي خطرالإنزلاق إلى احتكاك، وربما مواجهة عسكرية كثر الحديث والتوقعات عنها في واشنطن, ومع ذلك استقبلته الصين كضيفٍ عادي, وسط توقعاتها بتنازلاتٍ أمريكية يحملها الوزير بلينكن, وقد تشمل رفع بعض العقوبات.
لكن زيارة بلينكن لم تُحدث أي اختراق, في جدار العلاقات المتأزمة أصلاً, رغم مزاعمه بأنها “لإصلاح العلاقات الصينية – الأمريكية الممزقة”, ولم تحمل الأخبار السارة لمن أرسله وإلى مستقبليه ..
ويطرح السؤال نفسه, هل أخطأ الوزير بلينكن وانحرف عن جوهر زيارته وأهدافها المعلنة, أم أنه كُلف بتخريب أيّ تحسن في العلاقات الأمريكية الصينية ؟ ونال الثناء وإشادة الرئيس بايدن بقوله: “لقد قام بعمل رائع خلال الزيارة”, على الرغم من إعلانه من الصين أن بلاده لا تدعم استقلال تايوان, لكنها وبموجب القانون الأمريكي للعلاقات مع تايوان, عليها “التأكد من أن تايوان لديها القدرة على الدفاع عن نفسها”، وبذلك كان بلينكن واضحاً لجهة استمرار بلاده بتحدي السيادة الصينية, وبتسليح تايوان دون طلب موافقة بكين.
وبمجمل اللقاء, تمسك كل جانب فيما يبدو بموقفه إزاء كل الملفات بدءاً من تايوان إلى التجارة، بما في ذلك الإجراءات الأميركية التي تستهدف صناعة الرقائق الصينية، وحقوق الإنسان والحرب الروسية الأوكرانية, كذلك تمسكت الصين برفضها العرض الأمريكي لإستئناف قنوات الإتصال العسكري, مع استمرار العقوبات الأميركية وبأنها تشكل العقبة الرئيسية أمام هذه الخطوة.
في وقتٍ تعمد فيه الرئيس بايدن بعد انتهاء الزيارة, ومن خلال خطاب تم بثه عبر الموقع الرسمي للبيت الأبيض, تكرار وصفه الرئيس الصيني بالديكتاتور… وهذا يدفعنا لسؤالٍ اّخر, لماذا تتعمد إدارة بايدن تخريب أي تحسن ممكن في العلاقات الأمريكية الصينية ؟.
لم تمض سوى عدة أيام على زيارة بلينكن, حتى وصلت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى بكين, وهي المسؤولة عن تحديد وفرض العقوبات, لتعويض فشل وزير الخارجية, وللإلتفاف والعودة, في إطار ما دعي في البيت الأبيض, بـ “خطة الرئيس بايدن” لدفع العلاقات بين واشنطن وبكين وتخفيف التوتر.
هذا التحول المفاجئ في الموقف الأمريكي, يبدو مرتبطاً بمجمل المعادلة الدولية, ومجمل الهزائم الأمريكية, وتحديداً مع فشل الهجوم المضاد في أوكرانيا, وحاجة الولايات المتحدة الماسة إلى تحييد أو إبعاد الصين, مع اندفاعها نحو المزيد من التصعيد الخطير, وتسليح قوات كييف بالأسلحة الفتاكة والعنقودية منها تحديداً, وكلام بايدن عن ضرورة توريدها إلى القوات الأوكرانية “وإلاّ سيُهزمون”, هل تحاول واشنطن نقل الحرب إلى مستوى قتل البشر بشكل جماعي, هل هو هدفها الحالي, والذي يسبق لجوؤها إلى استخدام الأسلحة النووية ؟
وهذا بطبيعة الحاال يُحتم على واشنطن استغلال الأوضاع الراهنة, وحالة الصين التي لم تحرك قواتها العسكرية بشكلٍ فعلي بإتجاه تايوان حتى الاّن, وروسيا التي لا تزال منخرطة في الحرب على أوكرانيا, وفي الدفاع عن أمنها وأراضيها واقتصادها ومصالحها, وعليه تعتقد واشنطن أنها بصدد فرصة نادرة لإبعاد بكين عن موسكو, حتى لو كان الثمن كثيرٌ من المرواغة وقليل من الوفاء – كعادتها-, ورفع بضعة عقوبات عن بكين …
هل تبدو الولايات المتحدة جادة وصادقة ومستعدة لتغييرعلاقاتها مع الصين, ونقلها إلى سياق العلاقات الدولية الصحية والصحيحة, وهل تغامر واشنطن بسلوكها واستراتيجيتها وبتاريخها الأسود, وتتحول إلى دولة إيجابية ذات قيم حقيقية, وتكون قادرة عن الخلي عن لعب دور شرطي العالم الشرير؟.
من الواضح أن زيارة يليلن اختلفت كثيراً عن زيارة بلينكن, وقد كشف رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، عن تحسن محتمل في العلاقات المتوترة بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية, وعبّر بدبلوماسية ولباقةٍ عاليتين عن لقائه مع الوزيرة الأمريكية, وتحدث عن بزوغ “قوس قزح ما بعد الرياح والعواصف”, في إشارةٍ واضحة إلى نجاح اللقاء, وإتجاه العلاقات الصينية الأمريكية نحو التحسن, بدورها دعت يلين إلى إرساء مبدأ “المنافسة السليمة” مع الصين، معربة عن أملها في تجنب الخلافات التي تؤدي إلى توتر العلاقات, وأكدت للسيد لي أن بلادها ” تُخطط لمنافسة اقتصادية سليمة”, وتبحث عن تعزيز التواصل بين البلدين والعمل من أجل “علاقة مستقرة وبناءة”.
كان لا بد لإدارة بايدن من تكليف وزيرة الخزانة بهذه المهمة, لإظهار الجدية الأمريكية من جهة, ولإعطاء الزيارة الأمل بنجاح المسعى الأمريكي, وهذا ما كان ينقص وزير الخارجية الذي وقف في بكين وهو لا يملك القدرة على مناقشة تخفيف حالة العداء, وخصوصاً وأن بلاده أحاطت الصين ومولت برامج وعملاء وخطط تكفي وتتكفل بزعزعة استقرار الصين, ناهيك عن الحشود العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتوسيع وجودها العسكري في الفلبين, وكذلك توسيع أنشطتها الموجهة ضد الصين من خلال تحالفها الرباعي مع الهند واليابان وأستراليا, والثلاثي مع استراليا والمملكة المتحدة (أوكوس).
من الصعب على بكين أن تنزلق في ألاعيب إدارة بايدن, خصوصاً وأنها تدرك بأن الولايات المتحدة سعت لعقود لمنافسة الصين وبلورة عدائها وترجمته أعمالاً عدائية وتهديدات وعقوبات وإشارات مستقبلية عن المواجهة المباشرة في عام 2025, ومع ذلك تبدو بكين على قدرٍ كبير من الحكمة والعقلانية, لإحتواء واشنطن وليس العكس.
ستكشف الأيام القادمة عن حقيقة النوايا الأمريكية, ومسار “الرياح العواصف”, التي تحدث عنها رئيس الوزراء الصيني، والتي بزغ منها “قوس قزح” ليمتد من واشنطن إلى بكين, على أمل أن يتحول شعاع سلامٍ دافئ يزيح غيوم الحروب, ويفضي إلى تحسن العلاقات الأمريكية مع كافة أعدائها وخصومها الكثر حول العالم
الوسومالحرب التجارية ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
الاقتصاد العالمي والسياسة الاقتصادية الترامبية…بقلم أ.د. حيان أحمد سلمان
تشهد الأسواق العالمية حالياً حالة عدم اليقين بعد انتخاب المرشح الأمريكي دونالد ترامب لرئاسة أمريكا …