هو من طينة القادة العسكريين القلائل، الذين هجروا مكاتبهم، ليس عزوفا عن اداء واجب الاشراف والتسيير، ولا تقليلا من قيمة مكاتب القادة العسكريين، في دورها الإداري والتنظيمي واعمال التخطيط واعطاء الأوامر منها، فتلك تكاليف لا تغيب عن الشهيد اللواء قاسم سليماني، وإنما حسب ما عرف من سيرته أنه كان مكتبه ميدان القتال، وساحة المعركة، وغرفة العمليات، بل أكثر من ذلك، فقد شوهد مرارا وتكرارا، على خطوط النّار الأولى، وسواتر التّماس مع الاعداء.
قائد العمليات الممهدة لتحرير القدس، لم يستقر له قرار، منذ أن عهدت اليه مهمة الاشراف على فيلق القدس، في حركة دؤوبة لم تنقطع، فتارة تراه في صلاح الدين العراقية، خلال استعادة تكريت من داعش، وتارة تراه في البوكمال، آخر معاقل داعش في سوريا، ومرة يكشف أنه كان برفقة السيد حسن نصر الله، والشهيد عماد مغنية في الضاحية الجنوبية، خلال حرب تموز، وأخرى يجتمع بالقيادات الفلسطينية في لبنان،(1) فحيثما مر سليماني، رسّخ الانتصار وترك بصمة عزّ ولمسة إباء.
كانت ابتسامته على وجهه المشعّ نورا، دليلا على قناعته بما يفعل، ورضاه بما أوكل اليه من مهام الجسيمة، دون أن يعترض على شيء منها، وهي جميعها تصبّ في إطار وهدف واحد، نذر نفسه لخدمته بكل طواعية وحب، وهو تحرير فلسطين، وكانت نظرة قائد الثورة الاسلامية اليه، بعدما رفع اليه تقارير إيجابية بشأنه، صائبة وموفقة في تعيينه على رأس قوة فيلق القدس.
قيمة اللواء الشهيد سليماني ظهرت، من خلال نجاحاته التي حققها، بفضل ايمانه العميق، بأنه يسير ويتحرك موَفّقا، في ظل ولاية الفقيه العادل، وأنّ الله سبحانه قد منحه فرصة هذه الخدمة، ليبرهن فيها على مدى وفائه لنهجه، الذي اختاره عن قناعة تامة، كان قليل الكلام بحيث أنه تجنب طوال حياته أن يكون تحت أضواء الإعلام، حفاظا على سرّية عمله، الذي يتطلب تمام السرية، ومع ذلك ظهر اسمه، وكان محلّ اهتمام وسائل الاعلام العالمية، وأجهزة الاستخبارات الغربية والصهيونية على حدّ سواء، متلهّفين للحصول على معلومة بشأنه.
هو القائد الذي أسهم بشكل فعال ودون منازع، في القضاء على داعش، ولولا وجوده الفاعل والعملي في مقاومتها، لتحوّلت إلى كيان كبير تصعب ازالته، بعد تمدده في كل سوريا والعراق، وعوض أن يكافأ عالميا، بأن يدعى مكافح الإرهاب التكفيري، والقاضي الفعلي على داعش، صنفته الخزانة الامريكية لإرهابيا، استجابة لهوى الكيان الصهيوني، وتبعها الاتحاد الأوروبي على ذلك، مع أن اللواء الشهيد حقق بجهوده، في مواجهته المباشرة الشرسة لقوى الارهاب التكفيري، على ميادين القتال في سوريا والعراق، ما لم تحققه قوى التحالف الدولي مجتمعة.
وتقديرا لتلك الجهود الجبّارة، منحه قائد الثورة الاسلامية الإمام الخامنئي داو ظله، وسام (ذو الفقار)، وهو أعلى وسام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي المرّة الأولى التي يمنح فيها هذا الوسام،(2) وهذا أكبر دليل، على أنّ ما قدّمه اللواء الشهيد قاسم سليماني، يستحق بجدارة أن ينال شخصه هذا الشّرف .
شعبية الشهيد داخل إيران وخارجها كبيرة، وتعلُّقُ اسمه بالقدس، يعتبر بابا ومجازا آخر، لحب جماهير المقاومة له، بقطع النظر عن أي صفة أخرى عقائدية، فمن أحبّه أحرار فنزويلا، وكوبا، وبوليفيا، وبقية احرار العالم، كيف لا يحبه أهل الاسلام والولاية، لما قدّمه من جهود جبارة، من أجل خدمة قضاياهم، وفي مقدمتها قضية تحرير فلسطين.
مقابل هذا الحب الذي أكنّته له قلوب أحرار العالم، بغضته قلوب أخرى مستكبري العالم وصهاينته وعملاءهم، فقد وضعت إدارة ترامب الامريكية اسمه على قائمة الارهاب في سنة 2019، تبريرا منها لإمكانية تصفيته، واعتبره الكيان الصهيوني الشخصية الاخطر على وجودها، ووضعته على رأس قائمتها للاغتيالات، بالإضافة الى الشهيد أبو العطا، والسيد حسن نصر الله، وقد تم إحباط مخطط عربي عبري، لاغتيال سليماني في أكتوبر الماضي (2019).()
القائد الشهيد، لم تحد بوصلته عن القدس يوماً، ولطالما أعلن في تحدٍّ لواشنطن وحلفائها، أن نزع سلاح المقاومة وَهْمٌ لن يتحقق، وأعرب في أكثر من مناسبة، عن أمنيته أن يتوفاه الله شهيداً مقاوماً، وكان له ما تمنى، حين اغتالته الولايات المتحدة فجر اليوم 3/1/2019 (3)
في ليلة جمعة مباركة ارتفعت روحه الطاهرة، يراها كل مؤمن بقيمة الشهيد سليماني، تسابق الملائكة في عروجها الى الملكوت الأعلى، متلهّفة محلّها راضية مرضيّة، وفي المقابل حزن المؤمنون في إيران وفي سائر البلدان الاسلامية على فقده، وتعبيرا منهم على الوفاء لروحه الطاهرة، خرجوا بالملايين في إيران والعراق لتوديعه، وأبّنوه بما هو أهل له من الامتنان والشكر والاعتراف بفضله، وقد قدر لتشييع جثمانه أن يكون من حيث ضخامة أعداد الجماهير، المليونية الثانية بعد تشييع الامام الخميني رضوان الله عليه(4).
رجلين بكاهما بحرقة القائد الإمام الخامنئي، وهو يصلي عليهما صلاة الجنازة، القائدين الشهيدين أبو مهدي المهندس، واللواء قاسم سليماني، وحزن عليهما أنصار الولاية ومحور المقاومة، فأبّنوهما بما هما أهله من العطاء الغزير، الذي قدّماه طوال فترة تكليفهما الطوعيّ بمهام محاربة الإرهاب الوهابي التكفيري، جدير بأن يتذكرهما المؤمنون، ويترحمون عليهما، خصوصا أولئك الذين أسهما في إنقاذهم وتخليصهم من أذى وخطر ووحشية داعش، وكل مسلم يأبى بأن يكون مطيّة لأعداء الله، وباطلهم الذي يروّجونه لإطفاء نور الله، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره)(5)، بالشهيد قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وأمثالهما وإن قلّوا، لكنهم واقعا سيكثرون في المستقبل رغم أنوف الأعداء.
نعم نحن مقبلون على المعركة الكبرى في مواجهة الإستكبار والصهيونية، وهذا زمن الإعداد لها كما ينبغي، وقد شمّر المؤمنون على سواعد الجد، وأعدّوا العدة لذلك، فطوبى لمن وعى بتكليفه، وكان من هذه الجهود وحركاتها وقواها لصيقا مناصرا، باذلا من أجل نجاحها مهجته، وطوبى لمن لبّى نداء التمهيد الحقيقي، فحتما سيدرك الفتح المبين، وتناله عاقبة المتقين، ونعم أجر العاملين.
المراجع
1 – المسيرة الجهادية للشهيد قاسم سليمانيalthawrah.ye/archives/607713
2 – خلال منحه اللواء سليماني وسام “ذوالفقار” قائد الثورة: الجهاد في سبيل الله لا يمكن تعويضه بالمكافآت الدنيويةalwelayah.net/post/39503
3 – الجنرال قاسم سليماني … الذي تمنى أن يتوفاه الله” شهيدا مقاوما tansikeya.com/2020/01/03
4 – طهران تودع سليماني بأكبر جنازة منذ تشييع الخميني arabic.rt.com/world/1074079
5 – سورة التوبة الآية 32