قديما في زمن الشباب، وتحديدا في مدينة قابس، كنا نرى في حركة الاتجاه الاسلامي، باعث أمل وصلاح للمجتمع والبلاد، من جهة الغيرة على الدين، الذي أصبح في تلك الفترة، مجرد طقوس تقام هنا وهناك، مقيدة في المساجد، وحتى في موسم الحج والعمرة، تتصرف فيها الأنظمة العربية والاسلامية، على هوى أسيادها في الغرب، دينا مكيفا على ذلك المبدأ، فاقدا لدوره الاساس في قيادة المجتمعات المؤمنة به، وفق أحكامه الالهية، محروما من دوره التشريعي، في إقامة ميزان العدل، ونشر قيم القران السمحة، وتطبيقاتها النبوية بين أفراد المجتمع.
هذا التبني السلطوي للاسلام، جعل انظمة الحكم العربية المتعاقبة، تتخلى فيه تدريجيا عن أحكام الاسلام، نزولا عند هوى المستعمرين وعملائهم، الذين استهدفوا خلال فترات هيمنتهم علينا، جوهر عقائد وصفوة احكام ديننا، ليحرمونا من ادبياتها، ومنافعها الجمة، تمكنهم بعد ذلك من السيطرة علينا، وابقاء شعوبنا تحت رحمتهم، وهدفهم ابقاء بلداننا أسواقا مفتوحة لمصانعهم ومنتجاتها، ومواصلة استعمارنا ثقافيا، بحيث نتخلى وقف برامجهم الغير معلنة عن ثقافتنا الاسلامية، نعيش بها كمجتمعات هجينة لا هي من الغرب فيقبلها، ولا هي من الاسلام فيعتبرها منه.
في تلك الاثناء كنا نعبر عن النظام البورقيبي، ومن بعده نظام بن علي، بانهما انظمة طاغوت، فلا تعريف ينطبق على اي نظام يدعي انه مسلم، ولا يعمل بأحكام الله، وطبيعي ان يوصف بورقيبة وبن علي بالطاغيتين، على ذلك الاساس، مضافا الى كونهما عميلين للغرب، بكل ما في الصفة من معنى، وتأتي المفاجأة من الشيخ وحركته بتغيير صفة بورقيبة ليصبح زعيما، ويعاد تركيز تمثاله من جديدـ ولولا تساهل الحركة في ذلك، لما عاد التمثال، ولا وجد رموز النظام السابق أحد على الساحة السياسية، فقد خنقوا الثورة بالقضاء على استكمال اهدافها، وقضوا على صلب غايتها.
ان اكبر مفاجأة قامت بها الحركة، تمثلت في تخليها الطوعي عن اهدافها الاسلامية، كإقامة حكم الله وتنصلها من تاريخ مقاومتها وان كان صغيرا، بل والتنازل عن حق افرادها في معاقبة الذين أجرموا بحقهم، بل والتخلي عن الصبغة الاسلامية للحركة وتحولها الى حزب مدني بحت.
حينها كان عموم المنتسبين يتصرفون بينهم بصدق ومحبة واخلاص، فلم يكن هتاك ما يدعو الى الريبة في صدق النية وحسن التوجه والاختيار سوى بعض الحالات التي طرأت في تلك السنوات بانسحاب عدد من المنتسبين بذرائع مختلفة من القيادة الى القاعدة، لعل اهمها وهو المتعلق بمقالي هذا هو اختلاف في وجهات النظر اضطرت الدكتور احميدة النيفر مثلا الى مغادرة الحركة، وقد عرفته عن قرب خلوق ومتواضع ومتسامح جدا، مما أشر الى ان هناك استبداد بالرأي تفاقمت حاله قي شخص الشيخ راشد لم يجد لها رفاقه في الحركة حلا سوى بالانسحاب منها وترك دارها على حال السمع والطاعة المطلقة له .
وتتالت الانسحابات، وتعمد تجاهل اسبابها بعامل الاستهانة بها، والانحياز الاعمى للشيخ مقابلها، وتواصل ذلك حتى في المهجر، وترسخت عقلية من يجرؤ على معارضة الشيخ في افكاره، امثال صالح كركر والحبيب ريحان، حتى على سبيل النصح، يؤخذ على انه معارضة وتحد لآراء وافكار الشيخ، فلا اعتراض على ما يقوم به، حتى لو كان مخالفا للقوانين الداخلية للحركة، كلقائه مع شخصيات من النظام البائد، وعبر زبير الشهودي مدير مكتب الشيخ عن معارضته لها، مما تسبب في اقالته في نفس اليوم، بعد تصريحه الإعلامي، وغير بعيد عن هذا، الاساءة التي تعرض لها الشيخ عبد الفتاح مورو، بزجه في انتخابات رئاسية غير محسوبة كما يجب، وكان من باب اولى ان لا يُغَامَر به، ويبقى في اطار الترشح للبرلمان، الشيخ عبد الفتاح فهم بعد فوات الأوان، وفهمنا قبله (تكتكة) الشيخ، ان القصد من زجه في تلك المنافسة، فقط استبعاده من الانتخابات البرلمانية، ليخلو وجه رئاستها لرفيق دربه، ورفيق دربه يدرك جيدا انه لو ترشح للرئاسية، فلن يحصل على اكثر مما حصل عليه الشيخ عبد الفتاح، مغامرة دفع ثمنها غاليا بانسحابه النهائي من مجال العمل السياسي.
لكن الذي يعد مخاتلة بحق، نفي كون الحركة لا تزال مرتبطة بالتنظيم العالمي للاخوان المسلمين، ومواقفها المتشددة من الدولة السورية، كشفت عن ذلك الانتماء، خصوصا بعد ارتفاع رايات الارهاب التكفيري هناك (داعش والنصرة)، وغيرها من فلول مجاميعه البائسة، ورغم كل ما ظهر لا تزال الحركة مصرّة على موقفها مما يجري في سوريا، وتعمل على تنفيذه كموقف رسمي، تعمل جهدها للحيلولة دون اعادة العلاقات مع الدولة السورية وهذا موقف اخواني عالمي، يشتركون فيه مع امريكا والصهاينة والغرب وعملاؤهم.
في زمن الترويكا السيئة الذكر، اوصلت الحركة معتوها الى الحكم، من أجل أن يقدم بوقاحة متناهية على طرد السفير السوري، ويأمر بغلق سقارة بلاده في العاصمة، واستضافة مؤتمر اصدقاء الارهاب الاول، الذي لم يترك شيئا من مكاسب الشعب السوري الا ودمرها، وكان الشيخ راشد وحركته من ضمن المساهمين في ذلك بكل تأكيد، مساهمات فعلية، سيكشف عنها الزمن ورجاله الذين يسعون بكل جد، من اجل كشف ملابساتها، باعادة العلاقات مع الدولة السورية، ويستميت الشيخ وحركته في تاخيرها الى ابعد مدى ممكن، فما اقترف بحق تونس وسوريا على حد سواء، تؤكده الابحاث والتحقيقات التي خضع لها أسرى تونسيون، تورطوا في ارهاب عابر للقارات تحت عتوان الجهاد، وزمن كشف هذه الملفات مرتهن بحكومة وطنية، لا تخضع لهوى حزب، يريد ان يفرض منطقه وارادته على سياسة البلاد، تعاطفا مع تنظيم اخواني مفلس قديما وحديثا.
كل ما نريده اليوم هو أن تتحلى حركة النهضة قيادة وقاعدة بشيء من المنطق والواقع، فيكفوا عن حملات تشويه الرئيس قيس سعيد وقراراته التي يتحمل مسؤوليتها هو وحده، هستيريا الغضب التي ترتفع حُمّاها كلما صدر موقف أو أمر أو تصريح مناقض لرأي الحركة، فكفى تجاوزا للقانون، فإن ذلك سيعود بالضرر على الحركة نفسها بتضاؤل شعبيتها، الى الحد الذي سيجعلها تعود الى حجمها الطبيعي في الانتخابات القادمة، اللهم الا اذا اشترت ذمم ضعفاء الشعب بالدنانير، وهذا ممكن اذا تكرمت قطر وتركيا بالصرف على حملتها الانتخابية القادمة، وهذا تنبيه للساهرين على انجاح الانتخابات بأن يأخذوا هذا الأمر بعين الاعتبار، وعلى مقاطعي الانتخابات من المواطنين، ان يراجعوا حساباتهم في مواجهة تغول النهضة الفارغ، عندها فقط سوف تظهر الحقيقة، ويلقم الحجر من قذفه.