إعداد أ. د. عادل بِالْكَحْلة (باحث أنثروبولوجي، رئيس جمعية زهرة المدائن التراثية_البيئية)
تمهيد: تراث مادي محليّ أمام عدم مبالاة ثقافة محلية مِطواعية:
تعودُ الساعة إلى سنة 1192ه/1778_1779م. وتَكْمُنُ أهميتها أساسًا في أنها لم تَكُنْ مَعْرُوفة قبل اكتشافها، فلم تَكُنْ مُدْرجة ضمن الساعات الشمسية التي ضَبَطها المعهد الوطني للتراث بتونس، قبل سنة 2015؛ وفي أنها الساعة الشمسية الإسلامية الحداثية، بمُفْرَدها.
وتعكس قصة اكتشافها وتثمينها سيرورة اغتراب التراث المادي في سياق الاغتراب الاجتماعي والثقافي الراهن الذي تعيشه بلدة خاضعة منذ عقود لرأس مالٍ كمبرادوري، تابع لقانون 1972 خاصة، ولثقافة سياسية إخلادية ومِطواعية[2].
حداثية أهل طبلبة المعاصرين، بتأثير من رأس المال الاقتراضي من الدولة والكمبرادوريِّ، هي حداثية قطيعية مع التراث المادي. فرغم المليارات التي أُنْفِقَتْ على بناء جوامع جديدة مُبذِّرة[3]، لا نجد ما يوازيها من ملايين _بالأقل_ لترميم مقام عبد العزيز بن عياش (أهم معلم تراثي بالبلدة، جُدّد بأمر من علي باي الأول على شكل مدارس مدينة تونس)، ولا لترميم دار عياش البكوش(أول دار تبنى بالبلدة، بالقرن الرابع عشر الميلادي، وهي مهدّدة بالسقوط)…
وهاهي الساعة الشمسية بالجامع الكبير(الذي بُني بالقرن الرابع عشر الميلادي مع إعادة التأسيس، والذي حُطِّم لإعادة بنائه أواخر سبعينيات القرن العشرين) تعاني من هيمنة هذه الثقافة التدميرية أيضا؛ بل ومن عدم مبالاة السلطتَيْن الثقافية والأكاديمية بالبلاد.
1. قصتي مع ساعة الجامع الكبير:
عام 1997، كنتُ مع أستاذي في التعليم الثانوي: رمضان بن ريّانة، بصدد بحث جَمْهَريّ[4]: «طبلبة: التقليدية والحداثة في المجتمع العربي»، حين اكتشفت صُدْفة، في غرفة محاذية لمقصورة الإمام مجعولة للوازم المَرمَّة[5] وفواضلها، ساعةً شمسية، مُتهشمّة تمامًا، لا يُرى مِنها شيء، بسبب آثار الجير والدهن والإسمنت منذ لحظة رَمْيِها هناك.
لم يكُنْ ظرف المرافقة المحلية، شبه اليومية، لِمُثَقَّفٍ، رغم أنه لم يكن معلنا المعارضة، يَسْمَحُ له بأن يطلب من أي سلطة أو أي «جمعية» أن يتصرّف في الرخامة لمدة معينة. فأعلمتُ عن وُجودها مدير المتحف الجهوي بلمطة، ولكنه لم يفعل رسميا شيئا، بل لم يُفكِّرْ حتى في زيارتها. فاكتفيت بتصويرها، على هيئتها السيئة(بفعل الإهمال وأهمها التجيير والدّهن وإعادة البناء) في الصفحة418 من الجزء الأول.
جاء يوم 14 جانفي 2011، فانفرط عَقْدُ المراقبة السابقة. فاسْتَغْلَلْتُ الفرصة، لدخول تلك الغرفة في 12/02/2011. فوجدتُ الرخامة على هيئتها تلك، ولكنني وجدتُ الزاوية العليا اليسرى منها منكسرة. لم تَكُنْ الكَسْرة صُدْفِيةً، أو غير مقصودة؛ بل كان من الواضح أنها قاصِدة لكلمات معيّنة بـ«المُنْقالة». فهذا النوع من الصخر، إذا وضعنا يَدَنا اليسرى على خط وَهميّ منها، لنضرب باليد اليمنى، ينكسر ذلك الخط. فقد سيطر الشقّ السلفي- الوهّابي من حركة الإخوان المسلمين بالبلدة على الفضاء المَسَاجدي وعلى الجمعية القرآنية منذ الرابع عشر من جانفي، وقد وَجد ذِكْرًا لوليّ البلدة الأكبر، فمَحَاهُ، لأنّ ذلك الذِّكْر «كُفْر» و«شِرْك». أحسستُ أن «المُنْقالة» مهدَّدة، فبادَرْتُ بنقلها إلى منزلي.
كنتُ قد بَادَرْت بتأسيس جمعية مَحَلّيّة، أَسْمَيْتُها «جمعية صيانة المدينة والمحافظة على البيئة»[6]، فأخذتُ الرخامة، وكلَّفْتُ مَنْ مَحَا لي البقايا المتراكمة عليها منذ عقود، بآثار المَرَمّات. ولكنّ تحطيم الحركة الإخوانية للجمعية، جعل مشروعي لاكتشاف مضمون الرخامة يتأخر، حتى أؤسس جمعية أخرى(جمعية زهرة المدائن للعمل المحلي)، فتكون تصرفاتي مع الرخامة قانونيّة.
في الأثناء، لمّا كنتُ أدرّس بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، وجدتُ زميلاً (فتحي الجَرَّاي) بمَشْرَب الكلّية في أحد أيّام سنة 2013. قال لي إنه بصدد عمل علمي عن كل الساعات الشمسية التونسية. قلت له: «هل يمكن أن تسْرُدها عليّ؟». فأراني جدولها كاملاً، وهو جدول المعهد الوطني للتراث. فقلت له: «ها قد نسيتَ واحدة! إنها ساعة الجامع الكبير بطبلبة!». وفي الغد أهديتُهُ كامل الأجزاء الخمسة من الكتاب، وأرَيْتُهُ إشارتي للساعة بالمتن، وصُورَتَها فيه. واقترحتُ عليه أن يذهب إلى البلدة، بعد أن أمْدَدْتُهُ بتلفون شريكي في الجَمْهَرة ليساعدُة.
لم يُهْدِني الزميلُ الكتابَ الذي أصْدَرته له مدينة العلوم مع المعهد الوطني للتراث، عام2015، ولكنني وجدتُهُ صُدْفةً فاقتنيتُهُ. وآسفني أنه لم يُشر فيهِ بصفحتيْه 92 و93 إلى سَبْقي الميداني والمعرفيّ في اكتشاف هذه الساعة.
ومن حسن الحظ أن المعلومات التي وضعها عن الساعة ناقصة، لأجد فرصتي في الإضافات العميقة ذات الدلالة. كان في خطتنا بداية أن نضع «المنقالة» بصحن الجامع الكبير، على قاعدة. وهذا ما فعلناه بتاريخ 05/06/2020 بحضور محافظ التراث بولاية المنستير. ولكنَّ عِلْمَنا بسرقة ساعات شمسية من عديد المدن التونسية بعد الرابع عشر من جانفي، جعلنا نفكر أيضا في صنع «منقالة» محاكاة، تطلبت مدة أكثر من سنة حتى تَكون. وقد تكلّفت الأشغال حوالي 3000000 د. تونسية، لم يقبل أي طرف أن يساعد جمعية زهرة المدائن فيه(بلدية، رأس مال، مواطنون…).
فلقد اكتشفتُ الباحثَ إريك مِرْسْيِيه[7] رئيس جمعية الفلكيين الفرنسيين، ونائب رئيس الجمعية العالمية للساعات الشمسية الإسلامية، وراسلتْهُ جمعيتي الجديدة: «جمعية زهرة المدائن لصيانة المدينة والبيئة»، لمزيد فهم هذه الساعة علميّا. وقد دامت مراسلاتنا معه على الإيميل، نحو سنة وشهر، في متابعة دورية ونقاشية لكل ما يجدّ لنا من اكتشاف، من يوم 23/07/2020 إلى يوم 23/08/2021. وقد استعملنا معه فيها التصوير الدقيق لكل أجزاء الساعة.
2. الجامع الكبير بطبلبة:
يقع وسط البلدة، وهو الذي كان يُسمّى قديما «المسجد الأعظم»، له صومعة مالكية مربَّعة[8] بكُذَّال ونقش طُبُلْبيّيْن[9]، على أقصى يسار واجهته.
كان في بيت الصلاة:
خمس «مَسْكْباتْ»[10] من «الجَوْف» (الشمال) إلى «القِبْلة» (الجنوب).
خمس «مَسْكْباتْ» من الغرب إلى الشرق من الجهة الخلفية، ومن الجهة الأماميّة سبع «مسكبَات»؛ قبل إصلاحات سنة 1934. وبعد الإصلاحات أضيفت مَسْكبتان إثنتان إلى الجهة الخلفيّة، التي بني بجانبها صحن خارجي صغير.
فإذا اعتبرنا أنّ المسافة الفاصلة بين «مَسْكْبَة» وأخرى تساوي، بالعمود القائمة عليه، ثلاثة أمتار، فتكون أبعاد بيت الصلاة من الشرق إلى الغرب قرابة العشرين ومن الشمال إلى الجنوب تساوي خمسة عشر مترا.
لم يكن له صَحْن. ولذلك كانت «المِنْقَالة» توجد بالسطح، قرب الصومعة من سوء الحظ لم يذكرها شارل لالْمُنْ ولا الجاسوسان المالطيان لانْفْرُودِتْشِي وبُوصْيُو في القرن السادس عشر[11].
كان يستدلُ بها المؤذن على أوقات كل الصلوات عند انكسار ظلّ خيط مربوط، بنقطتين من الأسفل، ومن الأعلى، مُسِكتا بإحكام واتقان صنع. وبذلك، لم يكن أكثر السكان يعلمون بوجودها. فلم يكُنْ ذا تعهد يوميّ بها سوى المؤذن، لمعرفة أوقات الصلاة. وكان تلاميذ الزاوية العياشية(وكذلك طلبتها الليبيون والجزائريون ومن ريف جهة المهدية) يتعهدونها مرة في السنة(آخر الصيف) لأجل تنظيفها وتنظيف السطح، مع مؤدبيها. ولا أظن أن كل المؤدبين بها وكل تلاميذها يشاركون في الأمر، بل بعضهم فقط.
كان الجامع يُشرف على سوق «الرَّحْبة» من الجهة الشرقيّة، إذ كان له باب يفتح عليها، وعلى ساحة فسيحة تصله بزاوية سيدي عيّاش، كما كانت له ثلاثة أبواب يدخل منها، أحدها يفتح على الصحن من الجهة الشرقية، أمّا الرابع، من الجهة القبلية، فكان يدخل منه الإمام.
أدخلت به إصلاحات سنة 1771م من قِبل إمام ينتسب إلى عائلة «العْيُوني». وهو ما يتزامن مع تاريخ تنصيب «المِنْقَالة» بالجامع(1778_1779)، أي فترة حمودة باشا ومستشاره الشيخ التّجاني: إبراهيم الرياحي.
لكن هذا الجامع لم يبق منه شيء الآن، فهدّم محرابُهُ وكل أعمدته، وصومعته، لتقوم صومعة طويلة جدا لعلها أطول صومعة في تونس، دون ذوق جمالي واضح ولا انتماء في مدرسة بالعمارة المسجدية، فكل ما في الأمر دعمُ مقاول صناعيٍّ في الآجر، جديد ذي رأس مال اقتراضي لم يسدده بوفاته. وأخذ أحد «المؤمنين» منبر الجامع إلى داره «تبركا»، كما قال لي؛ ولكنه جعله معرّضا للشمس والمطر عقودا طويلة حتى فسد.
ولقد كان هذا التدمير للجامع الأصلي في سياق مشروع تدميري كامل للمدينة العتيقة. فبعد أن حطّم الجنرال زرّوق لجلّ السّور بهزيمة ثورة الشيخ التّجاني: علي بن غْذَاهُم التي انخرط فيها السكان كانت بداية المشروع بأيدٍ ذاتية عام 1977 تنفيذا لإشارة «المجاهد الأكبر» سنة 1976 بعكّازه من فوق أعلى بناية، ناصحا بشق صدر البلدة نحو المرسى القديم. فكان تهديم الجامع الكبير وسرايا مشيخة البلدة في مقدمة هذا التنفيذ[12].
أما الساعة الشمسية فبقيت مهملة[13]، بل دون معرفة أنها «ساعة شمسية»، إذ حتى مُعَلّم البناء الذي حطّم المبنى القديم، ثم أعاد البناء، لم يكن يعرف ماهيتها(حسب مقابلتي له)، مكتفيا باقتلاعها وإطاشتها بمقصورة الإمام، خلف بيت الصلاة. لقد اقتلعت الساعة من السطح لتُرْمى، دون معرفة قيمتها. ولكن من حسن الحظ أن هذه الإطاشة بقيت داخل الفضاء المسجدي. فلم يكن أهل البلدة، يعرفونها، إلا المؤذن، أوّلا، والإمام، وتلاميذ زاوية مقام عبد العزيز بن عياش، الصغار، مرة في السنة لتنظيفها. وبقيت يُرْمى بها، ويُعَادُ رميها، كلما كان ترميم جديد أو توسيع، لتتراكم فوقها الأتربة والجير والدهن والإسمنت كل مرة، مهَدَّدة بالانكسار.
لقد حُطّم الجامع الكبير عام 1977 كاملا، من أجل دَعْم رأس المال الصناعي (الآجر) بالبلدة ومقاولي البناء الجُدُد… ولم يبق من الجامع سوى عمودَيْن أُقْحِما بصحن المَبْنَى «الجديد»، دون تجانس مع بقية الأعمدة.
3_ وصف «المِنْقَالة»:
حسب عضو جمعية «زهرة المدائن»، فْرَجْ نْوِيرَة، أستاذ العلوم الطبيعية، صُنعتْ «المِنْقالة» من صَخْرٍ هو: الرّخام. فهي صخرة مَنحُوتة من الصخور الرسوبيّة الصلبة، وقد تكون محليّة، ولكنها نادرة راهنا، فطبلبة معروفة بفنون النقش والرخام، وخاصة «الكُذَّال»[14]. وتتميّز هذه الصّخرة بجودة عالية في ملاءمتها لمثل هذه الأعمال، وهو ما ينمّ عن سعة ثقافة أحمد الحرّار المهنية وتعاوُنه مع مُحترفي النقش بالبلدة وفهم الأعلام بصخور المنطقة.
وحسب تجربته الميدانية (زيارته لمقاطع الحجارة مع تلاميذه)، فإن هذا الصخر غير موجود بالبلدة. وهو يرجح أن الرخامة ربما اقتنيت من خارج البلدة، خصيصا.
*-*-*
وُزّعت مضامين الساعة الشمسية بدقة وجماليّة. فلا نجد تكدُّسًا أو عدم وضوح، رغم كثرة أغراضها (العبادية والشُّغليّة…). ونجد فيها مَدْرَجًا يطابق دورَان الأرض، وهو المعتمَدُ حديثا إلى وقتنا هذا. وبها ضبط لدوران الشمس: كم مضى من طلوعها، وكم بقي لها لتَغْرُب.
وكانت بحلقة الوقت بدْعةً، لأنها سبقت الحلقة الأوروبية المعاصرة، القائمة إلى اليوم، وذلك مما أدهش إرِيْك مِرْسِيِيه[15].
4_ خصوصيات «المِنْقالة»:
تتميز «المِنْقالة» بـ:
_ ذِكْر التوقيت الاعتدالي (التوقيت المستعملُ في هذا العصر): وهذا أمرٌ نجده لأوّل مرة بالساعات الشمسية الإسلامية. وهو توقيت أصبح مستعملا بأوروبا الغربية منذ القرن الرابع عشر الميلادي مع ظهور الساعات الحائطية الميكانيكية.
_ ضبط التوقيت البابلي: وهو توقيت قمري، يبدأ كل شهر فيه بظهور الهلال في الأفق الغربي قبل الغروب.
_ ضبط التوقيت البادئ بالغروب[16] .
_ ضبط الشروق والغروب في كل يوم.
_ ضبط الأيام المُشْمِسَة بالدرجات.
استعمل أحمد الحرّار التوقيت الأوروبي الحديث بكفاءة(5 دقائق و15 دقيقة و60 دقيقة).
تعودُ هذه الساعة الشمسية إلى عام 1778_1779م، أي إلى زمن حمودة باشا، فهي آخر ساعة شمسية إسلامية ذات إضافة جذرية؛ فهي غير تكرارية ومن هُنا تأتي أهميتها القصوى: فهي الوحيدة التي تنص على التوقيت الحديث. ولم تَكُن مُحْتَسَبة في قائمة الساعات الشمسية الإسلامية بتونس، قبل اكتشافي لها.
4_1 تحديد القِبلة وزاوية الانحراف:
اندهش العالِم إرِيك مِرْسِيِيه لوجود دقة كبيرة في ضبْط القِبْلة (اتجاه الصلاة: مكة)، ليكتب: « قِبْلة الساعة 108د(زاوية تنطلق من الشمال باتجاه عقارب الساعة اليدوية). إنها القيمة الأقرب إلى القيمة الصحيحة: 109.5د»[17]. وهذا رائجا في الساعات الشمسية بتلك الفترة، في ملاحظة إريك مِرْسِيِيه، «إذا لم يكن بتلك الفترة أحد يعرف الاحداثيات الجغرافية للمدن، وينبغي انتظار أوروبا بالقرن التاسع عشر»[18].
مُشكل «القِبْلة» مشكل اتِّباعي. كانت تحديدات «المِنْقالات» والمصلّين للقِبْلة تَقْريبية، ومن المستحيل أن تكون دقيقة. فالإحداثيات الجغرافية للمَوَاقع (مُدن، قرى…) لم تَظْهر إلا في القرن التاسع عشر الميلادي بأوروبا الغربية.
وقَدْ حَسَّن المسلمون تحديداتهم، بمرور الزمن، بمراجعة الخطإ في كلّ مرحلة تاريخية. ولكننا نلاحظ أنّ الوجود العثماني، والحسيني، بتونس ترافق مع ضعف شديد للعلوم الطبيعية والتّقانية، رغم أن عهد حمودة باشا كان عهدًا متميزا، في إرادتِهِ النهضوية. بريادة الشيخ التّجاني، مستشار الملك، الشيخ إبراهيم الرياحي.
لا نستطيع أن نُقرَّ علميًّا بأيّ صُدْفِيّة. فكيف لم يتسطع أحمد الحرّار الوصول إلى هذه الدقة مع ساعاته السابقة بينما استطاعها مع ساعة طبلبة؟!!
والعجيب أن تحطيم أهل طبلبة للجامع الكبير 1977، وإهمالهم لـ«المِنْقالة»، جعلهم يتراجعون في العصر البورقيبي عن قُرْب «مِنْقالتهم» من دقة الاتجاه إلى القِبْلة: 108د، لتُصبح قِبْلَتُهُمْ: الجَنُوبَ الشرقي، عشوائيًّا، أي في توازٍ مع الطريق الرئيسية عدد1.
4_2 لماذا كان ظُهْرُ ساعةِ طبلبة قريبًا من العصر؟
تتميّز هذه «المِنْقالة» عن بقية «المِنْقالات» بظهر قريب من العصر، وتتميّز أيضا بضبط صلاة الضحى و«صلاة التسبيح»[19]، وهما صلاتان يحرص عليهما التدين المالكي الصوفي ببلاد المغرب.
وهذا التعديل لوقت الظهر، هو «استثناء طبلبي»، في رأي إريك مِرْسِيِيه، وهو متكيّف مع حاجتهم المعاشية_الاجتماعية[20].
وهذا ما يعني أن أحمد الحرّار، يعمل بالتنسيق مع الدولة الحنفية- رسميّا- باعتبار تكرّر أعماله التوقيفية بالجوامع التونسية، ولكنّه خَضَع لأوّل مرة بأعماله لشروط طائفة محلية مالكية- صوفية.
وقد خضع أحمد الحرّار لشروط هذه الطائفة المحلية وإدارة الأحباس العياشية. فقرَّب الظهر من العصر. فالسكان يشتغلون بنسبة ديمغرافية كبيرة، في الأحباس الزراعية لعيّاش البكوش، مُعيد تأسيس البلدة، بالبْقالْطة، منذ إنهاء صلاة الصبح إلى وقت دخول الظهر، فلا يكون دخولهم البَلْدة إلا قبل العصر بنحو ساعة. وقد وثّقنا ذلك في كتاب: «طبلبة: التقليدية والحداثة في المجتمع العربي»[21].
وباعتبار غياب هذا المُعطى عن الباحث إرِيك مِرْسِيِيه: ظن أن تقريب الظهر بطبلبة من العصر يعود إلى «الضعف العلمي»[22] للتونسيين والمسلمين عُموما آنئذ.
*-*-*
إنها تستحق الدراسة العلمية والتثمين الحضاريَّيْنِ، فسيتغير بهما فهمنا للمنقالات التونسية.
5_ «مِنْقَالة» تكشِفُ عن أعظم المِزوَلين المسلمين والحداثيّ فيهم: أحمد الحرَّار:
إنها الأخيرة في الساعات الشمسية التي صنعها أحمد الحرّار، وهو فلكي، وصانع ساعات شمسية، تونسي، وهو غير معروف الأصل، رغم أنه صنع 5 ساعات شمسية، بالأقل، في عهد الملك المتنوّر: حمودة باشا ووزيرِه الشيخ التِّجاني: إبراهيم الرياحي. وكانت ساعاته في تستور(1760_1761)، فماطر (1764_1765)، فمنزل تميم(1770_1771)، فمجاز الباب(1774_1775)، ثم طبلبة، بعَمَالة المهدية( 1778_1779م).
لقد كان عصر حمودة باشا الثقافي والعماري متميّزا بطَفرة غير مسبوقة. ومن الأكيد أن ذلك بتوجيه ثقافي من المستشار العرْفاني، الشيخ التجاني: إبراهيم الرياحي، ذلك الريفي _الزيتوني[23]. فما خصوصية الساعات الشمسية في ذلك العصر؟ وما خصوصية ساعات أحمد الحرَّار بها، وخاصة ساعتَه الطبلبية.
فهي آخر الساعات التي صنعها، وكانت الساعة الحداثية والأكثر دنيوية وابداعية وإضافة في الساعات الشمسية التونسية. فهذه المِزولة هي التي تجعل أحمد الحرَّار، مزْوَليًّا، عظيمًا، عالميا، لانه كان فيها غير استنساخي للسَّاعات الإسلامية.
كان أحمد الحرَّار واعيًا بحداثية منقالته الطبلبية وراديكاليتها، فكتب على «المِنْقالة» شعرًا، يفتخر فيه بابداعه غير المسبوق.
ولم يكن من عادة أحمد الحرّار كتابة شِعْر مَدْحٍ في ساعاته الشمسية الثلاث السابقة. فهل سمح لنفسه بأنْ يكتب شعرَ فَخْر باعتبار المميّزات الجديدة، الفارقة، لـ«مِنقالته» مقارنةً ببقية «المِنْقالات» التونسية والإسلامية؟ أمْ إنّ إدارة الأحباس العيّاشية اكتشفت ذلك فيها فأوعزت إليه بكتابة شعر لكي تفتخر بساعتِها المتميّزة؟
وقد بدأ فَخْرَهُ بالأسفل أقصى اليسار، لأن قراءة الساعة تكون من اليسار:
تحْكي الغزالة منظرا في الحُسْن والروض النضير
وأضاف بالأسفل أقصى اليمين بيتا ثانيا:
هاتي[24] الرُّخامةُ صُنعُها في الوقت ليس له نظير
وفِعْلاً، لا «نظيرَ» لها في استعماله عديدَ التّوَاقيت، وخاصة في استعماله التوقيتَ الحديث، الذي بدأ في الغرب بابتداع الساعات الحائطية.
و«الغزالة» هنا هي بمعنى «الشمس»، كما جاء في القواميس العربية[25]، فهي ساعة «شمسيّة»، أي تحاكي حركة الشمس.
لهذه الساعة الشمسية، كبقية الساعات الشمسية الإسلامية، تنصيص على اتجاه «القِبْلة» (اتجاه مكة، الجنوب الشرقي بالنسبة إلى البلاد التونسية). ولكن هذه «المِنْقالة»، بخلاف بقية «المِنْقالات» الإسلامية، تنص على اتجاه مكة وعلى اتجاه ثَانٍ هو الشرق. فهل هو القدس؟ أم اتجاه آخر بتأثير من الشيخ التّجاني إبراهيم الرياحي، وزير حمودة باشا صاحب الميول العرفانية الممتدة جغرافيا؟؟ المهم أن ذلك قرينة أخرى تؤكد مُدَّعى أحمد الحرّار بأن «مِنْقالته» «ليس لها نظير».
إن أحمد الحرَّار، بـ«مِنْقالته» الطبلبية، مِزوَلَيّ عظيم، مازال مهمّشًا مِنْ قِبل السلطتَيْن الثقافية والأكاديمية بالبلاد، رغم أنه الحداثي الوحيد بين المزوَلِين المسلمين.
6_الفصل قبل الأخير من القصّة: التطوعية في مواجهة عدم مبالاة السلطة المحلية والدولة:
تعكس قصة اكتشاف «مِنْقالة» الجامع الكبير بطبلبة وإعادة تثمينها اغتراب التراث المادي (العِماري)، بالمجتمع المحلي وفي اهتمامات الدولة.
فبعد مجهولية دامت نحو 40 سنة، وبعد أن صَرَفَتْ عليها جمعيةُ زهرة المدائن للعمل المحلي نحو 1500د، في إعادتها إلى حالتها الأصلية، ونحو 1500د أخرى لصنع رخامة أخرى محاكية لها، مازالت تجد نفسها أمام تهميش من الإدارة المحلية ومن الدولة.
فالحزب اليميني المهيمن على حوكمة البلدة وعلى شبكة المجتمع المدني منذ مارس 2011، والتي تشرعنت منذ انتخابات نوفمبر 2011، هيمن على أهم فضاء للجمعيات، مقام عبد العزيز بن عياش، فحرم الجمعية الأولى في الدفاع عن التراث المادي وغير المادي بالمحَلّة(جمعية صيانة المدينة والتراث). فقد غَيَّرَ قُفْلَ المقامِ وكذلك قُفْلَ قاعة الجمعية، لكي يحرمها من قاعدة تَحْمَوِيَّة[26] لنضالها الثقافي، قبل أن يفجّر ذلك الحزبُ الجمعيةَ من الداخل. وهنا اضطرت هيئة الجمعية لاستحداث جمعية بديلَة: جمعية زهرة المدائن للعمل المحلي، ولكنها سرعان ما ووجهت بمجلس بلدي أحبط كل تحركاتها(عدم مساعدتها بقسط تمويلي، عدم التفاوض معها في ضربٍ لمبدإ التشاركية، وحتى عدم السماح لها بتعليق لافتاتها وسط البلدة…).
أما رئاسة المجلس البلدي، ممثلة حزب حركة النهضة بالمجلس، فلا تملك إلا رأس مال اقتصاديّا، ولا تملك رأس مال تعليميًّا(دون السادسة الابتدائية)، فيناقش الجمعية بقوله: «وِينْ رِيتُوهْ سُورْ طبُلبة؟!»، مبرّرًا تحطيمه لآخر البقايا منه. والمجلس البلدي مع قدرة أهل طبلبة على توفير مليارات لبناء جوامع ليس بينها إلا بضعة أمتار، ومقرّ جديد للبلدية _لا ضرورة ملحة له_ بكلفة تبذيرية، لا يفكر في إنقاذ مقام عبد العزيز بن عياش الأثري المتداعي للسقوط ودار عياش البكوش، أول دار تُبنى بالبلدة؛ ولم يسمح المجلس بقسط تمويلي لكلفة العناية بالساعة … فثقافة تدمير التراث المادي للبلدة أصبحت مترسّخة منذ توطيد أول مجلس بلدي سنة 1957.
وأما إدارة الشؤون الدينية المحلية، فقد رفضت إعادة تلك القاعة للجمعية، بتعلّة «كثرة الكتاتيب»، رغم أن تلك القاعة بقيت مغلقة إلى حدّ اليوم. وفي آخر عام 2022، سمحت تلك الإدارة لجمعية التضامن بإضافة قاعة ثالثة لها، بعد أن تقاعد العمدة الذي كان يَشْغَلُها، دون ترخيص من تلك الإدارة. ولما قدّمتْ الجمعية شكوى بالأمر إلى تلك الإدارة، رفضت تَسلّم الشكوى بتعلّة أن «الأمر لا يدخل ضمن صلاحياتها».
أما وزيرة الثقافة، فرغم مراسلة رئيس الجمعية لها بتاريخ 6/10/2022 لكي تدشّن الرخامة المُحاكاةَ وتتسلم الرخامة الأصلية(لكي تضعها بالمتحف الوطني بباردو)، ورغم وصولها قريبًا من البلدة (المكنين يوم 22/01/2023)، لم تضع على روزنامتها «قضيّةَ» هذه «المِنْقالة» المغتربة.
ولم تَجِدْ رسالةُ رئيس الجمعية المفتوحة المتظلّمة من فتحي الجرَّاي(المحور العربي، 24 أفريل 2021 ) والتي أرسلها في الآن نفسه إلى مديريْ مدينة العلوم و المعهد الوطني للتراث أيَّ «تعاطف»، فضلا عن الانتصار للحق. وذلك يعكس عدم تعاون السلطة الثقافية مع المناضلين الثقافيين والتراثيين. فالأمر بسيط، عندهُمَا، وليس «سَرِقَةً لِسَبْقٍ».
خاتمــــة: في غربة التراث المادي بالسياق الاجتماعي_السياسي الراهن:
أرادت جمعية زهرة المدائن للعمل المحلي بطبلبة أن تَسْتَقْويَ بالدولة، تهرّبًا من تهميش الثقافة المحلية الراهنة ذات النزعة التحطيمية للتراث المادي وغير المبالية به، فوجدت الدولة (مُمَثَّلةً بوزارة الثقافة والمعهد الوطني للتراث) مُهتمة أكثر بالتراث المادي الروماني والبيزنطي، ولا تهمّها الساعة الحداثية الوحيدة بين الساعات الشمسية لدى المغاربة والمسلمين(«منقالة» الجامع الكبير بطبلبة).
ورغم تثمين إريك مِرْسِيِيه، رئيس جمعية الساعات الشمسية الإسلامية العالمية، إذ اعتبرها في مراسلاته لنا هي الوحيدة «الحداثية بين تلك الساعات»، فلم نجد إلى حد جانفي/يناير2023 تبنيًا من السلطة الثقافية التونسية.
إنها عينة من غربة التراث المادي التونسي وهامشيته في الثقافة والسياسة التونسيتين الراهنتيْن، وعن مُحَاصَريّة الجمعيات المحلية المرَافعة عنه.
حالة المِزولة لحظة اكتشافها عام 1997
( المصدر: طبلبة التقليدية والحداثة، ج1) حالة المِزولة عام 2022
(بعد التحطيم السلفي لزاوية منها، وبعد عناية جمعية زهرة المدائن)
………………………………………………………
[1] «المِنْقَالَة» (بضمّ الميم وكسرها، و بالقاف المغاربية المثلثة). اللفظة أمازيغية الأصل: «تَمُنْقَلتْ»، باستعارة عن العربية المُضَرِيّة. والمعنى: آلة «نَقل» الوقت، المِزْولَة، الساعة. فالمصطلح العامّيّ مقبول في ذوق اللغة العربية. [2] يعكس ذلك نتائج الانتخابات البرلمانية والبلدية بالبلدة لفائدة اليمين، منذ 14/01/2011. [3] … بين الواحدة والأخرى بضعة عشرات من الأمتار. بُنيت وسط الزياتين من أجل اختلاق أحياء جديدة على حساب الحزام الفلاحي، في ما بعد. وهذا في مصلحة التحالف بين رأس المال الكمبرادوري (منهم صناعيو بِناءٍ…) ومهندسي العمارة وتجار مواد البناء وحرفيّي النقش وقلع الحجارة، وغيرهم… [4] الجَمْهَرة في اللغات الأوروبية: Encyclopedy; Encyclopédie. [5] «المَرَمّة»: استعمل هذه الكلمة الدّارجة ببلاد المغرب: أبو العرب التميمي. ويقصدون بها: أعمال البناء. [6] انظر تجربتي الجمعوية المحلية في:«التأسيس الجمعوي بتونس:بعد 14/01/2011 والحضور الشبابي والاختراق العَوْلمي»، ضمن المرصد التونسي عدد1: تونس من انتخابات 2014 وانتخابات 2019، منتدى التفكير في الحراك العربي، تونس2019، من ص43 إلى ص46. [7] Eric Mercier. [8] أعاد رسمها لي مع واجهة الجامع الكبير: الرسام عز الدين كريّم، بعد بحث ذاكريّ شاركني فيه. [9] انظر تناولنا للنقش والنقّاشين في : طبلبة: التقليدية والحداثة في المجتمع العربي، د.ن، 2003، ج2 وج4. [10] «المَسْكْبة» هي فضاء مسجدي يقع بين «سارِية» (عمود) وأخرى، والمصطلح من أصل فصيح: مَسْكَبة. [11] انظر: بِالْكَحْلة(عادل)، التحولات النحلية في المجتمع المحلي التونسي، وَحدة تنمية محلية_ مقاربات مقارنة، تونس 2009، ص 53. [12] راجع جمهرتنا: طبلبة:التقليدية والحداثة في المجتمع العربي، ج1، من ص381 إلى ص394.[13] بِالْكَحلة (عادل) وبن ريّانة(رمضان)، طبلبة: التقليدية والحداثة في المجتمع العربي،ج1، تونس 2003، ص 257 وص 258. [14] انظر: بالكحلة (عادل)، وبن ريّانة (رمضان)، م.م، ج2. [15] م.س. [16] تُسَمّيه المركزية الغربية «التوقيت اللاَّتِيُوميّ»( نسبةً إلى «لاتيوم»، المقاطعة الإيطالية التي عاصمتها رومة)، في حين أنه مستعمل مِنْ قَبلُ في سوريا والصين القديمتَيْن. [17] مراسلته يوم 24/04/2021. [18] م.س. [19] صلاة التسبيح: هي أربع ركات، يقرأ المصلّي في كل ركعة الفاتحة وسورة؛ ثم يقول: «سبحان الله، ولا إلاه إلا الله، والله أكبر» 15 مرة، وفي الركوع يسبح كذلك 10مرات، وعند الرجع 10 أيضا، وعند السجود كذلك، وكذلك في الجلوس من السجود. [20] جاء ذلك في بِالكَحْلة(عادل) وبن ريّانة (رمضان)، طبلبة التقليدية والحداثة في المجتمع العربي، 2003، ج1، ص283. [21] م.س، ج1، ص62. [22] مراسلته لجمعيتن [23] انظر تناولنا للشيخ المستشار إبراهيم الرياحي، ضمن: بالكحلة (عادل)، الأشكال الجديدة للتدين بتونس، منتدى التفكير في الحراك العربي، تونس،2021، من ص 36 إلى ص37 . [24] «هاتي»: تَرخِيم شِعْرِيّ لـ«هاتِهِ». [25] انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة: «غزل». [26] تَحْمِيَة: Territorialization (eng), Territorialisation (fr).