أسفرت نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلية الثالثة والعشرين، وهي المعادة للمرة الثالثة خلال أقل من عامٍ واحدٍ، عن عجز الكتلتين اليمينية بزعامة بنيامين نتنياهو وريادة حزب الليكود، ووسط اليسار بزعامة بيني غانتس رئيس حزب أزرق أبيض، عن الحصول على 61 عضواً، وهو العدد المطلوب لتمكين أحدهما من تشكيل الحكومة، إلا أن حظوظ نتنياهو تبدو هذه المرة أكبر من سابقاتها وأسهل، إذ أنه حصل وتكتله اليميني على ما مجموعة 58 عضواً، وهو مالم يحصل عليه منافسه غانتس، الأمر الذي يعني أنه في حاجةٍ إلى ثلاثة أعضاء فقط ليتمكن من تشكيل الحكومة، ويستغني كلياً عن أفيغودور ليبرمان ويتخلص من ضغوطه وابتزازاته، وهو الذي كان سبباً في فشله وعجزه سابقاً.
إلا أن هذه النتائج لا تعني انتهاء حالة الاستعصاء وانفراج الأزمة السياسية، لكنها بالتأكيد مختلفة عن سابقتيها، إذ أن النتائج قد أسفرت عن تراجع حزب أزرق أبيض، واهتزاز صورة زعيمه بيني غانتس، وتراجع حظوظه كلياً في رئاسة الحكومة، وانتهاء أحلامه الكبيرة التي منَّى نفسه بها كثيراً، اللهم إلا إذا قرر جمع النقيضين معاً، والتحالف مع القائمة العربية وأفيغودور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا الموغل في التطرف والمصنف أقصى اليمين، وهو الاحتمال المستحيل والأمر غير الممكن أبداً، وعليه فإن نتنياهو قد غدا الفارس الوحيد في الميدان، والزعيم المؤهل لتشكيل الحكومة وقيادة المرحلة القادمة، وفق آخر استقراءٍ عامٍ حول الشخصية الإسرائيلية الأكثر مناسبةً لرئاسة الحكومة.
قد لا تكون مهمة نتنياهو شاقة جداً، بالنظر إلى حاجته المحدودة لثلاثة أعضاء فقط، فأمامه جيشر والعمل وميرتس، وهي أحزابٌ ضعيفةٌ صغيرةٌ هشةٌ وغير متماسكة، وقد تقع فيها بعض المفاجئات التي قد تجعل مهمته سهلة جداً، وهناك إشارتٌ عديدة بعد الجهود الكبيرة التي بذلها في أوساطهم تبشره بإمكانية استقطابه لبعض أعضاء اليسار، وهذا الأمر غير مستغربٍ أو مستبعدٍ أبداً، ولعل تجربته مع أيهود بارك قديماً تشجعه على أن يلعب مثلها مع حزبي جيشر والعمل، وهناك في الحزبين من ينتظر العرض ويتهيأ للصفقة، ويرسل رسائل علنية وأخرى سرية، يبدون فيها استعدادهم للتحالف الشريف أو الرحيل المخزي.
لكن الكنز الكبير الذي ينتظره نتنياهو ويراهن عليه ويأمل فيه، فهو ائتلاف أزرق أبيض الذي بدأ يتصدع ويتفكك، بعد الضربات الموجعة التي سددها خلال الحملة الانتخابية إلى رئيسه غانتس، الأمر الذي أسفر عن تراجع نسبة تمثيله في الكنيست، وهذا يزيد من احتمالية تفكيك ائتلافه وانشقاق أعضائه، فقد يفضل يائير لبيد الرقص منفرداً بعد أن خسرت فرقته وخفت صوتها، وحينها إن أعلن انفصاله فقد يرى آخرون أفضلية التحالف مع نتنياهو مقابل حوافز شخصية أو عامة، علماً أن المسافة الفاصلة بين التكتلين غير كبيرة، والسياسات التي تجمعهما أكثر من تلك التي تفرقهما أو تباعد بينهما، والإشكالية القائمة مع نتنياهو شخصية وليست سياسية، فجميع أقطاب تحالف أزرق أبيض من الجنرالات الكبار ولابيد، يتفقون مع نتنياهو في سياسته الاستيطانية، وضم المناطق وبسط السيادة الإسرائيلية عليها.
فرحة نتنياهو كبيرة وسعادته غامرة، فقد تحقق له ما يريد ويتمنى، واستطاع أن يستعيد الأصوات التي فقدها، وأن يستنهض الهمم اليمينية التي فترت، وانتصر على غريميه غانتس وليبرمان، وأخرجهما من سباق المنافسة، وحرمهما من فرض شروطهما وخلق العقبات في طريقه، وسيذهب يوم السابع عشر من الشهر الجاري إلى المحكمة محصناً بتكليف رئيس الكيان الصهيوني له بتشكيل الحكومة، وسيقف القضاء أمامه خائفاً من وعوده بإعادة تشكيل الجهاز القضائي، ولأن هذه هي فرصته الذهبية الأخيرة، فسيبذل قصارى جهده في استقطاب أكثر من ثلاثة أعضاء، ليكون حراً في تشكيل الحكومة وقادراً عليها، وليتمكن من الموائمة بين الشروط الحزبية والمفاضلة بينها، والتحرر نسبياً من حصرية الأحزاب اليمينية وكثرة طلباتها.
فهل تمضي أمور نتنياهو لصالحه كما يحب ويتمنى، وتسير جهوده في التشكيل الحكومي كسير السكين في الزبد الطري، أم أنه سيفاجأ بعظمةٍ كبيرةٍ، تنكسر أمامها سكينه أو تتثلم، ويعجز عن قطعها أو تجاوزها والالتفاف عليها فيفشل من جديد، ويعود القهقرى وكل الأحزاب الإسرائيلية نحو انتخاباتٍ رابعةٍ تنتج نفس النتائج والأرقام، وتخلق ذات الاستعصاء والجمود، وتغرق الكيان في أزماتٍ اقتصاديةٍ وأخرى أمنيةٍ تفقده توازنه وتحرمه من تفوقه، وتعطل برامجه وتفشل مشاريعه، وتشغله بهمومه عن غيره وبمشاكله عن سواه.