بقلم: فوزي حساينية-كاتب جزائري |
كل يومٍ نشاهد تصرفات وسلوكيات تصدر عن مختلف الأشخاص رجالا أو نساءً أو أطفالا تؤكد كلها أننا أعداء للبيئة التي نعيش فيها، فيوميا ترى الجزائريين وهم يرمون بقايا ما يأكلونه من نوافذ سياراتهم سواء كانت في حالة سير أو في وضعية توقف، زجاجات ماء، علب عصير، أوراق من مختلف الأنواع، أكياس بلاستيكية والمواطنون يفعلون ذلك سواء أكانوا في قلب المدينة، أو في طريق مفتوح أو في قمَّة جبلٍ أو في قلب غابة من الغابات أو على شاطئ البحر! وأعيد أن هذه السلوكيات اللاّحضارية نشاهدها يوميا وقد نقف عليها مرات عديدة في اليوم الواحد.
ونُلاحظ في الكثير- وليس في القليل- من الأحيان أن المواطن الجزائري يتصرف وكأن البيئة مسألة لا تُعنيه، وهكذا فالمواطن الجزائري الذي يغضب ويبذل كل جهد ممكن ويبحث عن المعارف والوساطات عندما يتعلق الأمر بمصالحه الخاصة ، هو نفسه المواطن الذي عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة – وهل يوجد أهم من البيئة من منظور المصلحة العامة – يتصرف ليس فقط بلا مبالاة، وإنما بعدوانية وتهورٍ واستعلاءٍ، بل إنك تظن أن المواطن الجزائري مخدر وفاقد للوعي، وإلا، كيف يُعقل أن يأكل المواطن شيئا ما وعندما ينتهي منه يرمي بقايا أكله كيفما اتفق ؟ في الشارع ، في الجبل، في البحر، في الطريق السيَّار! صدقوني عندما أقول لكم : أنني أكاد أصاب بالجنون، وقلبي يوشك أن ينفجر غمًّا وحزناً وكمداً على ما أشاهده يوميا من سلوكيات وتصرفات المواطنين تجاه البيئة.
واللافت حقا أننا نسجل عشرات الحالات يوميا لمواطنين يمتلكون أفخم السيارات لكنهم لا يتجشَّمون لحظة واحدة عناء التفكير قبل أن يقوموا برمي أعقاب السجائر أو بقايا شيء ما من نوافذ سياراتهم، إنهم يقينا لا يشعرون بالتناقض بين امتلاكهم لسيارات فخمة وتصرفاتهم الضارة بالبيئة !ا وصدق المفكر مالك بن نبي عندما أكد على أن امتلاكنا وتكديسنا لمنتجات الحضارة لا يعني أننا صرنا متحضرين، فضلا عن ذلك لابد وأن تلاحظ معي أن المواطن الذي يرمي أشياءه غير النافعة إلى خارج السيارة يعكس حالة مأساوية لتصور مواطنينا للبيئة فهم يشعرون أن السيارة ملكا لهم وتنتمي إلى حيازتهم لذلك لابد من المحافظة على نظافتها أما المحيط الواسع خارج السيارة أو المنزل فهو من أملاك البايلك التي لاتخصه ولامانع من تلويثها !هل تريدون أن أعدد لكم مشاهد أخرى ؟ كلا إنها معروفة للجميع، ولكن ،لا يجب أن يمنعنا ذلك من التساؤل:هل يُعقل أن تقوم سيدة برمي النفايات والفضلات المنزلية من الطابق الرابع أو الخامس؟ هل يُعقل أن نرضى بأن نعيش وسط المزابل والقاذورات والفضلات، ثم ندعي بأننا قوم متحضرون وشعب مميز ؟ جبال عظيمة وخالدة مثل جبال “ماونة “، جبال ” هوارة ” وجبال “دباغ ” التي صنعت شهرة قالمة[1] التاريخية وجمالها الطبيعي الأسطوري[2] توشك أن تتحول إلى مكبات نفايات، رغم كونها رائعة ونظيفة منذ قرون، ولكن عندما وصلت إلى زمننا نحن أصبحت ماهي عليه ! وحتى المسبح البيزنطي الشهير ببلدية هيليوبوليس[3] الذي ظل عامرا بالماء منذ خمسة عشرة قرنا تسببنا في حرمانه من الماء، والمنابع الحارة ببلدية حمام دباغ ( 20 كيلو متر غرب مدينة قالمة ) والتي كنا نفاخر بها العالم تسببنا بتهورنا وسوء أشغالنا في جفافها من مياهها التي ظلت تتدفق منذ آلاف السنين[4] ! والصادم أن لا أحد تحمل أو حُمُّلَ المسؤولية عن هذه الجرائم الشنيعة في حق الثروة الوطنية ! هل نحن معادون للبيئة والطبيعة والنظافة والجمال إلى هذه الدرجة ؟ نعم وأكثر، أنظروا إلى ما يفعله الصيادون ببنادقهم عندما يذهبون للصيد، إنهم لا يكتفون بصيد أو اثنين إنهم يصطادون ويقتلون ويفترسون كالوحوش الضارية كل ما تصل إليه أيديهم الآثمة، ثم إذا نبهتهم وحاولت الحد من وحشيتهم، يقولون لك في صفاقة إن الحجل يصنع لنا شربة لذيذة، وأن الله أحل الصيد …لكن الله لم يحل الفساد وإبادة الحياة البرية كما تفعلون أنتم أيها الصيادون، أرانب برية، خنازير ، طيور، ذئاب ، ضربان ، لاشيء ينجو من بطشكم وبنادقكم ! كيف تفكرون ؟ لماذا تريدون أن لا تتركوا شيئا جميلا للأجيال الصاعدة ؟أليس هذا نموذجا صارخا عن الإفساد في الأرض الذي نهى عنه القرآن العظيم ؟
لقد حدث قبل بضع سنوات أن زرتُ إحدى الشواطئ الواقعة بين ولايتي عنابة وسكيكدة وكان آية في الجمال، طبيعة ساحرة،ومياه صافية، صمت آسر، لكن عندما عدتُ إليه بعد مدةٍ تمنيت لو أنني لم أعد، كان هذا الشاطئ الجميل قد فُتح أمام المصطافين، وفي ظرف أسبوعين فقط، كل أنواع النفايات غزت الرمال الذهبية وشوهت وجهها البديع، أكوام مهولة من المخلفات الورقية والبلاستيكية غطت رمال الشاطئ وتغلغلت في مياهه فأصبح مد البحر وجزره يكشف جيئة وذهابا عما فعلهُ المصطافون الذين استمتعوا بالشاطئ ثم تركوه ملوثا مشوها، وكأنها الغيرة التي تدفع إلى الانتقام! وهكذا ردوا جميل الطبيعة كأحسن ما يكون. وكنت قد زرت في نفس الفترة شاطئ بلدية “تيشي” في ولاية بجاية، ورغم شساعة هذا الشاطئ وجماله إلا أن حجم التلوث الموجود به يثير الدهشة فحتى زيوت المحركات تطفو على سطح المياه في منظر مروع يشهد على طبيعة علاقتنا مع البيئة، فمن عنابة وسكيكدة إلى تيشي يتحد الجزائريون تماما في إساءاتهم للبيئة،فمتى يتحدون من أجل حمايتها وترقيتها والمحافظة على حق الأجيال الصاعدة في بيئة نظيفة كما تقضي بذلك فلسفة التنمية المستدامة؟ فيا أيُّها المواطن في قالمة وفي كل الجزائر الجميلة الشاسعة، حاول أن تمنع نفسك من رمي نفاياتك أياً كانت صغيرة أو كبيرة، وفي أي وقت كان ليلا أو نهارا، وفي أي مكان كنت فيه ، حضريا أو ريفيا ، بريا أو بحريا، تذكر وذكَّر نفسك أن البيئة هي الحياة وهي المستقبل.
ونتمنى أن تتحرك المديريات الولائية للبيئة وتفعل ما يجب فعلة لتوعية الناس والحد من عدائهم للبيئة التي يعيشون فيها، نعم أتمنى أن تتحرك مديريات البيئة، وتقدم أفكارا وتصورات وتحركات ميدانية فعالة، لأننا عمليا لا نسمع بوجود مديريات البيئة هذه إلا مرة واحدة في السنة، وبمناسبة اليوم العالمي للمناطق الرطبة!وبعدها مباشرة تدخل هذه المديريات في سُبات طويل عميق.
أيها المواطن، لا تقل إن الناس كلهم يفعلون كذا وكذا وأنهم لا يبالون، وأنني بمفردي لن أغير شيئا، كلا إنك تستطيع أن تُغير فعلا، وبمقدورك أن تساهم في صنع بداية جديدة في أية لحظة.
سيقول البعض أنَّك عممت كثيرا إذ ليس كل المواطنين يتصرفون بلا مبالاة تجاه البيئة، وأنا أسألهم بدوري، لماذا إذن تنتشر القاذورات والمزابل والنفايات في كل مكان ؟ أليس لأن أغلبية المواطنين لا يبالون بمراقبة سلوكياتهم البيئية ؟ أليس بسبب غياب مديريات البيئة وفشلها في الاضطلاع بواجبها ؟ وحتى إذا افترضنا أن عشرة بالمائة فقط من المواطنين هم من يتصرفون بطريقة مضرة بالبيئة، فإن هذا لا يغير في الأمر شيئا، لأن القلة قد تصنع الكارثة،كما أن المسؤولية تقع في النهاية على المجتمع ككل.
في الأخير أؤكد لمن يقرأ هذا الكلام أنني لم أسمح لنفسي بكتابة هكذا نداء ونقد إلا بعد أن ألزمت نفسي ووطنتها منذ سنوات على الاحترام التام للبيئة، ولا يفوتني أن أشكر إذاعة قالمة الجهوية، وخاصة الصحفي سليم بوعزيز على الجهود المبذولة على مدار السنة في توعية المواطنين بقضايا البيئة.
***************************************
[1] -قالمة هي مدينة من مدن الشرق الجزائري، مشهورة بمجازر الثامن ماي 1945،ومعروفة بكثرة وتنوع تراثها الأثري، وحماماتها المعدنية وجمال طبيعتها، كما شهدت ضواحي المدينة في التاريخ القديم واحدا من أكبر الانتصارات التي حققها القائد النوميدي الشهير ” يوغرطة ” (160-104 ق م ) على قوات الغزو الروماني وذلك في معركة “سيتول ” التي دارت سنة 110 قبل الميلاد، ومن الجبال المشهورة في قالمة، ماونة، هوارة ، دباغ ، وكلها جبال ذات غابات وطبيعة ساحرة، لكن بسبب غياب سياسة تنموية سياحية ناجحة فإن قالمة لم تستفد شيئا من إمكانياتها الطبيعية الضخمة.
[2] – نعم جمال أسطوري، وهذه ليست مبالغة، ولو أن ولاية قالمة خضعت للتنمية على الطريقة الكورية أو الماليزية مثلا، لكانت اليوم إحدى أعظم وأرقى الوجهات السياحية في العالم ، ولكن ” لو ” لاتنفع هنا.
[3] – تقع بلدية هليوبوليس على بعد 05 كيلومتر شمال مدينة قالمة، وهي مشعروفة بالمسبح البيزنطي الذي تعرض للكثير من الإهمال وسوء الترميم مما أثر كثيرا على قيمته التاريخية، وبسبب أعمال التنقيب غير المدروسة عن المياه بالقرب من هذا المسبح الأثري الرائع ، فقد المسبح المصدر الذي كان يمده بالمياه منذ قرون وسط عدم مبالاة الجهات المعنية، وغياب المجتمع المدني، وهذا المشهد يشكل جزء شاهدا على عدم المبالاة بالبيئة.
[4] – قبل ثلاث سنوات قامت البلدية ودون أخذ الإجراءات الإحترازية التي تتفق مع خصوصية هذا المكان الإستراتيجي، بإستعمال جرافة في إنجاز بعض الأشغال، مما تسبب في إنقطاع تدفق المياه الحارة مدة من الزمن، قبل أن تعود إلى التدفق بقدرة قادر…وهذا مثال على عدم إهتمام الهيئآت العمومية بقضايا السلامة البيئية…هذا مجرد مثال، ففي هذه البلدية بالذات تم سنة 2011 تدمير مساحات أثرية واسعة مصنفة ضمن التراث الوطني لكن لم يتحرك أحد ، رغم بعض الاحتجاجات التي صدرت عن المثقفين المهتمين بالآثار…