الأحداث و المسارات و كل ما نسمعه و نشاهده في شعوبنا و في كل شعوب الأرض يؤشران إلى توجه الإنسانية نحو موعد تاريخي تتغير فيه كل الموازين و الخيارات، في هذا الموعد ستكون للمقاومة بمفهومها المطلق أساس لتحقيق العدل في الأرض و نسف الظلم و الفساد . كل الشعوب بدأت تستشعر خطورة المنظومات التي تحكمها، فكتبت الكتب والمقالات لتوضح للرأي العام طريقة عمل هذه المنظومات و أدواتها. …
ألآن دونو alain deneault كاتب و فيلسوف كندي من مقاطعة كيبيك صدر له سنة 2016 كتاب بعنوان la mediocratie أو نظام التفاهة، هذا الكتاب سافر عبر العالم، حملته أقلام النقاد و عقول القراء…بحث هذا الكتاب في التساؤل الكبير لظاهرة التي إكتسحت السياسة وتربعت على عرش القرار ومواقع النفوذ؛ يتساءل الآن دونو alain deneault “كيف حكم التافهون العالم وكيف وصلوا إلى مواقع القرار والتحكم في المصائر”؟. شدني هذا الكتاب لعمق الطرح و علاقته بمصير البشرية إضافة إلى فهم ما يجري حولنا، ولأننا في أوطاننا العربية لنا من قوله و طرحه نصيب و تشابه، رأيت من المفيد أن أكتب هذا المقال كدردشة لمحتوى الكتاب، و للكل حرية مقاربته بأوضاعنا حتى تتم الاستفادة… فقط نلاحظ.
بطريقته و بأسلوب ساخر يقدم الآن دونو alain deneault نصيحة لناس هذا العصر “أغلقوا الكتب القيمة والكتب المعقدة فلا حاجة لنا بها، لا تكن فخورا و لا روحانيا و لا حتى مرتاحا فهذا سيظهرك متغطرسا شاذا، قلل من طموحك و ليّن عواطفك فهي مخيفة وخاصة لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للاستهزاء و السخرية و تمزق و يلقى بها في سلة المهملات، تخلى عن نظرتك الثاقبة، وسع مقلتيك، ارخ شفتيك و فكر بميوعة وكن مائعا قابلا للتعليب والتوظيف. ..العالم قد تغير والزمن قد تبدل فلا تفكر فهناك من يفكر في مكانك”. إنهم التافهون في مراكز السلطة و القرار، لقد حسموا معركتهم دون تكلفة فهم لم يجتاحوا الباستيل(إشارة لثورة الفرنسية ) و لم يحرقوا الرايخشتاغ (إشارة إلى صعود هتلر) و لم يطلقوا رصاصة واحدة في معركة الفجر (إشارة للمعركة الكبرى بين البونتا والبراكمار guerre de cités l’aurore pourpre ) لكنهم سيطروا على عالمنا و أحاطوا بنا.
يتعمق أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في طرحه و يذهب بعيدا حيث يعيد أسباب هذا التحول إلى عاملين إثنين أحدهما مرتبط بالسوسيولوجيا و الاقتصاد و آخر مرتبط بالسياسة و الشأن العام؛ يوضح أن تغيير المفهوم القيمي للعمل من أهم أسباب هذه التحولات حيث رأى الكاتب أن المهنة صارت وظيفة و شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء تضمن له الأكل و الشرب والملبس فقط لا غير، فيمكن أن تعمل في مصنع سيارات و انت لا تعرف إصلاح عطب في سيارتك، ويمكن أن تنتج شيئا لا تقدر على شرائه، أو أن تبيع الكتب والصحف و انت لا تقرأ سطرا منها…كل هذه الأمثلة تدل على انحدار مفهوم العمل من كونه قيمة حية تتغذى من روح العامل و إخلاصه و تفانيه و إبداعه و حبه، إلى مجرد أنماط و أنواع و أشياء و أداوات. ..كما شخصها شابلن في “الأزمنة الحديثة” أو فريتز لانغ في رائعة “ميتروبوليس “.
انحدار مفهوم العمل من كونه قيمة حية تتغذى من روح العامل و إخلاصه و تفانيه و إبداعه و حبه، إلى مجرد أنماط و أنواع و أشياء و أداوات
في ما يخص السبب الثاني و الذي إرتبط أساسا بعالم السياسة و إدارة الدولة يوم جيء بالتكنوقراط إلى الحكم و أستبدل مفهوم السياسة بالحوكمة، و الإرادة الشعبية بالمقبولية المجتمعية، و المواطن بالشريك. ..في المحصلة صار الشأن العام تقنية و إدارة تحركها المصلحة المادية النفعية فقط، لا منظومة قيم و مثل و مبادىء و مفاهيم عليا تحرك العلاقات بين الأفراد و الجماعات. في هذه المنظومة الجديدة يصبح المواطن الجيد هو من له un bon crédit مع البنوك و يدفع اداءاته فقط لا غير والسياسي فيها يصبح صورة سخيفة لمجرد ناشط له ثمن، تحركه لوبيات المصلحة.
صار الشأن العام تقنية و إدارة تحركها المصلحة المادية النفعية فقط، لا منظومة قيم و مثل و مبادىء
هكذا بتفريغ العمل من قيمته والسياسة و الشأن العام من خصوصيتهما و مبادئهما …صارت التفاهة نظاما كاملا على مستوى العالم رسمت قاعدة النجاح والخوض فيه وهي أن “تلعب اللعبة” هذه المفردة معبرة جدا، لم يعد الأمر شأنا إنسانيا و لا مسألة بشرية ومبادىء أخلاقية …نعم هكذا، قواعد هذه اللعبة غير مكتوبة و بلا نص لكن الكل يعرفها…كما يعرف التافهون بعضهم في جلسات الغداء و سهرات النوادي…. يسلط الكاتب الضوء على نقطة أخرى مهمة في نظام التفاهة مبرزا الفرق بين الخبير المستعد لبيع عقله للسلطة و المثقف الذي يحمل الالتزام تجاه القيم والمثل والمعرفة…وكيف أن الجامعات اليوم التي تمولها الشركات الكبرى صارت مصنعا للخبراء لا للمثقفين، فيها تشترى و تباع العقول وتوظف لصالح أرباب الأموال والشركات حتى أن رئيس جامعة كبرى قال”على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات”…
خرجت الجامعة من دورها في إذكاء المعرفة و التقدم بالإنساية. ..إلى سلخ العقل و تعليبه ليشارك في لعبة الاستهلاك و لا غير الاستهلاك
هكذا خرجت الجامعة من دورها في إذكاء المعرفة و التقدم بالإنساية. ..إلى سلخ العقل و تعليبه ليشارك في لعبة الاستهلاك و لا غير الاستهلاك …حتى صار الكل يشتغل لصالح نظام التفاهة مدركا و غير مدرك، قابل أو غير قابل. ..الذي يضع الأرض عرضة لاخطار نظام استهلاكهم ويسمح لأكثر من نصف خيرات كوكبنا بيد واحد بالمئة من أثريائهم. هل من حل ؟ أو كيف يمكن مواجهة نظام التافهين؟ يجيب الان دونو alain deneault لا تجد وصفة سحرية …فقط التعويل على وعي الناس و الخروج من الجدليات المفروضة التي يستعملها نظام التفاهة …وذلك بمقاومة الاغراءات المادية وكل ما لا يشدنا إلى فوق، ألاّ نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل يجب أن نعيد أهمية المفاهيم الكبرى المرتبطة بالأخلاق والمبادئ والمثل…و أن نركز على كل ما هو عام ينخرط فيه المواطن بكل مؤهلاته مسترجعا تلازمية التفكير والعمل. ..بالأساس أن نكون طبيعيين فنقاوم.