على الرغم من تَصدّر الولايات المتحدة لائحة المدافعين عن مصالح وأهداف ووجود وأمن الكيان الإسرائيلي, إلاّ أنها ليست الوحيدة, وكثيرة هي الدول الغربية التي شكلت بحقيقتها حجر الأساس للموقف الأمريكي من الصراع العربي – الإسرائيلي, وأساسه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي .
ويمكن إعتبار الولايات المتحدة تاريخياً بأنها الوافد الجديد في هذا الصراع, فقدت سبقتها دول القارة العجوز بأشواط وسنوات وعقود, وهي التي مهدت الطريق لبلورة كل ما شهدته الأراضي الفلسطينية من مخططات ومؤامرات, أفضت في نهاية الأمر إلى بلورة وعد بلفور, وكل ما تلاه من أحداث تاريخية استهدفت إزاحة الاحتلال العثماني, واستبداله بالإحتلال الغربي – الأوروبي بزعامة فرنسا وبريطانيا, مروراً بكافة المجازر والجرائم التي ارتكبتها العصابات الإسرائيلية بحق الأرض والشعب الفلسطيني, وصولاً إلى عام 1948, وإعلان نشوء الكيان الإسرائيلي, الأمر الذي أدى إلى إغراق الشرق الأوسط في واحدة من أعنف الأزمات والصراعات التي عرفتها المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
ومنذ منتصف القرن الماضي, ومع إنتقال الولايات المتحدة لإحكام قبضتها على دفة قيادة المشاريع الغربية في منطقة الشرق الأوسط والعالم , تراجع الظهور الأوروبي العلني على معقد القيادة , لكنه حافظ على مكانته ودوره الأساسي الفاعل وقيادته الخفية والمشتركة للولايات المتحدة, التي قدمت نفسها قائد وشرطي العالم, وحتى اليوم لا تزال غالبية الدول الأوروبية تقوم بذات أدوارها وأهدافها, إما عن طريق مواقف دولها وقادتها وحكوماتها المتعاقبة, أو عن طريق الإتحاد الأوروبي, وعبر وجودها القوي والفاعل في حلف الناتو, وفي مجلس الأمن.
ومنذ اللحظات الأولى لإنطلاقة عملية طوفان الأقصى في 7/أوكتوبر المنصرم, أظهرت الدول الأوروبية الغربية, والإتحاد الأوروبي, الكثير من ردود أفعالها الداعمة والمؤيدة لما أطلقت عليه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”, وأدانت واستنكرت الهجوم الذي نفذته حركة حماس, وتعاملت مع الحدث وكأن المقاومة الفلسطينية اخترقت حالة الرخاء والإزدهار والسلام بين الفلسطينيين و”دولة” الإحتلال الإسرائيلي.
لم تكتف دول الإتحاد الأوروبي بإعلان دعمها الإعلامي والسياسي والعسكري لسلطات الكيان الغاصب, وأخذت موقعها بمراقبة المجازر الإسرائيلية, وقصف المشفى المعمداني والشفاء والأندونيسي, وبالممارسات الإنتقامية, التي تخطت كافة القوانين الدولية والإنسانية, والتي بدا واضحاً بأنها تسير وفق مخططات مسبقة التحضير, تهدف إلى تهجير وتسفير أهالي قطاع غزة نحو سيناء من جهة ونحو النقب من جهةٍ أخرى, وتدمير البنى الحيوية في القطاع, بما فيها البيوت والمدارس والمشافي وصوامع الحبوب, وتطبيق حصار خانق مُنع فيه إدخال المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية والوقود, وكل مستلزمات الحياة, على وقع المجازر واستهداف المدنيين.
ومنذ صبيحة الثامن من أكتوبر, كان من السهل على ماكرون وشولتز وميلوني وسوناك وغالبية الأوروبيين تأييد”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”, لكنهم مع مرور الوقت, بات من الصعب عليهم إخفاء ما يرتكبه الصهاينة من جرائم ومجازر وإبادةٍ جماعية.
لقد ذهب القادة الأوروبيون والإتحاد الأوروبي بعيداً في دعم المجازر الإسرائيلية, وتعرضت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لإنتقادات موظفيها والشعوب الأوروبية التي تظاهرت تضامناً مع الشعب الفلسطيني وأهالي غزة, حتى أنها خرجت عن إطار منصبها وصلاحياتها, وأعلنت دعمها المطلق لإسرائيل على حساب دعم أوكرانيا، على الرغم من الإرتفاع الرهيب في عدد الشهداء الضحايا الفلسطينيين من النساء والأطفال وكبار السن, كذلك أعلن مفوض الإتحاد الأوروبي لشؤون المفاوضات المجري أوليفر فارهيلي، وقف مساعدات الإتحاد الأوروبي المالية للفلسطينيين.
كذلك حاول بعض القادة والرؤساء الأوروبيين تبرير مواقفهم المنحازة الصادمة, من خلال تركيز تصريحاتهم على ما تعرض له الجانب الإسرائيلي, ودعموا “الانتقام الإسرائيلي”, واقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرة لتوسيع نطاق التحالف ضد تنظيم “داعش” الإرهابي, لتشمل محاربة حماس, ودعا في الوقت ذاته إلى إعادة إطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط، لكنه مع ضغط الشارع الفرنسي والأوروبي وهول المجازر الإسرائيلية, دعا لاحقاً إلى إنهاء حملة القصف الإسرائيلي وإلى وقف إطلاق النار.
كذلك, لم يعد خافياً على أحد التواطؤ الألماني في الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون, والدور اللا أخلاقي للحكومة الألمانية, التي لعبت دوراً مركزياً في تسليح آلة الحرب الإسرائيلية بالأسلحة الألمانية.. وبحسب تقريرٍ لوكالة الأنباء الألمانية, تبين أنه منذ بداية عملية طوفان الأقصى “وافقت الحكومة الألمانية على إصدار 185 ترخيصاً لبيع وتوريد الأسلحة الألمانية إلى “إسرائيل”, ونقلت الوكالة عن نائب المستشار الألماني ووزير الإقتصاد روبرت هابيك, أن الحكومة الألمانية “أعطت الأولوية لطلبات تصدير المعدات العسكرية إلى إسرائيل”.
لكن , مع اتضاح حجم العمليات العسكرية الإسرائيلية الوحشية الواسعة النطاق، والتي تتخطى حدود قطاع غزة نحو الجبهة اللبنانية, والحضور الأمريكي العسكري الضخم, أعرب العديد من ساسة الإتحاد الأوروبي عن قلقهم بشأن ارتفاع عدد الضحايا المدنيين في قطاع غزة، على الرغم من عدم إنضمام حكوماتهم إلى الدول التي انتقدت قوات الاحتلال الإسرائيلي وهمجيتها وردود أفعالها القاسية المبالغ فيها.
بدا من الواضح أن هناك إنقساماً داخل الإتحاد الأوروبي, مثلت فيه رئيسة المفوضية الطرف الأول, فيما كان الطرف الثاني بقيادة رئيس الدبلوماسية الأوروبية الإسباني جوزيب بوريل, الذي أصرعلى دعم “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” منذ البداية ,وأعلن التضامن الأوروبي الكامل في الحرب ضد حماس, على أن يكون الرد الإسرائيلي متناسباً ومتوافقاً مع القانون الإنساني الدولي, لمنع توسيع نطاق الصراع , ولتجنب تفاقم الوضع الإنساني في غزة, ولإعادة التأكيد على التزام أوروبا بالحل الدبلوماسي للصراع على أساس حل الدولتين.
من الواضح أن جوزيب بوريل حاول جرّ الإتحاد الأوروبي نحو السياسة الخارجية الإسبانية, وهي التي احتضنت مفاوضات مدريد للسلام عام 1991, وتمايز بمواقفه عن كتلة الإتحاد الأوروبي, ووصف الحصار الإسرائيلي على غزة بأنه “انتهاك للقانون الدولي”, لكنه بدا اليوم متسرعاً في منتدى حوار المنامة في العاصمة البحريني, وحسم نتائج الجولة الحالية للصراع, وأكد أنه “لم يعد بمقدرور حماس السيطرة على قطاع غزة بعد انتهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, وبأنه يتوجب على السلطة الفلسطينية السيطرة على الأوضاع في قطاع غزة”.
ومع حلول نهاية أكتوبر، بدا بوريل وكأنه ينجح في توحيد وجهات النظر الأوروبية حول نهجٍ متوازن، في ظل زخم قوي من جانب الرئاسة الأسبانية, وظهر ذلك جلياً في بيان المجلس الأوروبي في 26 أكتوبر, عبر الدعوة إلى فتح “ممرات إنسانية وهدن ساعية لتلبية الإحتياجات الإنسانية”, لكن الإنقسامات الأوروبية الداخلية سرعان ما عادت إلى الواجهة, مع التصويت حول قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دعا إلى هدنة إنسانية, وتوزعوا ما بين موافق ومعارض وممتنع عن التصويت.
منذ عام 1991 حاولت أوروبا التمسك بحل الدولتين, وأقله للحفاظ على نفوذها وتأثيرها على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, ومع تعثرعملية السلام في الشرق الأوسط تدريجياً, نتيجة التعنت الإسرائيلي ورفض الحلول المنصفة والعادلة, واتجاه واشنطن وتل أبيب نحو فرض الحلول على حساب الفلسطينيين, بالتوازي مع ازدياد عدد الدول العربية التي قبلت بالتطبيع, ووسط إتفاقيات إبراهيم, وتنامي التطرف السياسي في إسرائيل, بالإضافة إلى الخلافات الفلسطينية الداخلية ما بين حماس والسلطة, بدأ حل الدولتين بالتلاشي, وتعمقت هوة الإنقسامات داخل الإتحاد الأوروبي, وارتفعت معها ضبابية الرؤية الأوروبية للحل أو لما ستؤول إليه يوميات الصراع.
فقد سبق لدول الإتحاد الأوروبي عام 2011, الإنقسام حول قبول عضوية فلسطين في مبادرة اليونسكو, وانقسامهم على وضع فلسطين كدولة مراقبة غير عضو في الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 2012، كذلك الإنقسام حول طبيعة سياسة الإتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط, والإنقسام حول الحرب في أوكرانيا, انقساماتٌ بمجملها أدت إلى تحويل الإتحاد الأووربي إلى كتلة جيوسياسية غير متماسكة محدودة التأثير في القضايا الدولية, يزداد ويضعف تأثيرها بمقدار اقترابها أوابتعادها عن السياسة الخارجية الأمريكية.
ويبقى من المؤسف أن يختبىء الأوروبيون وراء إنقساماتهم وضعفهم, وإتحادهم بتحميل حماس مسؤولية المواجهة, ومأساوية انحراف القضية الفلسطينية لتكون غزة هي القضية, وحده الرئيس السوري بشار الأسد الذي أعاد تذكير الأوروبيين والعالمين العربي والإسلامي والعالم كله, في قمة الرياض في 11/11/2023, بأن “غزة ليست هي القضية, وإنما فلسطين هي القضية”.
من الواضح أن ما فقدته أوروبا والإتحاد الأوروبي, عبرإنتاج قادة على غرار ماكرون وشولتز وميلوني وسوناك وأورسولا فون دير لاين وجوزيب بوريل وشارل ميشيل, أصاب مكانة دولهم وإتحادهم بمقتل, وباتوا يدعمون ويحاربون وفق أجندة واشنطن وتل أبيب, وتحولوا من داعمين لحل الدولتين, إلى داعمين لتصفية القضية الفلسطينية, ولتوسيع نطاق الحرب بإتجاه لبنان وسورية, ونحو الصدام مع إيران, ومضاعفة محاصرة روسيا, وقطع الطريق أمام مبادرة الحزام الصينية واستبدالها بمشروع الممر الهندي, وإحالة قناة السويس إلى التقاعد لصالح الموانىء الفلسطينية التي يحتلها العدو الإسرائيلي, والعودة إلى تهديد اليمن والعراق, وسورية التي تكاد تخرج من براثن المشاريع الصهو – أمريكية – الغربية, منتصرة لسيادتها ووحدة أراضيها, لتعود قلعة الهوية العربية, والداعم الأول للقضية والحقوق الفلسطينية.
من المهم للأوروبيين والإتحاد الأوروبي بعد كل هذا الضياع, البحث عن كيفية العودة, وإلى لعب دور يتماشى مع نتائج مجمل الصراعات والمعارك الدولية والهزائم التي مُنيت بها الولايات المتحدة وألحقت العار بنفسها وبالدول الأوروبية أيضاً, وأن تبدأ صفحةً جديدة من العلاقات مع روسيا, والعالم العربي وتحديداً سورية والعودة إلى الشراكة الأوروبية معها, والعودة إلى الحل العادل للقضية الفلسطينية, والخروج من عباءة العداء لإيران, فالشرق الأوسط كما تبين للعالم أنه بوابة الصراعات الدولية, فعليهم اكتشاف أنه بوابة السلام حول العالم أيضاً.
لا يمكن للأوروبيين إنتظار خبث ونفاق ماكرون وغباء شولتز وسطحية ميلوني وطفلولية سوناك السياسية, وبات على الإتحاد الأوروبي الإستفادة من فشل بنيامين نتنياهو في تحقيق أياً من أهدافه المعلنة في المواجهة, ونجاحه فقط بما يذله ويذل من دعموه ومنحوه رخصة قتل الغزاويين من الأطفال والنساء وتدمير المشافي وأجهزة الرنين المغناطيسي وأجهزة معالجة مرضى الكلى في مجمع مشفى الشفاء, وبفضيحة عدم وجود معدات وسلاح وأنفاق وغرف قيادة لحماس داخل المشفى كما ادعى وقدم من الصور والأدلة المزيفة ما جعل منه إضحوكة, دفعته للقول بأن “إسرائيل لا تنوي احتلال أو حكم غزة بعد الصراع”، في أقوى إعترافٍ منه ببقاء حماس وعدم قدرته على سحقها وإنهاء وجودها, الأمر الذي يحتم وقف إطلاق النار بشكل فوري, والبدء بمحاكاة جديدة لحل الصراع, ليس في غزة وحدها, بل حلاً جذرياً للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, بمعزل عن نتنياهو, والسير بإتجاه تقديمه وسيده في البيت الأبيض, وسفاحيه في القوات الإسرائيلية إلى المحاكم الدولية , كمجرمي حرب.