مسيرة إيران منذ افتتاح ثورتها سنة 1963، بقيادة الامام الخميني، لمن لا يعرفها مليئة بالأحداث والتضحيات الجسام، وهي على كثرتها وتنوعها، جديرة بأن تُكْتب في (موسوعة غينيس) للأرقام القياسية، لو كانت هذه الموسوعة ذات صبغة جدّية، ولكنّها طالما انّها ليست كذلك فلا حاجة لإيران بأن يقع تسجيل حصيلة شهداء قادتها وكوادرها هناك.
ربّانية وصدق هذه الثورة تبيّن للعالم وهو في حال ذهول مما حدث، عندما أقدم ثلّة من الطلبة الثوريين الإيرانيين على مهاجمة سفارة أمريكا – الذي أطلق عليه آنذاك اسم وكر الجاسوسية – مع أن البلاد وقتها كانت حديثة عهد بتحوّل سياسي جديد، غير معهود من قبلُ، وما يترتّب عليه من إعادة تأسيس أمني وعسكري تحتاجه إيران الخارجة من دكتاتورية سلطوية غاشمة وعمالة وتبعيّة لأمريكا وبريطانيا، إلى عصر من القيم الإسلامية الثورية، تديره حكومة يرأسها فقيه عادل يمتلك صلاحيات الإدارة والإشراف، فكانت تلك العملية ضربة وقائية لقطع يد المخابرات الامريكية من التدخل في الشأن الداخلي لإيران، ما ازعج زعيمة الاستكبار العالمي وتسبب لها في احراج كبير لم يسبق لها أن تعرّضت له.
لذلك استنفرت أمريكا جميع حلفائها من أجل اسقاط النظام الإسلامي بأي طريق كان، فلجأت الى دعم منافقي خلق، الذين ارتكبوا جنايات كبيرة بحق القيادات الإيرانية، ولم يسلم من شرورهم حتى الشعب نفسه، من أكبر عمليات هؤلاء الأشرار الإرهابية تفجير مقر حزب جمهوري إسلامي، والذي أسفر عن استشهاد 73 من كوادر الحزب والنظام الإسلامي، على راسهم مهندس الدستور الدكتور الشهيد محمد حسين بهشتي، والحادثة الأليمة فاجعة بأتمّ معنى الكلمة، لو أنّها حصلت في بلد آخر غير إيران، لسقط النظام دون أدنى شكّ، لكن العناية الإلهية وقفت دون ذلك، ولم تكن العملية الإرهابية التي ذهب ضحيتها الرئيس الشهيد (محمد علي رجائي) (1) ورئيس وزرائه الشيخ الشهيد (محمد جواد باهنر) (2) لتوقف من تقدّم النظام الإسلامي وتحدّ من نجاحاته، وعوض أن يضعف النظام الإسلامي إزداد قوة وتمكنا، ثم تتالت المؤامرات والأعمال الإرهابية المستهدفة لإيران، وأهمّها وأكبرها تهديدا، العدوان الذي شنّته قوات صدّام على الحدود الجنوبية والغربية والوسطى، حيث توغلت لتحتل مساحات هامّة من الأراضي والمدن الإيرانية.
وتواصلت سلسلة الإغتيالات والأعمال الإرهابية، مستهدفة رموز وعلماء وقيادات النظام الإسلامي، فلم تمُر سنة دون أن تُسْتَهدَفَ إيران، من أجل هدفين اثنين: إضعاف بنيتها الحُكْميّة من جهة، وزعزة إيمان الشعب الإيراني بقدرة قيادته، على تجاوز هذه العمليات الإرهابية، وتحقيق الأمن الشامل لعامة إيران من جهة أخرى، وقد ظهرت بصمات الكيان الصهيوني، في سلسلة اغتيال علماء الذرّة الإيرانيين خلال عامين 2010/2012 وهم على التوالي ( الشهيد مسعود محمدي/ الشهيد مجيد شهرياري/ الشهيد داريوش رضائي نجاد/ الشهيد مصطفى أحمدي روشن) (3)، وفي مقدّمتهم العالم الشهيد (محسن فخري زادة)(4) الذي وقع اغتياله بطريقة أوقفت النظام الاسلامي على أن هناك تقصيرا في دقة المراقبة، وتغيير مسارات سير /سيارة الشهيد ومرافقيه، يحب أخذها بعين الإعتبار، ضمانا لأمن وأمان أكبر، في تنقل شخصيات مهمّة، كهؤلاء الذين استهدفهم الإرهاب الصهيو أمريكي، وشكّل ذهابهم خسارة للمشروع التنموي الإيراني في مجال العلوم الذّرية، كان يمكن له أن يتقدّم بشكل أسرع، لو كتب لهؤلاء العلماء الابرار أن يبقوا على قيد الحياة، لكن قضاء الله وقدره ومشيئته أرادت أن تحتضنهم إلى جنان خلده.
يطول الحديث لو اسهبت في ذكر الإغتيالات التي نفذها عملاء أمريكا والصهاينة وبأمر منهما، لكني فقط سأقف عند تحطّم طائرة الرئيس الشهيد (السيد إبراهيم رئيسي)، ووزير خارجيته الشهيد (أمير حسين عبد اللهيان) ومرافقيهما مما أودى بحياتهم جميعا، حيث كان حادثا غير متوقّع أبدا، واستمر في غموضه ساعات طويلة من الليل خيّم عليها الرجاء في العثور عليهم احياء لكن بعد أن وقع تحديد مكان وقوع الطائرة تبيّن أنّهم قتلوا جميعا تقبّلهم الله عنده مع شهداء نهجه، وألهم الولي الفقيه المفدّى واهاليهم جميل الصبر والسلوان على هذا المصاب الجلل.
شهداء إيران تنوّعت مهامهم التي كانوا يشغلونها في حياتهم، فعند استعراضهم نجد أنهم من خيرة ما انجبت ايران من علماء في مختلف ميادين العلوم، عزاءنا الوحيد أنّ إيران بحمد الله ولّادة، لا يذهب شهيد دون أن يترك من ورائه من يخلفه العشرات، وفي كل ما ابتليت به إيران، سببه الأول موقفها الثابت المناصر لقضية فلسطين، بكل ما اعتبرته سبيلا لإنجاح مقاومتها، وقد ظهر هذا من خلال الصمود البطولي للحركات الفلسطينية في قطاع غزّة، والذي كشف للعالم وحشية الكيان الصهيوني، وحقانية الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على كامل أرضه.
قناعتنا من خلال ما وقع، أنّ محاولات أمريكا والصهاينة عرقلة إيران، وتعطيل مشروعها الكبير في تحرير فلسطين، لم تنجح في تغيير بوصلتها عن هذا الملفّ الاستحقاقي، إيمانا منها بعدالته، وواجبها الذي حمّلها إياه الإمام الخميني، وقلّده أمانة في عنق خلفه الإمام القائد الخامنئي، بأن يستمرّ الدعم والعطاء بلا حساب، إلى أن تتحرّر فلسطين من النهر إلى البحر، وقد صدق الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في قوله:
ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدّهر بين الحُفَرْ
المراجع
1 – محمد علي رجائي
https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – محمد جواد باهنر
https://ar.wikipedia.org/wiki/
3 – اغتيال علماء النوويين الإيرانيين
https://ar.wikipedia.org/wiki/
4 – محسن فخري زادة
https://ar.wikipedia.org/wiki/