دخان متصاعد وطلقات نارية مستمرة وقصف مدمر وارتفاع مستمر في أعداد اللاجئين والخسائر البشرية، هكذا هو المشهد في أوكرانيا مع دخول الغزو الروسي للبلاد في اليوم الـ 71. لقد أصبح الوضع هناك يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وسط العقوبات الأوروبية والأمريكية التي تُفرض من حين إلى آخر على موسكو؛ سواء العقوبات التي طالت الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» شخصيًا أو أشخاص أثرياء ومهمين من الروس أو الموالين للنظام الروسي فضلًا عن العقوبات الاقتصادية التي أصابت عدد من القطاعات المالية والنفطية ولعل منها فرض بريطانيا عقوبات على شركة «غازبروم بنك» الروسية، وهو أحد المؤسسات المالية المحورية في تجارة الطاقة.
ولعل آخر مظاهر سياسة الشد والجذب بين روسيا والقوى الغربية، تصريح رئيس بلدية «ماريوبول» بوجود معركة عنيفة مع القوات الروسية جراء هجوم موسكو على مصنع «آزوفستال» للصلب، بجانب إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين» عن اقتراح دول الاتحاد الأوروبي فرض حظر تدريجي على النفط الروسي واستبعاد ثلاثة مصارف روسية إضافية منها مصرف «سبيربنك» من نظام «سويفت» العالمي في إطار حزمة جديدة من العقوبات.
كل ما سبق يثير تساؤلًا مهمًا بشأن مصير الحرب الروسية في أوكرانيا وما إذا كان من الممكن حلها دبلوماسيًا أو ميلاد حرب نووية عالمية؟ ويمكن الإجابة على ذلك من خلال استعراض السيناريوهات التالية:
أولًا- الحل الدبلوماسي
يعتبر هذا السيناريو هو المفضل للدول الأوروبية والولايات المتحدة لتجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، لكنه السيناريو الذي من الممكن حدوثه في حالة إطالة أمد الحرب، إذ كلما استمرت الحرب كلما زادت الخسائر بالنسبة إلى الجانب الروسي، الذي لا يريد بالتأكيد خسارة جيشه وأسلحته بأكمله. لكن لن تقبل روسيا بالجلوس على دائرة المفاوضات من دون أن تشترط على أوكرانيا عدم الانضمام إلى حلف الناتو، وهو كان السبب الرئيسي للغزو، باعتبار أن أوكرانيا أقرب دولة للعمق الروسي، بالإضافة إلى التداخل السكاني والتاريخي للبلدين، ومن ثم تريد موسكو ضمان أمنها بشكل كامل من هذه الجهة، لا سيما بعد إعلان رئيسها أن بلاده ترغب في الانضمام إلى الناتو والحصول على أسلحة نووية.
على الرغم من احتمالية حدوث هذا السيناريو إلا أن روسيا لن تلجأ إليه إلا عندما تضمن أنها استطاعت إلى حد ما قطع الطريق على كييف لمنعها من الانضمام إلى الناتو، أو في حال استيلاء روسيا على عدد من المدن الرئيسية في أوكرانيا وتوطين موالين لها في تلك المدن؛ حفاظًا على نفوذها وعمقها الاستراتيجي. وربما تلجأ إليه روسيا أيضًا حينما تضعف أمام مواجهة العقوبات المفروضة عليها ويتخلى عنها أقرب الحلفاء ولا سيما الصين.
ثانيًا- حرب عالمية غير مباشرة
ربما يكون هذا السيناريو هو الحاصل على أرض الواقع ولكن بشكل تدريجي، فعلى الرغم من تجنب القوى الغربية الدخول في حرب مباشرة مع روسيا إلا أنها ستختار فرض مزيد من العقوبات على روسيا فضلًا عن تقديم المساعدات العسكرية مثلما طلب الرئيس الأمريكي «جو بايدن» من الكونجرس 33 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا. بالإضافة إلى أنه حتّى الآن، قدّمت بريطانيا إلى أوكرانيا خمسة آلاف صاروخ مضادّ للدبابات وخمس منظومات صاروخية للدفاع الجوي مع أكثر من 100 صاروخ و4,5 أطنان من المتفجّرات، فضلًا عن إعلان رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون»، أول من أمس (الثلاثاء)، عن تقديم مساعدات إضافية إلى أوكرانيا تبلغ 300 مليون جنيه أسترليني.
ثالثًا- حرب نووية عالمية مباشرة
لفتت الحرب الروسية الأوكرانية الانتباه إلى تغيير الفكر الأمني لدى العديد من الدول الأوروبية، بداية من ألمانيا الحليف الأكبر لروسيا، نهاية بدول الجوار وعلى رأسها فنلندا؛ وقد ظهر ذلك من خلال إعلان السويد وفنلندا عن مناقشتهما للتقدم بطلبات الانضمام إلى عضوية حلف الناتو، على الرغم من تبني الدولتان نهجًا تاريخيًا محايدًا تجاه الأزمات الدولية ولا سيما العسكري منها، ما بين حياد يصل عمره قرابة 200 عام لدى السويد، وآخر اقترن بالحرب الباردة كما هي الحال لدى فنلندا.
من جانبها تعارض روسيا توسيع حلف الناتو، وبدت محذرة الدولتين من خطورة انضمامها إلى الحلف، خاصة أن روسيا ترتبط جغرافيًا بحدود طويلة مع فنلندا تصل إلى 1300 كم، وهي الحدود التي تعادل تقريبًا بقية الدول الأوروبية المتماسّة مع روسيا.
وفي هذا الصدد، ذكر العقيد المتقاعد والخبير العسكري «فيكتور ليتوفكين»، عن أن دخول السويد وفنلندا إلى الناتو في الممارسة العملية سيعني ظهور وحدات عسكرية أجنبية وأسلحة على أراضيهما، ومن بينها صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى. وقد يدفع هذا الأمر روسيا إلى إرسال قواتها إلى دول البلطيق، التي هي في حلف الناتو، مثل لتوانيا، وفتح ممر أرضي إلى الجيب الروسي الخارجي الساحلي كلينينغراد. وسيكون هذا الأمر بالغ الخطورة وقد ينذر بحرب مباشرة مع حلف الناتو.
وتنصّ المادة الخامسة ميثاق التكتل العسكري على أن أي اعتداء على عضو واحد في الحلف، هو بمثابة اعتداء على جميع الأعضاء. ولكن لن يجازف «بوتين» بهذا الخيار إلا إذا رأت أنه السبيل الوحيد الذي يضمن له البقاء في السلطة. فإذا شعر بأنه يتجه نحو الهزيمة في أوكرانيا فإنه سيحاول التصعيد أكثر. وقد وضع «بوتين» قواته النووية في أعلى درجات الاستعداد، وعلى الرغم من التخوفات الدائمة من اللجوء لهذا السيناريو، إلا أنه لن يتم اللجوء له إلا إذا فشلت الخيارات البديلة، وقد تنضم كوريا الشمالية إلى الجانب الروسي حينها.
رابعًا- انهيار النظام الروسي داخليًا
لن تكتفي الدول الغربية بفرض العقوبات على موسكو، بل ستحاول تأجيج الغضب في الداخل الروسي، الذي يعاني من أزمة اقتصادية مريرة فضلًا عن تأثره -سواء على المدى الطويل أو القصير- بالعقوبات الجديدة المفروضة، وهو الأمر الذي سيشعل الروس في الداخل وسيؤدي إلى ثورة أشبه بالثورة البلشفية لعام 1917 -باعتبار أن التاريخ يعيد نفسه- مما سيؤدي للإطاحة بـ«بوتين» أو اغتياله والقدوم برئيس روسي جديد معتدل أو على الأقل يقبل التفاهم مع القوى الغربية.
خامسًا- نظام دولي جديد وتراجع أمريكي
لا شك أن ما حدث سيترك بصمة مؤثرة على النظام الدولي بل وسيعيد تشكيله من جديد ليصبح النظام العالمي نظام متعدد الأقطاب رسميًا وستظهر أقطاب جديدة في مقابل تراجع كبير للدور الأمريكي في مشاكل الساحة الدولية وانعزاله بشكل أو بأخر على نفسه.
يمكن القول بإن تلك السيناريوهات السابقة مجرد توقعات ربما تستند إلى بعض الأدلة الواقعية وعلى الرغم من أنه لا يمكن الجزم بحدوث أي منها لكن من المؤكد أن العالم لن يعود كما كان من قبل وأن تعزيز الأمن القومي وتشكيل تكتلات عسكرية سيكون أحد أهم الأولويات التي تتصدر أجندات الدول القريبة والمجاورة لروسيا أو حتى الدول التي لديها مشاكل حدودية مع دول الجوار.