لم يصبح العالم «قرية صغيرة» في سرعة تواصله مع بعضه البعض فقط وإنما في سرعة تأثره بالأزمات والصراعات أيضًا، فلقد انعكست الحرب الروسية الأوكرانية على دول العالم أجمع بل وأحيت صراعات وخلافات قديمة وتوترات طويلة الأمد بين بعض الدول، على رأسها النزاع بين تركيا واليونان، فمنذ بضعة أيام اتهم الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» أثينا بتسليح 12 جزيرة في «بحر إيجة» بالقرب من الأراضي التركية، فضلًا عن خلافهما بشأن ملف التنقيب عن الغاز الطبيعي في شرقي المتوسط واتهام أردوغان اليونان بانتهاك معاهدات السلام، التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية، فما كان من وزارة الخارجية اليونانية إلا أن نشرت سلسلة خرائط تاريخيّة تدحض هذه الاتّهامات التركيّة.
لم يكن الخلاف اليوناني التركي وليد الصدفة وإنما هو خلاف تاريخي ممتد سببه الرئيسي والأول هو الجزر المتنازع عليها في «بحر إيجة» -وعددهم 12 جزيرة- فمنذ هزيمة الدولة البيزنطية ونشأة الدولة العثمانية مع فتح القسطنطينية على يد «محمد الفاتح» في القرن الخامس عشر، سيطرت الدولة العثمانية على هذه الجزر واستمر هذا الحال إلى أن ضعفت الدولة العثمانية تلك الفترة واستقلت اليونان عنها عام 1832 وبدأت في سياسة «لم شمل الكيان اليوناني السابق» وساعدها في ذلك أوروبا وبريطانيا -بشكل خاص- التي تنازلت لصالح أثينا عن العديد من الجزر الأيونية، جنوب «بحر إيجة»، ثم بعد ذلك تنازلت تركيا عن مقاطعتي «ثيسالي» و«لاريسا» بموجب قرارات مؤتمري برلين عام 1878 ومعاهدة إسطنبول 1881، وهو الأمر الذي ساعد اليونان في إحكام سيطرتها على «بحر إيجة».
وفي أعقاب حرب البلقان (1912-1913) حاولت اليونان فرض السيطرة على جزر «بحر إيجة»، وهو ما اعتبرته الدولة العثمانية آنذاك توسعًا على حسابها، ومع بداية جمهورية «أتاتورك» بدأ الأتراك استعادة تلك الجزر، إلى أن تم توقيع معاهدة «لوزان» والتي كانت علامة فارقة في هذا النزاع ولعل أهم ما نصت عليه هو نزع سلاح الجزر المتنازع عليها لصالح اليونان ووضع «بحر إيجة» تحت السيادة الدولية، وعلى الرغم من عودة التوترات مجددًا في عام 1974 مع تأييد اليونان لانقلاب عسكري في جزيرة قبرص، فضلًا عن تخطيط اليونان لتأميم «شركة نفط إيجة» للتنقيب عن النفط والسيطرة على المجال الجوي حتى عام 1980، وتزايدت تلك التوترات حتى بلغت ذروتها في عام 1987 وعام 1996 مع اكتشاف ثروات طبيعية في تلك المنطقة، إلا أن تظل «معاهدة لوزان» و«معاهدة باريس» عام 1947 -التي نصت أيضًا على إبقاء تلك الجزر منزوعة السلاح- من أهم الاتفاقيات الرئيسية وما زالت أنقرة تطالب أثينا من الحين إلى الآخر بالالتزام بهما.
على الرغم من أن تركيا تشكك دائمًا في أحقية اليونان بامتلاك تلك الجزر إلا أنها لا تطالب بملكيتها لجزر بحر إيجة بقدر ما ترغب في دحض ادعاءات أثينا بملكيتها لتلك الجزر، إذ إن من مصلحة تركيا جعل الجزء الأكبر من «بحر إيجة» تحت السيادة الدولية حتى لا تجد نفسها مسجونة ومحاطة بجزيرة شبه يونانية. لذا تستغل تركيا دائمًا أي فرصة أمامها لتذكير المجتمع الدولي بأهمية تسوية هذا النزاع، وفي الوقت الحالي يمكن اعتبار الحرب الروسية الأوكرانية فرصة ذهبية لأنقرة لحث الاتحاد الأوروبي على تلبية مطالبها فـ«مصائب قوم عند قوم فوائد».
ولكن ما هي مطالب تركيا؟ بالتأكيد تريد أنقرة وضع جزر «بحر إيجة» تحت سيادة المجتمع الدولي ونزع الأسلحة من تلك المنطقة كما نصت معاهدتي «لوزان» و«باريس» فضلًا عن موافقة الولايات المتحدة لبيع «طائرات إف-16» إليها، بجانب حصار الأكراد ومحاربتهم، بالإضافة إلى إزالة أنقرة من قائمة الانتظار الخاصة بـ«الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي» لتصبح أحد دول الاتحاد الأوروبي وهو الحلم الذي يراودها منذ عقود، وجددت مطالبتها على لسان رئيسها بقوله: «أظهروا لتركيا نفس الحساسية التي تظهرونها لأوكرانيا».
ولكن ماذا سيحدث إذا لم يلبي الاتحاد الأوروبي مطالب أنقرة؟ بالتأكيد ستتعنت تركيا أكثر في رفض سياسة التوسعة التي يريدها حلف «الناتو» عن طريق انضمام السويد وفنلندا إليه. فضلًا عن أن ذلك سيؤدي أيضًا إلى إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ تعتبر تركيا وروسيا حلفاء -ولو بشكل مؤقت- ومن ثم في حال استمرار الانحياز الأوروبي لصالح اليونان ورفضت واشنطن تزويد أنقرة بـ«طائرات إف-16» فستطلب تركيا دعمًا أكبر مع روسيا مقابل أن تعرقل أنقرة أي قرار داخل الناتو من شأنه معاقبة روسيا، أي ستصبح الحرب عبارة عن صراع بين كتلتين -بشكل صريح ومباشر، باعتبار أن أطراف النزاع في الحرب الروسية الأوكرانية هم أنفسهم أطراف النزاع التركي اليوناني، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت في الآونة الأخيرة بإنشاء قواعد عسكرية كبيرة في الجزر اليونانية القريبة من تركيا. كما ستعرقل تركيا الحلم الإسرائيلي بتزويد أوروبا للغاز الطبيعي بخط أنابيب يمر بالأراضي التركية.
وتكملة لذلك من الممكن حينها نشوب حرب مؤثرة بين اليونان وتركيا؛ وقد يسرع من وقوع تلك الحرب أي خطوة قررت أن تتخذها اليونان لزيادة مساحة سيطرتها على «بحر إيجة» وتعنتها في تسليح جزر «بحر إيجة» وهي خطوة تلاقي ترحيبًا واسعًا في الداخل اليوناني؛ إذ تستند اليونان بخصوص هذا الملف إلى المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على «حق الدفاع عن النفس»؛ إذ أعلنت حكومة أثينا مرارًا أنها قامت بهذه الخطوة بغية التصدي لأي تهديد محتمل من تركيا. وسبق أن أشارت إلى أن جيش «بحر إيجة» الذي شكلته تركيا خارج قيادة الناتو، لديه أسطول إنزال على السواحل القريبة من الجزر.
وما يؤجج من إمكانية حدوث تلك الحرب أيضًا هو تصاعد حدة التصريحات بين الجانبين اليوناني والتركي خاصة مع دعوة الجنرال اليوناني المتقاعد «يانيس إيغولفوبولوس» إلى شن هجوم صاروخي على إسطنبول وتدمير الجسور التي تربط أوروبا وآسيا في هذه المدينة. وفي ظل دعوات داخل تركيا بتعزيز سلاحها الجوي؛ حتى تستطيع البلاد الاستعداد لأي حرب محتملة مع أثينا.
إذن فالمواجهة اليونانية التركية العسكرية من السيناريوهات المحتملة بل ستكون السيناريو الأقرب إذا استمرت حدة التصاعدات بين البلدين بهذه الوتيرة مع استمرار تأييد الاتحاد الأوروبي لليونان وعرقلة انضمام تركيا للانضمام له، لكن تلك المواجهة ترتبط بشكل كبير بمصير الحرب الروسية الأوكرانية والمنتصر فيها، فكلما ازداد الجانب الروسي قوة كلما ركنت إليه تركيا لتحقيق مصالحها في الجزر المتنازع عليها، كما ترتبط الحرب بمدى استعداد تركيا لها ولا سيما على مستوى السلاح الجوي، فإذا ظلت تركيا تفتقر للأسلحة والطائرات المتطورة فسيكون الغلبة إلى اليونان، حليفة الجانب الأوروبي والأمريكي.