لم تدخل امريكا إلى أفغانستان أثناء الحرب الباردة بقوتها العسكرية، ولم تجازف بذلك وخيبتها وهزيمتها المذلّة في فييتنام، لا تزال مرارتها في حلوق قادتها العسكريين، وبواسطة أجهزة مخابراتها، المختصة في إصطياد عناصر (غبيّة)، تنفّذ مخططاتهم وأهدافهم، تمكنت بخبراتها من استخدام متطرّفين وهابيين جعلت من أسامة بن لادن، ابن أحد الأسر الثرية، التابعة للنظام السعودي، رمزا وقائدا لتنظيم القاعدة، في مواجهة التدخّل العسكري السوفييتي المساند للحكومة الافغانية اليسارية حينها، وبتعارض المصالح بين الأمريكان وذلك التنظيم الإرهابي، اتجهت أدواتهم إلى إيجاد نواة أخرى شبيهة بالقاعدة بإمكانها أن تحلّ محله دون حصول اختلاف بينهما، فكانت حركة طالبان.
وبعودة سريعة إلى تاريخ تأسيس طالبان وقيامها على أرض أفغانستان، فإننا لا نجد صعوبة في فهم هدف مهم لهذا التنظيم – وهو مترسخ في ثقافته المتعصّبة عرقيا ودينيا- ويتمثل في معاداة المسلمين الشيعة، وما اقترفته قواتهم من مذابح منذ أن ظهرت جماعاتهم مسلّحة وغازية لأراضي أفغانستان انطلاقا من باكستان البلد الذي أوى الحركة منذ 27 عاما خلت (سنة 1994) ومهّد لها أسباب القوة والتّمكّن، حتى استولت على العاصمة كابل بسرعة بعد ذلك بسنتين (سنة 1996) وسارعت كل من باكستان والسعودية والإمارات للإعتراف بها كدولة (إمارة)، ثم تحت ضغوط دولية سحبتا اعترافهما بها، بعد اقدام طالبان على هدم معلم تاريخي هام، يمثل تمثال بوذا في جبل باميان، بدعوى أنه شرك، (2) وبقيت باكستان محافظة على اعترافها بشرعية حكم طالبان، ما يزيد من تأكيد العلاقة الوطيدة بينهما.
يُعزى تأسيس حركة طالبان، وسرعة استقوائها واستيلائها على كامل أفغانستان مرتين إلى سببين، هما اشتراك المخبرات الباكستانية والأمريكية في ذلك التأسيس، ورغم نفي زعيم الحركة المُلّا محمد عمر عنها ذلك التعاون، فإنه من الصعب تصديقه، في مقابل ما بأيدينا من رواية، قالت بنجاح خمسين طالبا دينيا بشتونيّا في تأسيس الحركة في شمال باكستان، ومبايعة قائدهم الملا محمد عمر.
لم تتأزّم العلاقة بين حركة طالبان وأمريكا، إلا بعد أن آوت عناصر من تنظيم القاعدة المطلوبين، بعد هجمات 11/11/2001، ومنهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما، وقرار أمريكا بتتبع عناصر تنظيم القاعدة، مثّل انقلابا على السياسة الأمريكية في التعاون معه إلى نقيضه وهي محاربته، وبالتالي محاربة كل من يساعده، فخرجت طالبان من جرّاء ذلك من باب المودّة والسّماح، لتدخل باب المواجهة والحرب مع أمريكا سنة 2001 وتَسقُطَ طالبان من حكم أفغانستان.
تناقض في استراتيجية أمريكا العسكرية، تمثل هذه الأيام بخروج قواتها المعدّ له منذ أكثر من سنة ونصف، بحسب الإتفاق المبرم في الدوحة بينها وبين حركة طالبان، ينظر إليه على أنه مشروع يتضمن هدفين على الأقل:
الهدف الأول توظيف طالبان في دور إزعاج إيران، وتثبيت هذا التنظيم من جديد على أرض أفغانستان، وهو الذي لا يختلف في شيء من التطرّف والإرهاب عن تنظيم القاعدة أو داعش أو جبهة النصرة، اتجهت نية غرسه كخنجر، في ظهر الحدود الشمالية الشرقية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويأتي إعادة إعلان الحركة إمارة بالأمس، للتأكيد على نفس المسار الذي كانت عليه، بما يتوافق مع السياسة الخارجية الأمريكية، في مواجهة المشروع الحضاري الذي يمثّله النظام الإسلامي في إيران، في مفتتح قرن بدأه الأمريكيون بإشعال حرائق الفتنة الطائفية في الشرق الوسط، كحلّ بإمكانه تحقيق هدف مواجهة المشروع الإسلامي الحقيقي، الذي نجحت إيران في دفعه إلى الأمام نحو النجاح والتميّز، وصرف اهتمام الجانب السّني عنه.
ما يمكن الإشارة إليه هنا أن العلاقات بين إيران وطالبان كانت مشوبة بتوتر شديد، ذلك ان الحركة تبعا لحورها المعادي، وتبريرا لأعمالها العدوانية تجاه إيران والشيعة، اتهمت إيران بتصدير المذهب الشيعي إلى افغانستان، وكأنّ طالبان تجهل أن قبائل ال(هزارة) في (باميان) و(مزار شريف) ذات أصول شيعية، وفي المقابل فإن إيران اتهمت طالبان باضطهاد الأقلية الشيعة هناك، ليس هذا فقط وإنما أيضا بقتل دبلوماسييها التسعة، ومراسل وكالة الأنباء الإيرانية في القنصلية الإيرانية بمزار شريف في سنة 8/8/1998(3)
أما الهدف الأمريكي الثاني فيبدو أنه متعلق بطريق الحرير، الذي تريد الصين الشعبية إحياءه، بمعيّة الدول الذي تمر منه إلى أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، ومحاولة قطعه من وسطه، جاء كعملية زرع كيان أفغاني يحقق هذا الفصل، وحركة طالبان ستكون خندق قطعه، وهذا يخدم فقط مصلحة باكستان، في تسهيل مرور تجارتها إلى جمهوريات آسيا الوسطى شمالي أفغانستان.
ما كان خافيا من قبل ظهر اليوم ومن باب استبلاه الناس تهافت الامريكيين على الخروج من أفغانستان دون مبرر يذكر، فالمفاوضات التي تمت بين الطرفين طوال
اتفاق السلام الموقع بين أمريكا، وممثلا عن حركة طالبان في الدوحة، بتاريخ 22/02/2020 المكون من ثلاثة أجزاء، جاء في جزئه الثاني وفقرته الثانية:
(سترسل إمارة أفغانستان الإسلامية التي تعترف الولايات المتحدة بها كدولة والمعروفة باسم طالبان، رسالة واضحة بأن أولئك الذين يشكلون تهديدا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها ليس لهم مكان في أفغانستان وستصدر تعليمات لأفرادها بألا يتعاونوا مع الجماعات أو الأفراد الذين يهددون أمن الولايات المتحدة وحلفائها. (4)
وهذا الجزء من الفصل الثاني من الإتفاق فيه دلالة على أن تضطلع طالبان بدور حماية المصالح الأمريكية في أفغانستان، بما يعفي الإدارة الأمريكية من استقدام قواتها أو ابقاءهم هناك، ما يوفّر عليها نفقات هي في غنى عنها، وطالبان اليوم تبدو الأقرب إلى المشروع الأمريكي في المنطقة من أي وقت مضى، فهل تنجح أمريكا هذه المرة في ما تأمله من أفغانستان؟ وماذا سيكون موقف إيران من هذا الوضع الجديد على حدودها الشمالية الشرقية، وحدودها الشرقية لا تزال تمثّل تهديدا أمنيّا مستمرا، من جماعات إرهابية تكفيرية، تنشط ضدها على حدود باكستان الغربية؟
المراجع
1 – طالبان https://ar.m.wikipedia.org/wiki/
2 – هل بدّلت طالبان العمامة القديمة؟
https://arabi21.com/story/1374103
3 – مقتل الدبلوماسيين الإيرانيين في مزار شريف
https://ar.wikipedia.org/wiki/
4 – نص اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان يف الدوحة
https://www.aa.com.tr/a /1750162