مرت ذكرى النكبة الثالثة والسبعين وفلسطين كلها موّحدة تقاوم خلف القدس وسيفها، غزة بالصواريخ، والضفة بالحجارة، والساحل والمثلث والجليل والنقب بالمظاهرات، في لوحة عز وشرف وكرامة، مرسومة بالدم والعرق والدموع… ذكرى النكبة المحفورة في عمق الذاكرة بحروف من ألم وحسرة ومهانة، تضرب في الوعي الجمعي للشعب والأمة بسؤال ليس له جواب مقنع : كيف استطاع كيان ناشئ بجيشه الصغير أن ينتصر على جيوش عربية عديدة، ودول عربية كبيرة، ويتمدد ليحتل كل فلسطين والجولان وسيناء، ليضع قدمه الأولى على هضبة الجولان وقدمه الأخرى على مياه قناة السويس، في غضون أقل من عشرين عاماً على قيام الكيان الصهيوني، ليكتب جيش الكيان لقب ” الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر”… فما باله يُقهر في حرب ( سيف القدس) فيعجز عن وقف صواريخ المقاومة الفلسطينية المنهمرة كحجارة السجيل فوق رؤوس مستوطنيه في مستوطنته المركزية تل أبيب ومعظم مستوطناته المُقامة على أنقاض أرضنا المغتصبة، فتنقلب الصورة لتصبح المقاومة الفلسطينية التي لا تُقهر، وما بين المشهدين شيء ما تغير.
لم يتغير الكيان الصهيوني أو الجيش الإسرائيلي، ولكن الذي تغير هو الإنسان العربي الذي يُحارب الكيان وجيشه، فقد انتهت حروب الجيوش النظامية لأنظمة حاكمة غير جادة في مواجهة الكيان الصهيوني، وكان آخرها حرب أكتوبر عام 1973 م، التي خرج بعدها الجيش المصري من الصراع، مقابل استعادة سيناء منزوعة السيادة لمصر، ثم لتكون حرب لبنان الثانية عام 1982 م، مرحلة فاصلة بين حروب الجيوش والمقاومة، فيهزم فيها قوات المنظمة شبه النظامية، وتنتصر فيها قوات حزب الله المقاومة بعد ثمانية عشر عاماً من المقاومة العنيدة، تُوجت بانسحاب الجيش الإسرائيلي مدحوراً تحت ضربات المقاومة عام 2000 م، لتبدأ في نفس العام الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد فشل المرحلة الانتقالية من اتفاقية أوسلو في تحقيق وعودها، وانتهت بأول إنجاز للمقاومة على الأرض الفلسطينية. عندما فككت المشروع الاستيطاني في غزة، وأجبرت جيش الاحتلال على الانسحاب إلى حدود القطاع، وبعد ذلك بعام حققت المقاومة اللبنانية إنجازاَ جديداَ في حرب لبنان الثانية عام 2006م، عندما أجبرت الجيش الإسرائيلي الغازي على الهروب مذعوراَ تحت ضربات المقاومة ومن ثم وقف الحرب دون أن تحقق هدفها، لتبدأ حروب غزة العدوانية الثلاثة وعشرات المعارك وجولات التصعيد، دون أن يستطيع الجيش الإسرائيلي تحقيق النصر في ميدان المعركة، أو إنجاز صورة النصر في ميدان الإعلام، وهذا شيء قريب من الهزيمة.
حقيقة العجز عن تحقيق النصر أو صورة النصر عّبر عنها وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق أفيجدور ليبرمان، بقوله: ” إنّ الحكومات الإسرائيلية توّقفت عن الانتصار منذ حرب لبنان الأولى”، ولكن ليبرمان لم يُدرك سبب توقف الحكومات الإسرائيلية عن الانتصار ، وحاول رئيس أركان الحرب الإسرائيلي أفيف كوخافي معرفة السبب عن طريق عقد ورشة عمل من كبار ضباط جيشه سّماها ( ورشة النصر)؛ لحل لغز مأزق النصر، لتجيب على سؤال : كيف يُمكن لإسرائيل أن تحظى بنصر نظيف حاسم غير قابل للشك في حروبها المقبلة؟!، ورشة العمل لم تستطع الإجابة عن هذا السؤال، لإدراكهم استحالة تحقيق النصر بالمفهوم التقليدي القديم، كاحتلال الأرض، أو تحقيق الأهداف السياسية للحرب، أو إخضاع المقاومة لإرادة الكيان، فذهبت الورشة إلى تغيير مفهوم النصر ليكون أكثر تواضعاً، يتركز حول زيادة المدة الزمنية بين جولات المواجهة، أو تقليل أمد كل جولة ومواجهة ضررها وردع العدو عن مهاجمة (إسرائيل)، وتعبيراً أكثر وضوحاً عن مأزق النصر الإسرائيلي كتب رئيس هيئة التحرير في صحيفة هآرتس مقالاً تحليلياً عقب إحدى جولات التصعيد قبل ثلاثة أعوام : ” عندما تخوض إسرائيل مواجهة انطلاقاً من هدف مُعلن فإنّ أعدائنا سينتصرون طالما أنهم لا يستسلمون”.
الشيء الأكثر خطورة على الكيان الصهيوني من مأزق النصر هو دور الصواريخ في تقويض أساس المشروع الصهيوني، فهذا الكيان قام على ثلاث ركائز مترابطة، هي : الأمن والهجرة والاستيطان، فالأمن أساس جلب اليهود الصهاينة، وهجرتهم إلى (أرض الميعاد)، والاستيطان فيها، ليحقق كل يهودي صهيوني حلمه الخاص في (أرض السمن والعسل)، ويحقق اليهود مجتمعين حلمهم الجمعي في إقامة (وطن قومي يهودي)، والصواريخ تسلب المستوطنين الأمن الشخصي والجماعي، وبدلاً من أن تكون (إسرائيل) أكثر مكان آمن لليهود في العالم، تصبح أكثر مكان خطراً على حياة اليهود في العالم، فلا يُهاجر يهود جدد إليها، بل تتحّول إلى مكان طارد لليهود فتتزايد الهجرة العكسية، فيتأثر الاستيطان سلباً، وهو جوهر المشروع الصهيوني، وفي ذلك الخطر الأمني خطراً وجودياً على دولة (إسرائيل)، وهذا ما عبّر عنه مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن جوريون بقوله :” إنّ جوهر مشكلتنا الأمنية هو وجودنا بالذات، وهذا هو المعنى الفظيع لمشكلتنا الأمنية”.
المأزق الأمني والوجودي الذي سببته صواريخ المقاومة للكيان الصهيوني في تصديها لحروب ومعارك الكيان العدوانية السابقة، تعّمق بشكل كبير وسريع في الجولة الحربية الحالية ( سيف القدس)، بسبب تطور صواريخ المقاومة كما ونوعا ومسافة، ومراكمتها لعناصر القوة المبنية على كل جولات الصراع السابقة، وإصرارها على إرادة النصر رغم ضخامة الخسائر البشرية والمادية، وإيمانها بأهمية نتائج المعركة على مسار الصراع مع الكيان الصهيوني، وما لها من تأثير هائل على الكيان في كل المجالات، أهمها: تغّير صورة (إسرائيل) القوية وجيشها القادر، أمام العرب والعالم، لتصبح (إسرائيل) الضعيفة، وجيشها العاجز. وفقدان ثقة المستوطنين اليهود في دولتهم لتصبح مكاناً غير آمن للعيش فيه، وفقدان ثقتهم بجيشهم ليصبح مؤسسة غير قادرة على حمايتهم، وفقدان ثقتهم بقيادتهم السياسية لتصبح قيادة لا تستطيع قيادتهم لبر الأمان.
وهذه النتائج المتعلقة بالجبهة الداخلية للكيان مهمة، والتي ستُساهم في تفكيك الكيان من الداخل، ككيان أوهن من بيت العنكبوت، والتي ستجعلهم ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ))، ولكن الأهم منها هو تكملة الآية القرآنية الكريمة ((وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ))، وهي النتيجة التي سيخرج بها أعداء (إسرائيل) في محور المقاومة وكل أحرار الأمة والعالم، عندما يرون عجزها أمام جبهة غزة منفردة، فكيف إذا ما انهمرت الصواريخ على الكيان من كل الجبهات مرة واحدة؟، وهذه النتيجة ستُعجل في الإعداد لحرب وعد الآخرة الفاصلة، فبعد أن صدق الله العظيم وعده بمجيء اليهود جماعات مُهاجرة من كل أنحاء العالم إلى فلسطين ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا))، وبعد أن بعث الله تعالى جيل النصر ممن يمتلكون شرطي الإيمان والقوة بقوله تعالى ((عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ))، لم يبق إلا تحقيق وعدة الآخرة حيث المعركة الكُبرى الفاصلة ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا))، فهل ستكون معركة ( سيف القدس) الحرب قبل الأخيرة؟!