عندما أتذكّر مقالة الدكتور الباحث سامي براهم، في ندوة أقامها المركز الثقافي الإيراني بالتعاون مع الجامعة التونسية، ينتابني شعور بالأسف من جرأة الرجل، على ثورة إسلامية عارمة نادر وجودها في الثورات العالمية، متباهيا بالثورة التونسية مقابل الثورة الإيرانية، ورادّا على السائل الإيراني في طهران بأن على الإيرانيين الإستقاء من ثورة الشعب التونسي.
تعبير صدر منه في بداية الاحداث في تونس، وفي اعتقاده بأن الذي حصل كان ثورة شعبية فريدة من نوعها، وفرادتها تكمن في أنها لم تكن عامة، ولم يكن لها قيادة، وكان هدف جماهيرها قاصرا على السلب والحرق والتدمير، ولم يكن في حسابهم شيء من اسقاط النظام، وتجربتهم في أحداث الخبزة كافية لتنهي أملهم في اسقاطه.
إذا ماذا بقي اليوم من أحداث شهري ديسمبر 2010وجانفي 2011 مما اعتبره سامي براهم ثورة؟ وقد ظهر جليّا اليوم ارباك شديد لمسيرة الدّولة، تسببت فيه أحزاب مبتدئة في عالم السياسة، جعلت من التمركز في السلطة هدفا لها، اغتناما لمصالح أفرادها، وتأثيرا سلبيّا في المشهد السياسي للبلاد، مما أدّى الى انهيار تام في نسبة النموّ الاقتصادي، وسقوط مستمر في المديونية، والخضوع لقرارات صندوق للنقد الدولي، الذي تتحكم فيه الدول الاستكبارية، بما يتماشى وخططها في استغلال الشعوب المدينة.
هوى الدكتور سامي براهم وحماسته يومها، لم تتح له فرصة النظر بعيدا، فكانت قصيرة قصر أنفه، بخيلائها الخادعة، غطّت عنه ثورة إسلامية كبرى أعادت خلط أوراق المنظومات السياسية العالمية، ووضعت مجددا نظرية الحكم في الإسلام موضع التنفيذ والتجربة الرائدة، وكان لها الأثر الإيجابي في بلورة الفكر الثوري الإسلامي، وتزوّد الحركات الإسلامية منه، بانفتاح طريق الحكومة الإسلامية أمام شعوبها، التي بلغت مبلغ اليأس من بلوغ ذلك المطلب المصيري، فهل كان الرّجل حينها يخادع نفسه؟ أم يتباهى أمام الإيرانيين، بما لا يمكن مقارنته بحيّ من أحياء العاصمة طهران، في تلك الأيام المباركة والحاسمة، في تاريخ إيران خصوصا والإسلام عموما، لا من حيث الحضور الجماهيري العام، ولا من حيث الانضباط في تلقّي وتنفيذ الأوامر والتكاليف الشرعية؟ والعيب هنا في غياب تلك الورقات التاريخية من أبحاث الدكتور، ولست أدري إن كانت سقطت منه بعمد أم لقلة معرفة؟
لقد مرت علينا اليوم عشر سنوات عجاف، مما رآه الدكتور براهم ثورة تونسية، افتتحت ما اصطلح عليه الغرب بالربيع العربي، ولم يكن ربيعا بعد أن تبيّن للشعوب الواقعة تحت تأثير نتائجه الكارثية، بل كان عصر شؤم، اختتمته أعمال تطبيع دول عربية مع الكيان الصهيوني، في خيانات متتالية للقضية الفلسطينية، زادتها جائحة كورونا تأثيرا سلبيّا، وتعميقا للمأساة التي أصبح عليها العالم العربي عموما، فهل تغيّر شيء بنظر كل عاقل تسأله عن حال التونسيين والعرب اليوم؟ لا أعتقد أنه سيردّ على السّائل بالإيجاب.
ومما لا وجه للمقارنة فيه بين الثورتين – إن جازت تسمية ما حصل بتونس بالثورة – يمكن القول بأن الثورة الإيرانية كان ثورة إسلامية بأتمّ معنى الكلمة، فكرا وقيادة وهدفا، وقد اثبتت ذلك، من خلال تحقيق مطمحها المشروع بقيام نظامها الإسلامي، وارسائه دستورا ومؤسسات حكم منتخبة، أثبت جدارته في عالم السياسة والقيادة، بلغ بإيران اليوم مبلغ الدول النّاجحة، في نقل شعوبها من عالم الإرتهان للقوى الكبرى، إلى حرّية وعزّة الشعوب التي رفضت الخضوع لسلطة الاستكبار العالمي، بقيادة شيطانه الأكبر أمريكا.
من المعروف أن الثورة إذا قامت ونجحت، فإنها تقطع مع عهد الدكتاتورية وأدواتها، فهل بنظر الدكتور سامي براهم، قطعت حكومات ما بعد الثورة التي تعاقبت على السلطة مع العهد البائد؟ ومن الذي جاء بأزلام الحزب الحاكم المنحل، ليدخل بعضهم في صلب حركة النهضة، ويؤسس البعض الآخر أحزابا، إنه قطعا من أسقط قانون تحصين الثورة، وليس دولة الإمارات ولا السعودية اللتين يشتكي سامي براهم من تدخلهما في الشأن الداخلي بتونس، وإن كان ذلك واقعا، لكن في اطار آخر، هدفه ابقاء تونس في مجال الإرتهان للغرب، الذي جعل منهما أداتين فاعلتين، لغواية من لم تستدرجه هاتان الدولتان من الدول العربية والإسلامية، ليطبّع مع الكيان الصهيوني.
إن إلقاء اللائمة بالتدخّل في الشأن الدّاخلي بتونس، على دول خارجية كالإمارات والسعودية وقطر وتركيا، لا يجب أن يحجب عنا مسؤولية شخصيات حزبية تونسية في فتح هذا الباب، والسّماح لهاته الدّول باستغلال هذا السّماح، خدمة لمصالحها ومصالح أسيادها من دول الغرب، إرباكا للمشهد السياسي العام في البرلمان بين الأحزاب وفي صلب الحكومة أيضا، وهذه الحال من التجاذبات العقيمة الواقعة بين السلطات الثلاثة، لا يجب أن تنسينا الدّور الرئيسي الذي اضطلعت به قيادة حركة النهضة بعلاقاتها مع قطر وتركيا، وجهودها المبذولة خصوصا في مجال التجارة الخارجية مع الاتراك والتي تسببت لنا في خسائر جمة باستيراد سلع منافسة لسلعنا الوطنية، وهو خطأ فادح، استغلّه مورّدون معروفين بانتماءاتهم الحزبية، على حساب اقتصادنا المريض.
قد لا يختلف الدكتور سامي براهم معي في القول بأن الوضع الإقتصادي والسياسي في تونس لا يبشّر بخير، وأن الثورة التونسية التي كان يراها جديرة بالإقتداء بها، لم تكن كذلك في أي مجال من مجالاتها، إن صحّت تسميتها بالثورة كما قلت سابقا، ولا اعتقد أن من بنى فكرته التمايزيّة تلك طوال عشر سنوات ونصف، سيعود أدراجه ليصحح مفهومه من الثورة عموما، ومما جرى بتونس خصوصا، مما يؤسفني هنا أن يسلب باحث لب عقله الإنتماء الحزبي، فيعميه عن الإقرار بحقائق الثورة الإسلامية الإيرانية، الساطعة كالشمس في واضحة النهار، وما قدّمته ولا تزال لقضايا شعبها والأمّة الإسلامية، من ثمار نجاح باهر في مختلف الميادين، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور.