لوهلةٍ، تعتقد أنَّك تتابع مؤتمراً صحافياً لمارتن لوثر كينغ أو جون لويس، فقد بدا أنتوني بلينكن جاداً وحاداً، رغم أنه ليس محنكاً مثل كسينجر أو جيمس بيكر، كما بدا أقرب إلى كولن باول ومايك بومبيو.
لقد حاضر الوزير الأميركي بلينكن ليلة الخميس 17 آذار/مارس بالقيم الإنسانيّة، وشكّك في سلوك الصين وما تدّعيه من دعمٍ للمبادئ الدولية، واتهمها بالسعي لتزويد موسكو بالعتاد الحربي في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وهددها بتحمل المسؤولية والتبعات ودفع تكاليف مواقفها، ونسف دورها للوساطة وسعيها لتقديم نفسها كـ”حَكَم محايد”، بعد أن رفضت إدانة “العدوان الروسي”.
تشنّ الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الاتحاد الأوروبيّ، حرباً اقتصادية على روسيا، وتفرض عليها حزم العقوبات الواحدة تلو الأخرى، وتحاول تقييد الشركات الروسية وكلّ من يتعاون معها، وهذا بالطبع يطال الشركات الصينية.
ومن اللافت أن تُختزل محادثات “القمة” الهاتفية الثلاثية بين الرئيس ماكرون والمستشار أولاف شولتس والرئيس شي جين بينغ، وتتحوَّل إلى لقاء مباشر في العاصمة الإيطالية، جمع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان مع يانغ جي تشي، المسؤول عن السياسة الخارجية للحزب الشيوعي الحاكم في الصين، في محادثاتٍ مباشرة استمرَّت 7 ساعات، لكنّها لم تقدّم إجابة واضحة عما يعنيه تعاون الشركات الصينية مع روسيا بالنّسبة إلى واشنطن وإمكانية القيام بمعاقبتها أيضاً، في وقتٍ تتحدَّث الصين مع موسكو وكييف من أجل خفض التصعيد ومنع حدوث أزمةٍ إنسانية.
قد لا يبدو اللقاء متكافئاً، فالمستشار الأميركي يملك القدرة على بتّ المحادثات، وسط الاعتقاد السائد بأنَّه الحاكم الفعلي، في حين أنَّ القرار الصيني النهائي سيتخذه الرئيس الصيني بنفسه، الأمر الّذي غلَّف اللقاء بقدرٍ من الحذر والحساسية، وأفضى في النتيجة إلى عدم وصول اللقاء إلى مبتغاه.
وفي أجواء عدم الثقة المتبادل، يعتقد قادة البنتاغون أنَّ الصّين “توافق ضمنياً على ما تفعله روسيا”، ويقيّمون “الحياد” الصيني بأنه ودّي وظاهري، وهذا في رأيهم لا يمنح الصين صفة الوسيط، في حين ترى روسيا أنَّ حياد الأخيرة يَفتَرض استثناءها ومواصلة نشاطها التجاري باتجاه الغرب.
على الرغم من سير غالبية الأوروبيين في ركب حرب العقوبات وتحقيق الحلم الأميركي بعزل روسيا، فإنَّ دول أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا لا تؤيد تطبيق العقوبات والعزلة عليها، وقد تستمرّ بطريقة أو أخرى بالتعاون معها، إضافة إلى الصين، التي تدعم الحوار، و”تدعو الولايات المتحدة إلى تقاسم المسؤولية معها في دعم الأمن والسلام العالمي”، بحسب ما صدر عن قمة بايدن – شين بينغ الأخيرة.
من الواضح أنَّ هدف سوليفان من لقائه مسؤول الحزب الشيوعي في روما، هو الضغط على الصين في الدرجة الأولى لوقف تعاونها مع روسيا، إذ أكّد أنَّ بلاده “تراقب عن كثب الدعم المادي والاقتصادي الصيني لروسيا”، وأنها “لن تتسامح وتسمح بمحاولة تعويض روسيا عن خسائرها الاقتصادية من أي بلد ومكان في العالم”.
يأتي ذلك في وقتٍ نفت كلّ من موسكو وبكين التقارير المضللة لـ”CNN” ووكالة “رويترز” حول مفاوضات مزعومة لتزويد القوات الروسية بالعتاد العسكري، أبدت الصين من خلالها استعدادها لتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لروسيا، وبنى البيت الأبيض عليها تصريحاته و”قلقه حيال التنسيق بين روسيا والصين”. وعلى أساسها، تم إرسال سوليفيان إلى روما، لتصبح ورقةً تفاوضية بين واشنطن وبكين، ويمكنها تحويل الموقف الأميركي وقلب الموازين ضد روسيا.
من الواضح أن واشنطن تسعى للضغط على الصين لفكّ ارتباطها الاستراتيجي مع روسيا، مستفيدةً أيضاً من حجم التبادل التجاري الصيني – الأميركي الذي يفوق التبادل بين الصين والاتحاد الروسي، ناهيك باستغلالها خطط الحزب الشيوعي بقيادة الصين ووعوده بالرفاهية بحلول منتصف القرن الحالي، والذي لا بدّ من أن يرتبط بعلاقاتٍ اقتصادية مهمة ومميزة مع الغرب.
ويبدو أنَّ من باب نصب الفخاخ أن تظهر إدارة بايدن حرصها على رفع مستوى التبادل التجاري مع الصين ومنحها فرصة تعويض خسائرها في فترة حكم دونالد ترامب. لا تبدو الطريق الأميركية لفكّ الارتباط الوثيق بين موسكو وبكين سهلةً وسالكة، فالصينيون متعاطفون بشكل علني مع روسيا، ومتمسكون بالشراكة الاستراتيجية مع موسكو والاحترام الكبير والعلاقات الودية بين الرئيس بوتين والرئيس شي بينغ، إضافة إلى سيرهم بثقة وراء زعامته.
وقد تكون المبادئ الصينية التي حاول بلينكن التشكيك فيها والتصويب عليها نوعاً من الاختبار والإحراج في مسائل التعدي على السيادة في تايوان، وتشجيع المعارضة في هونغ كونغ، والتطلعات الانفصالية عموماً، وتلك القائمة في أوكرانيا خصوصاً.
أخيراً، لا تبدو الصّين مهتمة بوقف تجارتها وأسواقها التصديرية، وبارتفاع أسعار الحبوب والنفط والغاز، في وقتٍ ترى أن العملية العسكرية الروسية الخاصة فرضتها واشنطن لأهدافها ومصالحها الخاصة، وأنها لن تطول، وخصوصاً مع ميل غالبية الدول التي تدور تحت دائرة الهيمنة والضغوط الأميركية إلى وقفها، وأن الصين قادرة على أداء دور الوسيط والتوصّل إلى حلول، والأهم أنّها، بتاريخها وقيمها وحجمها السياسي والاقتصادي والعسكري، لن تخضع للإملاءات الأميركية وضغوطها وفخاخها، وتدرك تماماً أنَّ واشنطن الّتي فشلت في احتواء موسكو وإخضاعها تحاول اختراق سور الصين العظيم.
الوسومافول امريكا ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
72 ساعة لولادة الشيطان الجديد.. أمريكا بلا مساحيق التجميل…بقلم م. ميشال كلاغاصي
ساعات قليلة تفصل العالم عن متابعة الحدث الكبير, ألا وهو الإنتخابات الرئاسية الأمريكية, و”العرس الديمقراطي” …