ما الذي تستهدفه الميديا.. وكيف تستهدفه؟
أمام سؤال كهذا لا أحد ينجو من «معرّة» المفارقة غير أولئك الذين يملكون الشجاعة لرفع اليدين اعترافاً بنواعير المهنة حيث لا مجال للتغاضي، لأنّ أوّل ضحية للمؤامرة على الذّهن البشري في لعبة الوسائط هي المهني نفسه، هو سعيد بامتلاكه أدوات التّوسط بين الخبر الخام والمصنّع، لكنه في حقيقة الأمر هو جزء من ماكينة طويلة تغيب فيها المقدمات الأولى وتختفي رؤوس العصائب.
ولكي نضع اليد على الجرج فإنّ الإعلام فيما آل إليه الوضع يحتل تخوم الوعي ويتحرك على طبقات الإدراك ويصيب الغدّة الصنوبرية بالشّلل المزمن.
لم تعد الأمّية هي المشكلة الأخطر بقدر ما أنّ المشكلة تكمن في مناهج التعليم نفسها
وتكمن المشكلة في تدني مستويات الإدراك، وأخصّ بالذّكر نوعية الإدراك الملتبس الذي تفرزه أشكال التّعلّمات التي توحي بأنّها «تحقق الغرض» بينما هي تفتح حياة الكائن على المجهول فيما يتعلّق بإمكانية المعرفة.
لم تعد الأمّية هي المشكلة الأخطر بقدر ما أنّ المشكلة تكمن في مناهج التعليم نفسها، ويكمن الخطر في طبيعة الإدراك الناجم عن برامج محو الأمية بمستوياتها المضللة أو ما أسميه «محو الأمية تمهيداً لمستوى آخر من التجهيل» هو نفسه الذي يضعنا أمام الفارق بين الجهل البسيط والجهل المركّب.. نمحو أمية الإدراك الأدنى لتكريس إمية الإدراك الأعلى.. علينا أن نلتفت إلى هذه الحقيقة التي نستطيع استخلاصها من تأمّل ظواهر الوعي، أي ما يمكن أن أعبّر عنه كالآتي:
1- إنّ قوى الإدراك لا تعمل بالطريقة نفسها وبالشحنة ذاتها بل هي تخلق أشكالا من البرمجة تجعل طريقة تلقّي الحقيقة في بعض مستويات الإدراك غيرها في مستويات إدراكية أخرى. وتسعى الإمبريالية بسائر أذرعها القائمة على استغلال كل ما له علاقة بالمعرفة بوصفها رأسمالاً لاحتواء الفعل الإدراكي كجزء من السيطرة على موارد الإنسان، وتصبح استراتيجيا التعلّمات وسيلة لتمكين الأمم من تلقّي المعرفة من دون حسّ نقدي ولا ملكة إبداعية، إنه تهييئ الذّهن لتلقّي المعلومة الغالبة، والغلبة هنا تعيدنا إلى مفهوم العصبية والغُلب باعتبارها موصولة بصيرورة القوة. وتتجلّى مظاهر الغلبة في الوسائل والقدرة على السيطرة على الوسائط واستهداف جهاز التّلقي عند الإنسان بدل تفجير وعيه النقدي الحقيقي. وتواكب هذه العملية ثقافة أخرى تضليلية تدفع باتجاه تمسّك الإنسان بحقه في السّؤال من دون أن تمنحه هذا الحقّ نفسه في امتلاك أدوات تدبير السّؤال والمشاركة في مكتسباته، ما ينتج مجتمع الغوعاء.
2- تمكّن الإمبريالية من خلال كل طبقاتها الوظيفية الكائن من الشراكة في المفاهيم، لكنها لا تمكّنه من أدوات ومعطيات تدبير تلك المفاهيم.. يشبه الوضع حالة عبيد كلّما رقصوا تنفيساً عن أنفسهم لن يفعلوا سوى تأمين فرجة لأسياد الحقل، ففي نهاية المطاف لابدّ من تمكين العبيد من بعض الملكات، فرقصات العبيد داخل حقل السيطرة لا تزعج «السّادة».
للإمبريالية اليوم باع طويل وخبرة في «ترويض العبيد» وتدبير أشكال الحريات والتعلّمات الزائفة، وتكمن الخطورة في طبيعة احتواء أساليب إنتاج الوعي والاحتفاظ بحق برمجة الشّعوب، وهي برمجة عميقة يخضع لها المغفلون من الشعوب ولن يكونوا في أغلب الأزمنة إلاّ مغفّلين، سواء في ركونهم أو ركودهم، قابلين للإخماد قدر قابليتهم للحراك.
3- يبدو الإعلام اليوم «إجهالاً» مُقنّعاً، يضع بدائل عن الواقع والحقيقة ويستثمر في التجهيل، وكل شيء يتمّ بمظاهر غوغائية مُقنّعة باسم المهنية. تخشى الإمبريالية وأذرعها من خسران معارك الإعلام، وهي خسارة تفوق خسارة الحرب المادية، ولأنّ لها باع كبير في صناعة العبيد والتّحكّم بالغدّة الصنوبرية للبشر فهي تدرك أنّ هذا «الحيوان العاقل» هو أكثر الحيوانات ضحية للعقل أيضاً، لأنّ الحيوانات تخلق معها غريزتها كاملة بينما الكائن البشري وحده المخلوق الذي يعيش في انتظار اكتمال الفصل المقوِّم لماهيته. فهو أطول الكائنات عمراً لأنه أكثرها تأخّراً في بلوغ كمال ناطقيته وتحقق شأنيته كإنسان، فالحمار مثلاً يكتسب «حماريته» منذ بدايته، بينما الإنسان يتأخر وقد لا يظفر بإنسانيته مطلقاً، ولكنه يعيش ككائن متاخم وملتبس الماهية، فهو الكائن المشبوه الوحيد من كل الكائنات الأخرى.
4- تؤمّن المنظّمات الإعلامية عملية الرّقابة والتّوسّط بين الحقيقة والمتلقّي وفق إعادة برمجة الحقيقة وجهاز التّلقّي نفسه وكلّ شيء آخر في إطار حرّية انتقال المعلومة وتقنية صياغة الخبر. تمكّن التعلّمات المدرسية المتلقّي وتهيّئه لاستقبال البرمجة الخبرية في تكامل وظيفي، «فالحقيقة هي ما نقرؤه في الصحف وما نسمعه ونراه في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية»، ولو كانت تلك المهارات عبقرية لما أتيحت للقوى الرجعية أن تهيمن على معظم الميديا العربية، ولكنها تظلّ وسيلة ناجعة لتدبير الملكات الإدراكية الدُّنيا «للقطيع»، ومنحه القدرة على شكل من المراقبة الذاتية على جهله وإعادة إنتاج تخلّفه بحرية واستقلال، وهذا يعني أنّنا لم نعد بحاجة إلى مواكبة وتحكّم بل أصبح بالإمكان الاستقلال بالقدرة على إنتاج التّخلّف.
5- استطاعت الإمبريالية أن تحتوي الذّهن البشري وتبرمج المجتمع، فالإعلام (= الإجهال) حتى حينما تجري مخرجاته على لسان المحلّي المتشحّط في جهله والمتكلّف في استقلاليته وموضوعيته، فللجهل عدوى اجتماعية والإنسان في مداركه الإدراكية السُّفلى يصبح كائناً غوغائياً.
لقد بات الإنسان أكثر استهلاكاً للخبر، لكنه استهلاك لمادة مصنّعة تستهدف على المدى البعيد آخر ملكات التّعقّل الحقيقي، وحيث تنشأ وقائع بديلة يكون ذلك مؤشّراً على نهاية الوعي، وحتى الآن لا يعي الكائن أنه بصدد التفاعل مع وقائع مختلقة. وأمام هذا الهوس «الإجهالي» فإنّ مصير الحياة على هذا الكوكب بات مجهولاً.
6- يأخذ معظم الإعلام طابع الغوغائية لأنّه معنيّ بالتكرار الذي وحده يمكنّنا من محق الغدّة الصنوبرية وتقويض العين الثالثة ما يجعل الكائن في حالة جمود وقابلية للبرمجة التي تحدّد له آفق التّعقّل المشروط، أي القدر المتاح من الملكات للقيام بمهمّة الزّيف وإعادة إنتاجه.
*كاتب من المغرب