أمضت إيران والعالم ساعات من الترقب والإنتظار والقلق, وسط عمليات البحث المكثف عن المروحية التي تقل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان ومرافقيهم , يومٍ الإثنين 20 أيار/مايو, وللأسف انتهت الساعات الطويلة بإعلان جمهورية إيران الإسلامية خبر سقوط المروحية واستشهاد الرئيس إبراهيم رئيسي والوفد المرافق له, وعلى الفور تم إعلان الحداد الوطني لمدة خمسة أيام على أرواح الشهداء الذين كانوا على متن المروحية أثناء عودتهم من الحدود مع جمهورية آذربيجان إلى مدينة تبريز، بعد افتتاح سد “قيز قلعة سي” بمشاركة الرئيس الآذربيجاني الهام علييف, لحظات حزينة وصادمة, تلقى فيها الإيرانيون والعالم أجمع خبر استشهاد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي, ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان, وإمام صلاة الجمعة في تبريز آية الله محمد علي الهاشم، وحاكم أذربيجان الشرقية مالك رحمتي وطاقم المروحية, وتم الإعلان عن مراسم التشييع الرسمية في 21/أيار.
لم يكن الرئيس الشهيد شخصاً عادياً, وقد عرفه العالم كرئيس متزن وقوي للجمهورية الإيرانية, وعرفه شعبه كرئيس محب ومتابع لشؤون وتفاصيل حياة وهموم شعبه اليومية, وقدم لبلاده الشيء الكثير من خلال جهوده الجبارة وعمله المتواصل, وهو الذي عرف كيف يقود بلاده للخروج من تحت العقوبات الأمريكية وغيرها, كذلك عرفته دول الجوار كرئيس باحثٍ عن تعزيز أمن واستقرار المنطقة والإقليم والعالم, بعدما رأى ولمس الجميع جهوده لإحلال السلام, وأياديه الممدودة بالمحبة والخير حتى لمن أخطأوا الحساب والمعاملة, كذلك عرفته فلسطين المحتلة ومقاومتها الباسلة كأحد أهم المدافعين والداعمين لنصرة القضية الفلسطينية, بإعتبارها أكبر قضايا المظلومية البشرية في تاريخ الكوكب, وعرفته فصائل المقاومة وأحزابها وجميع مناهضي المشروع الصهيو – أمريكي على أرض فلسطين المحتلة, وعرفته سوريا ولبنان واليمن والعراق وكافة الدول العربية, وعرفته الدول الكبرى والناشئة القريبة والبعيدة, من الصين إلى روسيا وتركيا وفنزويلا وغيرها من الدول والأمم , كزعيمٍ مشارك في تطوير العلاقات الدولية, وبإزدهار وسلام الكوكب, وعرفه أعدائه أيضاً رجلاً حكيماً شجاعاً قوياً إن قال فعل, وإن واجه حسم وإنتصر .
قلائل هم الساسة حول العالم الذين يملكون سيرةً وخبرة تعادل خبرة الرئيس الشهيد, التي راكمها من خلال المناصب المختلفة التي ناضل فيها عبر مسيرته كرجل دولة من الطراز الرفيع, فقد شغل منصب رئيس الجمهورية ثلاثة أعوام (2021- 2024), وخاصة في السلطة القضائية، كنائب لرئيس المحكمة العليا (1994-2004)، ومدعياً عاماً للبلاد (2014–2016)، ورئيساً للمحكمة العليا (2019–2021).
وكان الرئيس الشهيد من دعاة القيم المحافظة القائمة على التعاليم الدينية الصارمة والمبدئية, بالإضافة إلى السلوكيات والأدبيات الأخلاقية والقانونية, ومع ذلك اتسمت فترة ولايته الرئاسية اتسمت بالبراغماتية, التي منحته القدرة على نسج السلام ما بين إيران والمملكة العربية السعودية، وتجاوز فترات العداء وتوتر العلاقات بينهما لعقود, بسبب الخلافات التي غلّفها الغرب تحت عنوان الخلافات السنية الشيعية, واستغلال هذه الرواية في المنافسة الإقليمية, وكذلك في الصراعات التي ساقها الغرب تحت مسمى “الربيع العربي”, ومع ذلك كان من تجليات حكمته وبعد نظره, عمله على تطوير العلاقات الثنائية مع المملكة السعودية, من خلال الوساطة الصينية, وزيارته التاريخية إلى الصين في شباط/فبراير الماضي، كأول رحلة يقوم بها رئيس إيراني إلى الصين منذ أكثر من 20 عاماً.
ولم يقتصر النهج الذي اتبعه الشهيد على المملكة العربية السعودية فحسب، بل شمل أيضا عدداً من الدول الأخرى، بما في ذلك الكويت وليبيا ومصر والسودان وغيرها، ودول الفضاء الأوراسي, وتركيا على الرغم من الخلافات العميقة حول سوريا ومنطقة القوقاز.
كما ساهم بدفع العلاقات مع روسيا إلى مستويات متقدمة ورفيعة على صعيد التفاهم والتعاون المتبادل العميق, الأمر الذي تمت ترجمته مع بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، حيث أعلنت إيران دعمها الكامل لروسيا في الحرب التي يشنها الناتو والإتحاد الأوروبي وغير أحلاف غربية على روسيا.
ومن خلال العلاقات الثنائية المتطورة مع روسيا, وعلاقات الصداقة وحسن الجوار, قام الرئيس بوتين بزيارة رسمية إلى طهران في تموز/يوليو 2022، جرت فيها محادثات ثلاثية مع تركيا بشأن سوريا، فضلاً عن المحادثات بين رئيسي روسيا وإيران، التي أكدت التزامهما بتعزيز العلاقات .. واليوم وفي أجواء الحزن العميق, شارك الرئيس الروسي في تشييع الرئيس الشهيد, وقدم تعازيه للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، مؤكداً دور “رئيسي” الهام في تطوير العلاقات بين روسيا وإيران, وبجهوده للإرتقاء بها إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية.
وخلال فترة توليه الرئاسة، حصلت إيران على كامل عضويتها في منظمة شنغهاي للتعاون, ومجموعة البريكس، والتي من دون شك عززت تأكيد التزام إيران بإنشاء نظام عالمي أكثر عدالة ومتعدد الأقطاب, كذلك وسعت إيران علاقاتها الإقتصادية مع الدول الأوراسية, ووقعت عام 2023 اتفاقية التجارة الحرة الدائمة مع الإتحاد الإقتصادي الأوراسي.
كما شهدت رئاسة رئيسي أول مواجهة مباشرة بين الجمهورية الإسلامية و”إسرائيل”, من خلال صراعٍ مستمر منذ إعلان الثورة الإسلامية في إيران عام 1979, وذلك بعد إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023, ونتيجةً للتصعيد الإسرائيلي والعدوان غير المسبوق على أهداف ومواقع مدنية ودبلوماسية إيرانية خارج حدودها, وتحديداً في أعقاب الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق في نيسان الماضي, والتي أسفرت عن استشهاد العديد من المسؤولين الإيرانيين رفيعي المستوى, ومن بينهم اللواء محمد رضا زاهدي، لكن إيران لم تتأخر وردت بإطلاق مئات الصواريخ والطائرات بدون طيار على مواقع عسكرية داخل الكيان الإسرائيلي, وعلى الرغم من الخدمات العسكرية لعديد الجهات والدول كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والأردن, تم إسقاط العديد من الصواريخ والطائرات بدون طيار، لكن ذلك لم يمنع إيران من ضرب الأهداف التي قصدت إستهدافها, في أقوى ردٍ وهجومٍ عسكري يتعرض له الكيان الغاصب, حيث أظهرت إيران قدراتها العالية للرد على مختلف التهديدات, الأمر الذي دفع الأمريكيين والإسرائيليين وكل من يناصبون إيران العداء للتفكير بإعادة تقييم الوضع الإقليمي ودور إيران في القضايا الإقليمية والدولية.
أخيراً … من المهم الإشارة إلى بيان الحكومة الإيرانية, والذي وصف الرئيس الشهيد بـ “المجتهد الدؤوب”، الذي ” تفانى في خدمة الشعب الإيراني العظيم من أجل تنمية وتقدم البلاد، والذي وفى وعده وضحى بحياته من أجل الأمة”.
مما لا شك به أن رحيل الرئيس إبراهيم رئيسي والوزير حسين أمير عبد اللهيان ورفاقهم, هو رحيلٌ حزين, لكن يبقى عزاء الشعب الإيراني وشرفاء العالم ومؤمنيه بأن الشهداء يرحلون جسداً ويَحيون فكراً ونهجاً وحباً وذكرى لا يمحوها الزمان.
* كاتب وخبير استراتيجي