نتيجة المخاوف الأمريكية من التهديدات الإيرانية بمحاسبة من سيشاركون في الرد الإسرائيلي على إيران, ومن سينفون علمهم المسبق به, حرمت الإدارة الأمريكية الكيان الإسرائيلي سياسة الغموض وعدم تبنيه الفوري لعملياته العسكرية, ووضع الخطة الإعلامية لما بعد التنفيذ, واضطر نتنياهو للإعلان المسبق عن تنفيذ وعيده بالرد والهجوم على إيران, لإثبات قوة الكيان وقدراته على “سحق إيران”.
حيث قامت القوات الإسرائيلية فجر أمس الأول بشن غارة جوية على إيران، رداً على الضربات الصاروخية التي كانت إيران قد وجهتها للكيان الإسرائيلي مطلع الشهر الحالي, واستمر الهجوم لمدة 4 ساعات, استهدفت من خلاله – بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية- 20 موقعاً عسكرياً موزعة على 6 محافظات إيرانية, وبطاريات صواريخ أرض – جو, وأنظمة أخرى”, وذلك عبر استخدام أسراب مؤلفة من 100 طائرة مسيرة وطائرات الـ F-35 وصواريخ بالستية بعيدة المدى, أطلقتها من الأجواء العراقية والسورية, على أهداف عسكرية إيرانية, في حين أنها لم تجرؤ على استهداف مواقع نفطية ونووية تحسباً للتهديدات الإيرانية.
لكن الهجوم الإسرائيلي تعرض إلى صدمةٍ كبيرة في الشكل والمضمون, وأثبت بأنه الأكثر فشلاً عبر التاريخ, على الرغم من إثارته ضجيجاً إعلامياً تباين على طرفي نقيض, فقد اعتبر نتنياهو أن الضربة الإسرائيلية كانت “دقيقة وقوية”وحققت جميع أهدافها, في الوقت الذي أكد فيه بيان المتحدث بإسم قوات الإحتلال الإسرائيلي “دانيال هاغاري” استهداف منشاّت تصنيع الصواريخ التي أطلقتها إيران على إسرائيل” العام الماضي”, وبقصف منظومات الدفاع الجوي الإيرانية أرض – جو, وقدرات إيرانية أخرى, وحذر طهران بأنها “ستدفع ثمناً باهظاً إذا ارتكبت خطأ البدء بجولة تصعيدٍ جديدة”, واختتم بيانه بالقول:” تم تنفيذ الضربة الإنتقامية وعادت طائراتنا بسلام”.
وعلى المقلب الإيراني, وفور إنتهاء الهجوم, كانت الحياة تسير بشكل طبيعي في شوارع طهران وباقي المحافظات الإيرانية, فيما وذهب البعض ليعتبره هجوماً مسرحياً ضعيفاً, والبعض الاّخر إلى أنه هجومٌ متفقٌ عليه بين كلا الطرفين.
لكن الرد الإيراني الذي أطلقه المرشد الإيراني الأعلى السيد علي خامنئي تحلى بالصدق والواقعية والشفافية وبالذكاء, وفتخ باب الإستثمار السياسي لهزيمة الكيان السياسية أيضاً إضافةً إلى الهزيمة العسكرية, حيث إعتبر سماحته أن الإسرائيلين أخطأوا وبالغوا في الأمر بطريقة خاطئة, وطالب الإيرانيين “بعدم التقليل من أهمية الهجوم الإسرائيلي, وبعدم تضخيمه أيضاً”, كذلك طالب المسؤولين الإيرانين بتحديد أفضل السبل لإظهار قوة إيران”, في الوقت الذي دعا فيه النائب البرلماني محمد رضا صباغيان إلى “إعادة النظر في العقيدة الدفاعية والنووية”, وضرورة أن تملك إيران ما يمتلكه هؤلاء الأشرار لحماية نفسها.
في وقتٍ أكد فيه قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي أن فشل العدوان يؤكد “خطأ الحسابات وعجز الإحتلال في مواجهة المقاومة في غزة ولبنان”, كذلك صدر عن مقر الدفاع الجوي الإيراني بيان أكد “التصدي للعدوان بنجاح من قبل منظومة الدفاع الجوي المتكاملة, ما أدى إلى وقوع أضرار محدودة, ودعا البيان المواطنين الإيرانيين الى الحفاظ على التضامن والهدوء, ومتابعة وسائل الإعلام الوطنية, وعدم الالتفات إلى الشائعات التي تروجها وسائل إعلام العدو”.
وفي بيانات رسمية أصدرتها كل من السعودية والإمارات وقطر والكويت سلطنة عمان والجزائر ومصر والأردن والعراق ولبنان, وماليزيا وتركيا وباكستان, التي اعتبرت بمجملها أن الهجوم “انتهاكاً للقوانين والأعراف الدولية”، وتهديداً لإستقرار المنطقة, في الوقت الذي أطلقت فيه سورية موقفاً أكثر عمقاً, واعتبرت أن “العدوان الإسرائيلي السافر يمثّل انتهاكاً صارخاً لسيادة إيران، وخرقًاً لميثاق الأمم المتحدة”، وأكدت على “دعمها حق إيران في الدّفاع عن نفسها وحماية أراضيها وأرواح مواطنيها”.
في الوقت الذي أدانت فيه عديد الدول حول العالم الرد الإسرائيلي, وخرجت دعوات “ضبط النفس” من إيطاليا والهند وألمانيا التي دعا مستشارها شولتز إلى “إنهاء دوامة التصعيد”, في حين خرجت التعليقات المرتبكة من بعض داعمي الكيان وأصدقائه, كالمتحدث بإسم مجلس الأمن القومي “شون ثابت” الذي أكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها, وبأن الهجوم أتى في إطار الرد على الهجوم الإيراني مطلع الشهر الحالي, كذلك كرر الوزير البريطاني “كير ستارمر” الإسطوانة ذاتها, وحض جميع الأطراف على ضبط النفس, وتمنى على إيران ألاّ تقوم بالرد.
وكان من اللافت أن يترأس نتنياهو بعد الهجوم اجتماعاً تقييمياً طارئاً في قاعدة كيريا العسكرية, حضره وزير الحرب الإسرائيلي ورئيس أركان الجيش ورئيس الموساد ورئيس الشاباك, وتم إعلان حالة الطوارئ, في دليل واضح على أن الهجوم لم يكن ساحقاً كما وعد نتنياهو قبل وبعد الضربة, وبأن الدفاعات الإيرانية نجحت بإجهاض الهجوم, الأمر الذي يؤكد بلوغ إيران مرحلة السيطرة على ضربات العدو الإسرائيلي, وبأن القدرات الإيرانية باتت أكبر من قدرات العدو الإسرائيلي, وعليه يتأكد للجميع أن الهجوم كان محدوداً ولم يطال المنشاّت النفطية والنووية, واقتصر على حفظ ماء وجه الكيان.
من اللافت أن إجهاض إيران الهجوم الإسرائيلي, تم بالاستفادة من معلومات إستخبارية قدمتها روسيا, في تأكيدٍ على أهمية التعاون البيني للحد من التصعيد في المنطقة, ومن خلال الإتفاقيات العسكرية بين طهران وموسكو والصين وكوريا الشمالية, وبأنه من الأهمية بمكان الإعتماد على منظومة الدفاع الروسي S-400 للتعامل مع الصواريخ المعادية سواء كانت بالستية بعيدة المدى أو صواريخ الكروز وحتى الفرط صوتية, وللتعامل أيضاً مع الضربات التي توجهها طائرات الـ F-35 , الأمر الذي أجبر نتنياهو على عدم زجها في الخطوط الأمامية خشية إسقاطها, وطالب جنرالاته بإعداد خطط جديدة لقصف منشاّت الإيرانية دون الدوخل في نطاق منظومة الـ S-400 , بالإضافة إلى الإعتماد على “درع الصين الصامت الليزري” الذي حصلت عليه إيران مؤخراً, لتأكيد أهمية العلاقات الإيرانية الإستراتيجية مع تلك الدول , ولإيصال الرسالة بأن التعاون المشترك أصبح قيد العمل, وبأن حلفاء إيران معنيين بإنتصارها, وبأهمية خلق تكتلٍ عسكري بمواجهة الناتو , وبأن واشنطن وحلفائها غير قادرين على المس به.
ومن حيث النتيجة, استعدت “إسرائيل” على مدى شهر كامل للرد العسكري على الضربات الإيرانية الأخيرة, وهددت وتوعدت ونفذت هجوماً فاشلاً, استطاعت إيران إجهاضه دون عناءٍ كبير, وتحويله إلى هزيمة عسكرية, بالإضافة إلى الهزيمة السياسية, التي نتجت عن بيانات الإدانة العربية والدولية, والرسائل التي تلقتها حكومة العدو حول التحالف الإستراتيجي لإيران وحلفائها, ناهيك عن إنتظارها مجدداً الرد الإيراني, الذي تستطيع إيران بحنكتها السياسية استثماره للتفاوض على وقف العدوان الإسرائيلي في غزة ولبنان, الأمر الذي يعتبر نصراً استراتيجياً لمحور المقاومة مجتمعاً, بما يؤكد التخبط الإسرائيلي – الامريكي, وبالهدية المجانية التي قدماها لإيران من خلال الهجوم الفاشل.
م. ميشال كلاغاصي // كاتب وباحث استراتيجي