قبل أكثر من عام، تساءل السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين قائلا “بعد 16 عاما، هل دافعو الضرائب في أميركا راضون على المأزق الذي نحن فيه؟ لا أظن ذلك”. كان تعليق ماكين إشارة واضحة إلى ما تحمّله الأميركيون من نفقات بأرقام فلكية لتمويل حروب بلادهم في الخارج ضد ما يسمى “الإرهاب” عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
ويقدر معهد “واتسون” للشؤون الدولية والعامة التابع لجامعة “براون” الأميركية في دراسة حديثة؛ أن تناهز تكلفة حروب أميركا على الإرهاب منذ تلك الهجمات وإلى غاية العام 2019 نحو 5.9 تريليونات دولار. وتشمل هذه التكلفة النفقات المباشرة وغير المباشرة للحروب، ومستحقات الجنود القدامى ونفقات رعايتهم الصحية، وهي نفقات تخص وزارات الدفاع (بنتاغون) والخارجية والأمن الداخلي.
ويقول المعهد البحثي إن تقديراته لتكاليف هذه الحروب الأميركية تختلف عن تقديرات البنتاغون، لأن تقديراته لا تتعلق فقط بالنفقات في مناطق الحروب مثل سوريا والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها، وإنما تتضمن أيضا نفقات مختلف مؤسسات الحكومة الاتحادية لمواجهة تبعات هذه الحروب، ولا سيما قيمة الفائدة على القروض الضرورية لتمويل نفقات الحروب ورعاية الجنود القدامى.
وتشير الدراسة إلى أن البنتاغون يتوقع إنفاق 80 مليار دولار على عمليات الطوارئ الخارجية بحلول العام 2023، وإذا استمرت حروب واشنطن على الإرهاب إلى غاية العام المذكور فسيكون عليه صرف مبلغ إضافي بقيمة 808 مليارات، لترتفع الكلفة المباشرة وغير المباشرة إلى 6.7 تريليونات دولار، وهو مبلغ لا يتضمن فوائد الديون.
ويشير معهد واتسون إلى أن الجيش الأميركي لا يخطط لإنهاء الحروب الناتجة عن هجمات 11 سبتمبر في العام الحالي أو العام المقبل، بل إن توقعات وزارة الدفاع تقول إن عملياتها العسكرية في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا تحتاج مخصصات مالية إلى غاية العام 2023.
وينبه تقرير المعهد إلى أن تقييم كلفة حروب أميركا على الإرهاب مهمة صعبة، إذ لا تنحصر فقط في نفقات العمليات العسكرية المباشرة، وما يرتبط بها من نفقات غير مباشرة، بل إن هناك خسائر بشرية وكلفة مالية، فهذه الحروب الممتدة منذ 17 عاما قتل فيها مئات الجنود الأميركيين وجرح فيها آلاف آخرون، وقضى فيها مئات الآلاف من المدنيين في تلك الدول وخلفت ملايين اللاجئين.
خريطة انتشار القوات الأميركية في الشرق الأوسط (مركز تشاتام هاوس)
من أين الأموال؟
تموّل أميركا حروبها ضد الإرهاب في العراق وأفغانستان ودول أخرى بواسطة عجز الميزانية الناتج عن الاستدانة، وليس بفرض ضرائب جديدة أو سندات للحرب.
ويزيد من ضخامة تمويل الحروب فوائد القروض التي تستدينها واشنطن لمواجهة إنفاقها. ويتوقف حجم هذه الفوائد على عدة عوامل، أبرزها أداء الاقتصاد الأميركي، ومعدلات الفائدة المعتمدة، والسياسة الضريبية للحكومة الأميركية، ونسبة الادخار على الصعيد الأميركي.
تقديرات البنتاغون
تحصر وزارة الدفاع الأميركية تقييمها لحجم تمويلها للحروب على الإرهاب التي تلت هجمات 11 سبتمبر في نفقاتها العسكرية فقط، ولا تدرج فيها مختلف أوجه الإنفاق الحكومي على بنود أقرت كرد فعل على الهجمات المذكورة.
ففي مارس/آذار 2018، قال البنتاغون إن حجم الإنفاق على حروب البلاد عقب الهجمات ناهز 1.5 تريليون دولار، ويتوقع أن يرتفع الرقم إلى 1.7 تريليون بنهاية العام الحالي. وفي أغسطس/آب الماضي أقر الكونغرس الموازنة الجديدة لوزارة الدفاع للعام 2019، التي خصصت تمويلات جديدة لحروب الإرهاب بقيمة 70 مليار دولار.
كما أقر الكونغرس نفقات أخرى مرتبطة بتمويل الحروب، ولا سيما تمويل عمليات الطوارئ التي تنفذها وزارة الخارجية، وهي تدعم المجهود الحربي الأميركي في مناطق الحروب.
جدول يظهر حجم الإنفاق على العمليات العسكرية الأميركية في مناطق الحروب الرئيسية (معهد واتسون)
عاملان حاسمان
ويقول تقرير معهد واتسون إن ثمة عاملين سيحددان الاتجاه الذي ستحكم الإنفاق على حروب أميركا على الإرهاب مستقبلا صعودا أو هبوطا، وهما: عامل الخيارات المستقبلية للقيادة الأميركية بشأن تمويل الحروب ونفقات مرحلة ما بعدها، إذ بإمكان واشنطن أن تذهب باتجاه زيادة الضرائب لمواجهة نفقات حروبها.
وأما العامل الثاني فهو طول مدة هذه الحروب، إذ سيحدد طولُها أو قصرها أوجهَ الإنفاق بمختلف مستوياته، بما فيها نفقات وزارتي الدفاع والخارجية. ومن بين هذه المستويات سداد مستحقات الجنود القدامى، وتوفير الرعاية الصحية لهم وللمعاقين منهم، لا سيما أنه يتوقع أن يفوق عددهم 4.3 ملايين فرد بحلول العام 2039.
وضع الحروب
في الوقت الذي توجد فيه الحرب الأميركية بأفغانستان في وضع الجمود، قلصت واشنطن عملياتها العسكرية في كل من سوريا والعراق بعد إزالة خطر تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان يسيطر على مساحات واسعة في البلدين.
غير أن الإشكالية تكمن -بحسب تقرير المعهد البحثي- في غياب إستراتيجية لإنهاء هذه الحروب في المناطق المذكورة، على أمل أن تستطيع القوات العراقية والأفغانية تحمل مسؤولية حماية أراضي البلدين بصفة كاملة. وفي المقابل زادت الولايات المتحدة من عملياتها العسكرية في أفريقيا واليمن.
وتشير دراسة المعهد إلى أن عدم وجود خطة لإنهاء هذه الحروب، واستمرار إنفاق مبالغ ضخمة على هذه الحروب، يمثلان مشكلة للميزانية الأميركية على المدى الطويل، لأن تمويل هذه الحروب يتم عبر الاستدانة، وهو ما يفاقم عجز الميزانية بشكل مطرد.
وينبه معدو الدراسة إلى ملاحظة أساسية وهي أن ميزانية البنتاغون بقيت في مستويات مرتفعة حتى عندما قلصت أميركا إنفاقها على الحروب، إذ لم تخضع هذه الميزانية منذ هجمات 11 سبتمبر لكبير انتقاد من السلطة التشريعية.
فالكونغرس درج على التعامل مع الموضوع على أساس أن البنتاغون يستحق كل زيادة في إنفاقه، بغض النظر عن كلفته وفعاليته ومدى ترشيده.
ولعل الكلفة الباهظة جدا لحروب أميركا هي التي جعلت الرئيس دونالد ترامب ينتقد بشدة في بداية ولايته الرئاسية ضخامة إنفاق إدارة الرئيس السابق باراك أوباما على حروب أميركا في الخارج. كما تفسر إصراره على أن تدفع دول منطقة الشرق الأوسط الغنية مقابل تأمين واشنطن الحماية لها.
المصدر: الجزيرة نت