هشام البوعبيدي |
لم يعرف العالم العربي عبر تاريخه السياسي قديمه وحديثه –على الأغلب- تجارب حكم ناجعة، بقدر ما كانت أنماطا سلطوية تستند في مشروعيتها على شعارات دينية-طائفية أو نضالية-قبلية، تدعو للتسامح ولا تعمل به، وتمجّد الوطنية وهي أكبر الخائنين، وتحتكم للدين وهي أكثرهم انحرافا عنه، فنتج عن هذا التضامن المسخ والتحالف الهجين بين السلطة السياسية العشائرية والسلطة الفقهية الدينية أسوأ نظام حكم عرفته البشرية، وإذا كانت أروبا قد تخلّصت منه ابّان ثورتها في العصر الحديث ممّا أسهم في نهضتها، فإن العالم العربي والاسلامي على العكس من ذلك ظل في بوتقته خارج أطر الزمن متدثّرا بغطاء الجمود والانغلاق والاصولية، يجترّ كوابح فكرية عقيمة حالت دون انخراطهم في التاريخ.
ولعلّ من أكبر المصائب التي بلينا بها والتي كرّستها أنظمة الحكم التي تواترت علينا، هي تحويل وجهة الولاء للوطن الى شخص الحاكم المستحوذ على السلطة بكل ما يحمله اللفظ من معنى، وتصبح المؤتمرات والاجتماعات الحزبية مجرّد مهرجانات لعرض مراسم الطاعة والخضوع للسادة الحكّام أو من يمثلونهم، وهكذا تستسلم الشعوب، طواعية أو كرها، لإرادة المتلاعبين بمصيرها والعابثين بمستقبلها، وتتحوّل الى قدّاس تذبح فيه قرابين الفكر والعقل والدين، ويختزل الوطن والوطنية والمصلحة العامة والنظام والوحدة….، في درجة الولاء لقرارات الحزب-الزعيم- الذي يستند الى “شرعية” الانتخاب أو الدين أو القوّة والغلبة (على قول ابن خلدون)…أو جميعها.
والعالم العربي عموما ومنذ استقلاله كان مسرحا لصراعات دموية حادة على السلطة أجهضت كل محاولات الاصلاح والتنمية، وحالت دون مروره الى المرحلة الديمقراطية، فالانتخابات مجرّد شكليات تكون في الغالب معلومة النتائج مسبقا، والانقلابات سميت ثورات مجانبة للواقع ولحقائق الامور، فالوصول الى السلطة والجلوس على “كراسي الحكم” هو الهدف الاساسي الذي تتصارع من أجله جلّ الاحزاب إن لم يكن جميعها، والتي أصبحت تمثّل عبئا ثقيلا على الوطن المنهك أصلا. فقد حلّت السلطة محل الوطن، وأصبح النضال الحزبي غايته الوصول الى السلطة وبعدها يتمحور كل الجهد في كيفية المحافظة عليها، فتقوم بإجراءات “ثورية” تستهدف “تطهير” المؤسسات العامة وأجهزة الدولة من رموز الأنظمة السابقة والأحزاب المنافسة، وتستجلب أنصارها وأتباعها عديمي الخبرة والكفاءة لا شفيع لهم الا انتماءهم وولاءهم الحزبي.
وعندها تتحوّل “الثورات” الشعبية، حتى أكثرها نزاهة ومصداقية، على يد النخبة التي تستولي على الحكم، الى مجال لتفريخ الفساد والمفسدين ( تقرير منظمة الشفافية الدولية يشير الى تفاقم ظاهرة الفساد في تونس بعد الثورة)، طالما أن الولاء والانتماء هما المعيار المحدد للكفاءة وللوظيفة، وبالتالي تزداد النخب الحاكمة -ومن والاهم- ثراء وفسادا فيما الوطن ينهار ويتفكك، ويتمّ حينها اختراع عدو وهمي، كنظرية التآمر، والمندسين، والعملاء لتبرير السقوط والتأزّم الاقتصادي، ولصرف النظر عن المشاكل الحقيقية التي تهم الوطن والمواطن كالفقر والجهل والفساد والبطالة…..
وبالتالي تتبدّل الوجوه والاسماء والاشكال أمّا الدور فواحد، فكلّ حكامنا متضامنون متماثلون، قلّما يشذ أحدهم عن القاعدة، وأحزابنا تعارض وتجيّش وتناضل، وعينها على كرسي الحكم الذي متى وصلت اليه، تتخلّى عن ثوب الثورية والمطالب الحقوقية التي طالما نادت بها، وأصبحت تدعو هي بدورها الى احترام “الشرعية” التي أوصلتها، والعمل على افشال مخططات ”الاعداء” وتبنّت نظرية المؤامرة والاندساس كغيرها، وتتضخّم سلطتها فيما الدولة الوطنية تتحطّم. فطالما أن هناك فصلا بين السلطة والمواطن فلن تقوم لنا قائمة، حيث لا تهتم بأمر المواطن الا زمن الانتخابات التي يشارك فيها لأخذ صورة تمررها لأجهزة الاعلام، في حين أن حقائق الصندوق أكاذيب وتلفيقات.
ففي المجتمعات الديمقراطية التي تكون السلطات حقيقة منتخبة من المجتمع وتعبّر عن رغباته وتطلّعاته، ويكون بإمكانه مراقبتهم والتحكم فيهم وسحب ثقته منهم واسقاطهم ان لزم الامر، سواء عبر الانتخابات الحرّة والنزيهة، او عبر ضغط الرأي العام، والاحزاب والقوى التي تتنافس على السلطة تكون غايتها المصلحة الوطنية وتقديم أفضل الحلول للمشاكل العالقة وتتنافس ضمن ثوابت ومصالح الدولة لما فيه خير الوطن والمواطن، كما أن المؤسسات الوطنية وأجهزة الدولة ثابتة ومحايدة ممّا يضمن استمراريتها مع كل رئيس جديد أو حزب حاكم، كما أن التداول على السلطة لا يسمح بترسيخ علاقات مصلحية ولا استفراد بالإدارة ولا توظيف حسب الولاءات.
نتمنى أن يتحوّل الصراع السياسي في وطننا الى وسيلة للنهوض به، فالوطنية ليست بطاقات انتساب لهذا الحزب أو ذاك، فهو حاضنة الانتماء المادية والمعنوية للجميع، وبالتالي نبتعد عن أساليب النخاسة الحزبية التي تتصاعد يوما بعد يوم لتحوّل المواطنين الاحرار الى موالي مسلوبي الفعالية مصطفين لهذا الفصيل أو ذاك، ويصبح الوطن حينها ريعا يقتسمه الغالبون، ويصدق حينها قول غاندي: “كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن”.