بقلم: محمد الرصافي المقداد |
تشهد الشعوب العربية بين الفينة والأخرى، مواقف لم تكن ظاهرة، من طرف عدد من حكامها، فما تعوّد عليه هؤلاء، منذ أن استلموا الحكم كان – ولا يزال الأمر جاريا – إخفاء ما يرونه محرجا لأشخاصهم، ومثيرا لغضب شعوبهم، فيبقوه متواريا في كواليس سياساتهم، في طي الكتمان، بحيث تكون الشعوب آخر من يعلم، وما خفي مما لم يجد له الاعلام طريقا، كما يقال كان أعظم.
وكأنّي بأولئك الحكام قد تمنطقوا بمنطقين، واحد لشعوبهم فيه كثير من المدارات، وإخفاء الحقائق عنهم، وآخر لمن ملك رقابهم، وساسهم بزمام الخضوع، يفرض عليهم ما يراه مستجيبا لمصالحه، فهم يملكون مصير شعوبهم من ناحية، لكنهم في المقابل لا يملكون قرارهم الوطني، والتصرّف فيه بما يمليه عليهم الواجب، وأداء حقّ من أعطاهم مقاده، ماضون في ما رسم لهم من أهداف، يتصدّرها التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد رأينا على مدى سنوات طويلة، كيف نزل مؤشر الصّمود والتصدّي للكيان الصهيوني، من أعلى مستوى الاجماع العربي في مقاومته، الى حضيض التعامل معه، فضرب ثابتة من الثوابت في وجوب اعتباره عدوّا، واضعا القضية الفلسطينية برمّتها، في مهب رياح التفريط الخيانة .
لقد شهدنا السنة الفارطة تهافتا عاما، للتطبيع مع الكيان الصهيوني، أعلنت عنه دول خليجية، لم ترى حرجا في إظهاره، كأنّ لسان حالها يقول: ليت البقية يستجيبون لمبادرتها، وينسجون على منوالها، كأن ما أقدموا عليه شرف رفيع، وخلّة من المكارم يستحقون عليها الثناء، بينما هي معرّة وموبقة، تستوجب الإدانة والتّسقيط، والتشهير بأصحاب مبادرتها السيئة الذّكر.
مسار التطبيع دُفعت إليه قديما منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) اختيارا أو قسرا، وفي كلتا الحالتين، فمسارها التفاوضي كان خطأ فادحا، وما كان لها أن تتحول – وهي حاملة آمال شعبها- من منظمة مقاومة للعدوّ الصهيوني، بتاريخها الحافل بالبطولات والتضحيات، الى سلطة فلسطينية متعاملة معه أمنيّا، بما شكّل إساءة لسمعة المنظمة، ووضعها موضع العمالة لأخطر عدوّ، وضررا لحق عناصر المقاومة، بكشف هويّاتهم ومقرّاتهم، وتقديمها من الجهاز الأمني للسلطة معلومات خطيرة وحساسة، إلى الأجهزة الأمنية الصهيونية، وهذا عار وصم جبين السلطة، وخيانة لا يمحوهما شيء.
وهو نفسه الذي أخرج مصر والأردن، من دول مواجهة مع العدوّ الصهيوني، إلى دول مؤمنة حدودها مع فلسطين المحتلة، بما يخدم الأمن والإستقرار الصهيوني، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة،
إزاء الزلل اللفظي الذي وقع فيه الرئيس المصري السيسي، في مقابلة له ببرنامج (60 دقيقة)، أجرتها معه محطة (سي بي أس CBS) الأمريكية، سعت جهات رسمية مصرية، الى تقديم طلب عدم بث المقابلة التلفزيونية، أو على أقلّ تقدير، خذف المقطع الذي جاء فيه اعتراف رئيسهم، لكن القناة المذكورة رفضت الاستجابة للطلب الرسمي المصري، وقامت ببث المقابلة كاملة.
وفيما عرف قديما بخروج مصر، من موقعها الرئيسي، في إطار المواجهة للعدوّ الصهيوني، بزيارة الخيانة التي أدّها الرئيس المصري السادات الى الكنيست الصهيوني، والتي فاجأت العالم – ولم تفاجئ الغرب صاحب لعبتها – وما تلاه من إمضاء اتفاقية كامب دافيد، وما تلاها من تبادل دبلوماسي، كان العرب يعتقدون أن الأمر سيقف عند ذلك المستوى من السقوط، فلا ينزل مؤشّره، الى حضيض التعامل العسكري والاستخباراتي مع الكيان الصهيوني، ولكن خابت آمال العرب فيما أمّلوه، من رجاء تدارك وإصلاح، حتى بعد الاعتقاد بذهاب دعاة ومؤسسي التطبيع والتعامل مع الكيان الغاصب، فيما عرف بالربيع العربي، وهم يرون الأمور تسير بما تشتهي رغبة أمريكا والغرب، ومن ورائهما الكيان الصهيوني، وإذا بالرئيس المصري ينطلق لسانه، أمام مقدمة البرنامج التلفزيوني (60 دقيقة)، فكشف سرّا خطيرا – قد يكون سهوا أو زلّة لسان – عن علاقات نظامه العميقة مع الكيان الصهيوني، كشف مدى التعاون الوثيق القائم بينهما، بحيث لم يبقى بعدها، سوى أن ينزل المؤشر الى التعاون الاقتصادي، ويشترك الجيشان المصري والصهيوني في مناورات عسكرية، كما كانت تفعل تركيا من قبل.
الرئيس المصري حاول جاهدا أن يظهر متحررا من تبعات سياسته الداخلية، وإن كان مظهره في اللقاء ينمّ عن حالة من الضغط كتعرّق جبهته، نافيا أن يكون في معتقلاته 80 الف سجين رأي – وإن كان هذ الرقم حتما معلوما لديه – مبررا في نفس الوقت، أن نظامه يجب ان يتصدى لمن يعتبرهم إرهابيين، ومن خلال جوابه هذا، يؤكّد أن سجونه ومعتقلاته تزخر بعشرات آلاف المعتقلين.
ومن الواضح أن السيسي بدأ انقلابه على حكم الاخوان باعتقال قادتهم وحتى افرادهم ثن وسّع دائرة اعتقالاته لتشمل المعارضين العلمانيين، بما فيهم من شعراء وفنانين ومدوّنين، بعقلية وسياسة من سبقه، في القبض بيد من حديد على كل نفس مصريّ حرّ.
ويبدو أن زيارة وزير الخارجية الامريكي (مايك بمبيو) الى القاهرة، تندرج في اطار حثّ مصر، لتكون دولة، يتمحور حولها حلف عربي لمحاربة ايران، وجبهة مقاومتها للعدو الصهيوني، والنفوذ الامريكي في المنطقة، بعنوان أمريكي غربي، في خلط الارهاب بعنوانه الارهابي، ومجاميعه التي تعرف امريكا جيّدا مصدره الوحيد، وتتجاهله في نفس الوقت، بحركات التحرر ومقاومة الاستعمار، بسياسة عمياء صمّاء تجاه إيران الاسلامية، ناكرة دورها الهام في مكافحة الارهاب، بل ومتهمة نظامها بدعم الارهاب، وهي تقصد طبعا الحركات الفلسطينية واللبنانية.
ضياع موقف موحد للنظام الرسمي العربي، وسهولة تفريطه في قضايا امته، رسم صفحة اغلب دوله، وليس النظام المصري الوحيد في نهجه ذاك، فآخرون على آثاره يهتدون، وما خفي أعظم.