يبدو أنّ الغرب غير مُحصّن بعد.. هناك صراع مرير تخفيه المصالح المشتركة.. ربما الغرب هو الأقل ديمقراطية في تدبير العلاقات الدولية.. وهو الأكثر كفراً بالديمقراطية حين تتعلق بعلاقاته السياسية والاقتصادية مع الأطراف.. ما زال الغرب يبني مصيره على كل المكتسبات السياسية والعنصرية والثقافية والتاريخية للاستعمار.. وقد تكون أمريكا اللاتينية مسرحاً تتجلّى فيه بداية التناقض بين الغرب الأنغلو- ساكسوني والغرب اللاتيني في التوزيع التاريخي بين أمريكا الشمالية (الأنغلو- ساكسونية) وأمريكا الجنوبية (اللاتينية).. فروح الأبوية الأنغلو- ساكسونية واللاتينية ما زالت تتحكم بالعلاقة الروحية والثقافية والسياسية بين أوروبا والأمريكيتين نتيجة عدد من العوامل ليس آخرها اللغة والمصير المشترك.. يبدو أن الصراع في المسرح الأمريكي الجنوبي يتعدّى المحور النقيض للمعسكر أو بقايا المعسكر الغربي.. هناك مؤشّرات على تناقضات ستتفجر على المدى المتوسط، والبعيد تحديداً، بين القوى الغربية نفسها، نتيجة هشاشة البنية التحالفية للغرب التي ستكشف عن ثغرات كثيرة نتيجة التنافس القادم على أسباب الوفرة.
تعد أمريكا اللاتينية البيئة الأقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. فهي مصدر قلق وكذلك مسرح استغلال.. هي في الكثير منها بيئة للهجرة والمخدرات والمافيا والحساسيات والأزمات الاقتصادية.. وهذه الأوضاع هي نتاج السياسة الإمبريالية للقارة الشمالية التي حوّلت الجنوب إلى مختبر لتصريف الفساد والاستغلال والحصار.. لكن كل هذه التناقضات تحولت إلى عامل تحفيز لسياسات تحررية تدرك أنّ العيش بجوار الرأسمالية المتوحشة يشكل تهديداً نوعيّاً.. تنظر واشنطن إلى دول أمريكا الوسطى والجنوبية «كمنظمات سرّية» وليست دولاً ذات سيادة!
ويبدو أنّ فنزويلاّ هي عقدة للولايات المتحدة، لكونها وارثة لتاريخ استقلالي، وكذلك هي الخاصرة التي يُراد لها أن تكون الأضعف بسبب الثروات الطبيعية ولاسيما الغاز.. صحيح أن الولايات المتحدة تدرك أنّ قدرها سيكون الانسحاب إلى حدودها الطبيعية والاشتغال على حلّ ملف الهجرة وحماية الهوية الأنغلو- ساكسونية لأمريكا الشمالية، لكنها تفعل ذلك بالتدريج، ولكي تحقق هذا الانسحاب يتعين أن تغير من قواعد الاشتباك داخل القارة الجنوبية في أفق تحديث خريطة الأعماق الاستراتيجية الجديدة.. إنّ الولايات المتحدة تتراجع، وهذا التراجع التدريجي له استحقاقات على المدى البعيد.. وحينئذ لن يمتد أمنها القومي في الشرق الأوسط بقدر ما يتراجع هذا الامتداد ليصبح داخل القارتين الأمريكيتين.
مكر التاريخ هنا واضح أيضاً على الصعيد الجيو- استراتيجي.. تبدو خيارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – وهو لا يفعل سوى تدبير خطّة جاء لينفذها ببعض من مهاراته –خاضعة في نهاية المطاف لمكر التاريخ، لأنّ بناء البيت الداخلي للولايات المتحدة الأمريكية- بناء على توصيات هنتنغتون القديمة – سيغير من النمط التقليدي الأمريكي في تدبير أزماته، فأمريكا عاشت على التوسع والهيمنة والنفوذ.. فهل يا ترى ستستمر، ككيان، بعد انهيارها كإمبراطورية؟
بالفعل ثمة إمبراطوريات سقطت في التاريخ، وهذا لا يعني أنّها اختفت من الوجود، بل استمرت كدولة وأحياناً كدول عادية بخلاف تاريخها التوسعي الكبير.. نذكر هنا روما، إسبانيا، البرتغال.. الولايات المتحدة في كل هذا ليست استثناء.. لكن بداية النهاية تبدو واضحة من خلال الانسحاب باتجاه الحدود الطبيعية.. ليس من المُنتظر أن تعد واشنطن انسحابها من مناطق نزاع كثيرة في العالم هو نتيجة دخولها في دورة التدهور.. ستفعل ذلك كما لو كان الانسحاب «قراراً استراتيجياً لتقدير المصلحة وليس القوة».. ففي مسارات القوة يبدو التصعيد الذي بلغ مداه في العهد «البوشي» كان لابد- بمنطق الأشياء- أن يعقبه تراخٍ وفتور وارتخاء في العصب وهو ما شهدته مرحلة باراك أوباما، وسيكون عهد ترامب هو إيقاف النزيف السريع وتدبير مرحلة التحول الدراماتيكي إلى الدولة العادية تفاديّاً للسقوط المدوّي..
ستظل أمريكا دولة قوية بشروط الدولة لا بشروط الإمبراطورية.. وسيكون العالم متعدد الأقطاب، وستنشأ مرجعيات جديدة لمفهوم العدالة الدولية.. ومنظومة القيم الكونية ستخفف قليلاً من هذا الغموض والهشاشة في المدارك الكونية للقيم.. ولا شكّ في أنّ توقعات كثيرة كتلك التي رامها «أمارتيا كومار سن» في نطاق العدالة مفهوماً ومؤسسة معبّراً عن آمال عالم ما وراء البحار – قد يكون هذا هو سياقها المناسب..
يبدو أن الحروب لا تنتهي بغالب ومغلوب فقط، بل تُحدث شرخاً في بنية العلاقات الدّولية وتحوّلات بطيئة لكنها عميقة في الجغرافيا السياسية.. ستنسحب أمريكا من دون أن تستطيع تنفيذ مخطط «الشرق الأوسط الجديد» ومن دون تغيير «سايكس- بيكو».. لكنها ستحاول إحكام القبضة على أمريكا الجنوبية، فهي الساحة الأخيرة التي ستشهد طقوس التحول الجنائزي الكبير من الإمبراطورية إلى الدولة.
*كاتب من المغرب