يُمثّل قِطاع غزّة أقل من 2 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخيّة، ولكنّه، وأهله، يقومون وحدهم، بكسر شوكة الغطرستين الأمريكيّة والإسرائيليّة، بدفاعهم برجولةٍ وشجاعةٍ عن 400 مليون عربي، ومِليار ونِصف مِليار مسلم ومقدساتهم وأرض رباطهم، ولا ينتظرون شكرًا أو إطراءً من أحد.
هذه الصواريخ المُباركة التي تنطلق من القِطاع المُحاصر وتحمل رؤوسًا متفجّرةً، وتدمّر سيّارات مدرعة إسرائيليّة ومن فيها من الجنود، تُشكّل ردًّا مُزدوجًا، الأوّل على صفقة القرن التي تُريد إقامة إسرائيل الكُبرى من الفرات إلى النيل، والثّاني، على العرب المُطبّعين الذين نصّبوا نِتنياهو زعيمًا وحاميًا لهم.
طِوال اليومين الماضيين، ومنذ بدء العُدوان على القطاع، ونحن على اتّصالٍ دائمٍ مع أهلنا في قطاع غزّة، والعبارة التي يُردّدها كل من اتّصلنا بهم، هي “لا تخافوا علينا.. نحن نُشفق عليكم.. وخافوا على أنفسكم.. نحن أسرة واحدة.. لا أحد خائف ولا مرعوب.. نطمئنكم أننا ماضون في صُمودنا ومُقاومتنا حتى النّهاية، العدو هو الذي يُريد وقف إطلاق النّار وليس نحن، نريد أن نستشهد واقفين في أرضنا.. والحياة وقفة عز”.
الصديق فريح أبو مدين، وزير العدل الفلسطيني الأسبق، قال لنا “الحياة تسير بشكل طبيعي في القطاع، والأطفال في الشوارع يمارسون هوايتهم في رصد الطائرات المُغيرة، وتحديد هوية صواريخ المقاومة، وإحصاء خسائر الإسرائيليين وقببهم الحديديّة الفاشلة”، ويضيف “مشكلة أهل غزة ليس مع إسرائيل وإنّما مع السلطة في رام الله التي تتحدّث مِثل “الخواجات” وتُطالب بحماية دوليّة، وتتنافس مع المُحتل في تجويع غزّة، ومع العرب الذين يتوسّطون لوقف القتال ليس حرصًا على الفِلسطينيين وحقنًا لدمائهم، وإنّما حرصًا على الإسرائيليين وأمن مُستوطنيهم”.
***
ليس مُهمًّا من أشعل فتيل هذه الحرب، ولكن الجديد فيها أن فصائل المُقاومة تتباهى بأنّها هي التي بادرت بالرّد بقوّةٍ على الاستفزازات الإسرائيليّة، ومقتل القنّاصة الإسرائيليين لمُحتجّين سلميين على حُدود القِطاع، وعدم الالتزام باتّفاقات التّهدئة، وتشديد الحِصار التجويعي على مليونيّ عربيّ ومُسلم، وقنص جنديين إسرائيليين.
قادة المُقاومة في القِطاع مثل الغالبيّة السّاحقة من أبنائه، توصّلوا إلى قناعةٍ راسخةٍ بأنّ إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوّة، وهُم أساتذة في تعليمها هذه اللّغة وحروفها ومُفرداتها، وأوّل كلمة في قاموسها هي “الجهاد”، وثانيها “الفداء”، وثالثها “الشهادة”، ورابعها “الكرامة” وقائمة العزة والإباء تطول.
إنجازات كبيرة تحقّقت في اليومين الماضيين من الحرب، ومن المُؤكّد أنّها ستتضاعف في حال استمرارها، وهذا هو المُرجّح، يُمكن إيجازها بشكلٍ أوّليّ في النّقاط التّالية:
أوّلًا: قوّة الرّدع الإسرائيليّة تتآكل، إن لم تكُن قد انهارت فعلًا، وباتت المُقاومة هي التي تفرِض أجنداتها، وتُحدّد قواعد الاشتباك.
ثانيًا: مئات الآلاف من الإسرائيليين هربوا من مكان إقامتهم في الجنوب الفلسطيني إلى الشمال إيثارًا للسّلامة، وحالة من الرُعب تنتابهم، ومن المُتوقّع أن يتضاعف هذا الرّقم إذا ما وصلت الصّواريخ إلى تل أبيب وما بعدها.
ثالثًا: إسرائيل تقف على أبواب احتفالين، الأوّل، مسابقة “يوروفيجين” التي ستُقام في تل أبيب ويتبعها مليارات المشاهدين، والثاني ذكرى قيام الكيان الإسرائيلي، واستمرار الحرب لمُدّة أسبوعين يعني إلغائهما، واهتزاز صورة دولة الاحتلال عالميًّا كدولة غير آمنة وفاشية ترتكب جرائم حرب وتُصعّد التوتّر وحالة عدم الاستقرار في المِنطقة والعالم.
رابعًا: الدول الخليجيّة والعربيّة التي طبّعت، وتُطبّع، مع دولة الاحتلال ستُواجه حرجًا كبيرًا أمام مُواطنيها، وسيزداد هذا الحرج إذا انفضح الضّعف الإسرائيلي في مُواجهة صُمود فصائل المُقاومة واستبسالها، مثلما انفَضح الضّعف الأمريكي في مُواجهة إيران مع استمرار تدفّق نفط الأخيرة وفشل حظر “زيرو تصدير” الذي فرضه ترامب، فاللافت أن رهان حُكومات هذه الدول المُطبّعة على الهوان العربي، وانحسار ثقافة المُقاومة ثبُت عدم صحّته، بل وسذاجة أصحابه، وقصر نظرهم سِياسيًّا وأخلاقيًّا.
***
لا نعرف كيف سيكون شُعور رئيس رابطة العالم الإسلامي، وحكومته السعوديّة، وهو يرى 600 صاروخ تنهال على المُدن والمُستوطنات الإسرائيليّة واستشهاد أطفال رضّع، أو أجنّة في رحام أمهاتهم في غارات الطائرات الإسرائيليّة، بعد يومين فقط من الإعلان عن توجيه دعوة لوفد يهودي إسرائيلي للمُشاركة في مؤتمر تنظمه الرابطة أوائل العام المُقبل في مكّة المكرّمة، خاصّةً أنّه، أي رئيس الرابطة، والكثير من المسؤولين السعوديين أكّدوا دائمًا أن بلدهم سيكون آخر المُطبّعين.
الشعب الفلسطيني يرُد بالدّم والشّهداء، والصّواريخ التي تقهر القبب الحديديّة، وتضرب الأهداف العسكريّة الإسرائيليّة، وآخرها حاملة جنود بصاروخ كورنيت في تصاعُد مستمر للقتلى الإسرائيليين من العسكريين، بينما “المُتحضّرين” الإسرائيليين يقتلون الحوامل والأطفال.
نحمد الله أن القادة العرب المُتيّمين بحُب نِتنياهو لم يُرسلوا برقيّات التّعزية له في مقتل جنوده، مثلما نحمد الله أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يُهاتفه للغرض نفسه والاطمئنان عليه وأرواح مُستوطنيه، مثلما فعل في مرّاتٍ عديدةٍ سابقة.
نتألّم عندما نرى مِصر وسيطًا في هذه الحرب لسببين: الأوّل أنها لا يجب أن تلعب هذا الدور وهي المسؤولة أمنيًّا عن قِطاع غزّة الذي جرى احتلاله عندما كان خاضعًا لحُكمها الإداري، والثّاني: أنها أهينت عندما لم تلتزم إسرائيل بشُروط اتّفاقات التّهدئة السّابقة، وضاعفت من شدّة الحِصار، وخنقت القِطاع اقتصاديًّا، وقتلت العشرات من المُحتجّين والعزل في مسيرات العودة.
شُكرًا لأهلنا في قِطاع غزّة الذين يبعثون الأمل في هذه الأمّة، ويُفاجئوننا بين الحين والآخر بمُعجزات مُقاومتهم، وصُمودهم، ونقاء وصلابة معدنهم، ويحتفلون بشهر رمضان المُبارك وفق أُصول ومعايير الرّسل والصّحابة، أيّ التّكاتف والتّضحية ومُقاومة الظّلم والخذلان.
أليس من حقّنا أن نتباهى بهم، وأن نرفع رؤوسنا عاليًا بشجاعتهم، وإقدامهم، وجدع أنف المُحتل الإسرائيلي في وقتٍ يُقبّل أحذيته، ويطلب حمايته الكثيرون؟
رحِم الله الشّهداء جميعًا، ونخُص الشّابة الحامل فلسطين أبو عرار وقريبتها الطفلة صبا التي لا يزيد عمرها عن 14 شهرًا، والقائد القسامي حامد الخضري، وأفراد أسرة المدهون، وأبو عرمانة، والقائمة تطول، ولا يهمنا اهتمام هذا العالم الأعور المُتواطئ بهم، ولا نُريد تعاطفه هذا، إن وجد، وتصبحون على صواريخٍ دقيقةٍ جديدةٍ تدُك تل أبيب، أو اتّفاق وقف إطلاق النّار بشُروطِ المُقاومة.. والأيّام بيننا.