ابتداء، من المُحزِن والمؤسِف أن نقابل الجيل أو الموجة الرابعة والخامسة من الثورة التكنولوجية في العالم من حولنا، بالجيل السادس من موجات التخلّف التي تعود عملياً إلى خلافة المتوكّل ونفوذ إبن حنبل والتسلّل التركي إلى الدولة العباسية.
إلى ذلك، بدأت السلفية المسلّحة مع الوهّابية النجدية الصحراوية (وآل الشيخ في العيينة بالتحالف مع آل سعود في الدرعية)، وقد أصيبت بنكستين على التوالي:
الأولى على يد المصريين خلال حُكم محمّد علي وذراعه العسكرية، إبنه بالتبنّي، إبراهيم باشا، الذي أحرق الدرعية وفتك بأمراء آل سعود وآل الشيخ وأرسل رؤوسهم في سلّة كبيرة إلى السلطان العثماني في الأستانة..
والثانية على يد آل الرشيد من شمر (حائل)، وفي الحالين كانت حملات محمّد علي وآل الرشيد جزءاً من ردٍ تركي على الإنكليز، وخاصة قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية التي كانت المدبّر الأعظم لمصالح الإمبراطورية البريطانية، التي كانت تسعى لإزاحة الإستعمار العثماني للشرق مع إحلال الإستعمار البريطاني مكانه.
ولم يعد سراً كما تكشف مذكرات بوركهارت، ومحمّد أسد (ليوبولد فارس) والكابتن هامفري، أن خطاب التحريض الوهّابي ضد الأتراك الكفّار، خطاب مُدبلج في لندن (العلمانية)، وكذلك تسويق الوهّابية باعتبارها لوثرية وكالفينية إسلامية لتأمين التراكم البدائي لرأس المال في بلاد شحيحة وفاسدة، ومثل ذلك الإطراء لجذور الوهّابية نفسها (إبن حنبل وإبن تيمية).
ويُشار هنا، إلى أنه مقابل السلفية المسلحة، ظهرت صوفيات مسلحة مناوئة للأوروبيين، وقاتلتهم وخاصة في إفريقيا العربية، وكانت مزيجاً من أهل الجبال والصحراء، ومن الأمازيغ والبدو…
الجيل الثاني من السلفية المسلحة، كان انشقاقاً داخلياً في قلب السلطة النجدية الصحراوية، ولم يخل من اصطفافات قبلية، فبعد ترسيم الحدود بُعَيد الحرب العالمية الأولى وظهور دول جديدة من ثنايا الجزيرة واتفاقية سايكس – بيكو، وإلزام آل سعود بوقف غزواتهم شمالاً وخاصة في العراق وشرق الأردن، حيث كان الإنكليز يمارسون تحالفاً مزدوجاً مع الهاشميين والسعوديين من أجل النفط من جهة، وطريق الهند الشرقية، من جهة ثانية، طلب الملك عبد العزيز من القبائل والإخوان الوهّابيين وقف هذه الغزوات، التي كانت مرتبطة أيضاً بالسيطرة على تخوم المراعي وتجارة الأسلحة، في ما عُرِف بالمستوطنات العسكرية الممتدة التي تشبه (المستوطنات الصهيونية).
بَيْدَ أن هذا الطلب لم يناسب القبائل المذكورة، وعلى رأسها مطير ومشيخة فيصل الدويش، وعتيبة وعلى رأسها سلطان بن نجاد، وقبائل أخرى مثل العجمان، التي تبيَّن نفاق خطابها وحيث انتقدت عبد العزيز لعلاقته الوثيقة (بالكفار الإنكليز) وخاصة قسم البصرة أو شركة الهند الشرقية، مقابل المكتب العربي التابع للمخابرات البريطانية في القاهرة، والذي كان يميل للهاشميين، فقد أظهرت الوثائق لاحقاً أن الدويش وإبن نجاد كانا يتلقيان دعما من الكفار أيضاً.
وقد انتهت هذه الإشكالية بشكل دموي: معركة السبلة 1929 التي انتصر فيها عبد العزيز، لتتكرّر بصورة دموية ثانية في عام 1979، في ما عُرِفَ بحادثة الحَرَم المكّي التي قُتِلَ فيها المئات من جماعة جهيمان العتيبي قبل إعدامه هو نفسه، وقيل حينها أن وحدات فرنسية وأردنية مُدرّبة هي التي حسمت هذه المعركة، ويشار هنا إلى الدويش وابن نجاد، من قادة عبد العزيز الذين سعوا لإلحاق أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية إلى إمارة نجد، بل إن نجاد هو الذي هزم قوات الشريف حسين في معركة تربة المشهورة والتي انتهت عملياً بسقوط الحجاز تحت سيطرة إبن سعود.
الجيل الثالث من السلفية المسلحة، كان مختلفاً هذه المرة من عدّة زوايا: الأولى أنه ترافق مع المصالح الأميركية والأوراق الأنكلو سكسونية الأميركية البريطانية، مقابل الأول والثاني الذي ترافق مع المصالح البريطانية.
والثانية، أنه (جيل جبلي) إذا صحّ التعبير مقابل الجيل الصحراوي وتغلب عليه الكثرة الآسيوية غير العربية مقابل السِمة النجدية السابقة، فمقابل أقلية عربية مثل عبد الله عزام الفلسطيني والظواهري المصري، كان الأفغان والشيشان والباكستانيون هم الفئة الطاغية على هذا الجيل وقد ارتبطوا كما جاء في كتاب الصحافي البريطاني، كورتيس بالمخابرات الأميركية والبريطانية والباكستانية، وعُرفوا بالإسم الذي لازمهم ولا يزال (الجهاد الأميركي ضد موسكو).
فقد ظهر هذا الجيل من السلفية المسلحة كأدوات أميركية في أفغانستان التي انتهى انقلاب عسكري يساري فيها إلى تدفّق عسكري روسي رد عليه الأميركان على دفعتين .. مجاهدو المخابرات الأميركية ثم التدخل المباشر.
الجيل الرابع، شكّل باسم القاعدة محطة مُغايرة بزعامة سعودي من أصل يمني حضرمي هو أسامة بن لادن، تبنّى شعاراً مغايراً لمعلمه (عبد الله عزام) وهو شعار العدو البعيد، أي الولايات المتحدة الأميركية.
ويُلاحظ هنا أنه مهما كانت الخلفية والأسباب الحقيقية لتلك الأهداف الأميركية، عند بن لادن ومنها تدمير برجي منهاتن، إلا أن المخابرات الأنجلو سكسونية الأميركية والمخابرات البريطانية عادت لاختلاق جيل خامس يُعيد الاعتبار للشعار السابق على شعار العدو البعيد، وهو (العدو القريب) ما اقتضى إنهاء ملف بن لادن وإشكالاته المُعقّدة الغامِضة.
وقد ارتبط الجيل الخامس بملفات دولية وإقليمية أخرى وبأدوات أخرى وشعارات أخرى، شكّل السلفيون العرب سِمتها الأساسية مع توظيفٍ واسعٍ للسلفية الآسيوية من رواسب الحال الأفغانية والشيشانية، فبعد نجد والجزيرة ثم أفغانستان، صارت العراق ثم سوريا، أي الهلال الخصيب الهدف المباشر للأميركان وأداوتهم من السلفية المسلحة، بالنظر إلى أهمية البلدين النفطية والإستراتيجية وطيّ ملف الصراع العربي الصهيوني.
وإلى جانب تحضيرات إقليمية أخرى دبَّرتها المخابرات الأميركية ومنها وصايا برنار لويس وبريجنسكي بالإنبعاث العثماني، وتأمين غطاء مالي وإعلامي خليجي لهذا الإنبعاث، كانت السلفية المسلحة الأداة الأبرز لهذه المخابرات، تحت الشعار الشهير، (العدو القريب) ممثلاً (بالرافِضة) رغم أن هذه التسمية تمتد أيضاً إلى الخوارج الذين (رفضوا) التحكيم الذي قبله الإمام علي وصاروا يعرفون بالجناح المتشدّد من أهل السنّة والجماعة.
هكذا غاب بن لادن صاحب شعار العدو البعيد ليحل محله اختلاق أميركي – بريطاني جديد صُنِعَ في سجن بوكا، هو البغدادي ومن قبله الزرقاوي، الذي كان قد اشترط لمُبايعة بن لادن تخلّي الأخير عن العدو البعيد (الأميركي).
اليوم، ومع انتصار تحالف سوريا – إيران – روسيا وحزب الله، ومع هزيمة البغدادي وداعش والدوائر الصهيونية الأطلسية العثمانية والرجعية التي رعتهما، والتي لا تكفّ عن الكذب والزعم بمشاركتها بل قيادتها لتحالف دولي ضد الإرهاب، ثمة جيل سادس من السلفية المسلحة يُعدّ له في هذه الدوائر، فماذا عنه وعن ساحات الإشتباك التي تحضّر له.
إن التدقيق في التجارب السابقة وعلاقاتها مع الإستحقاقات الراهنة للإمبريالية يشير إلى الاحتمالات التالية:
1- العودة إلى استراتيجية بريجنسكي التي تحذّر من الصحوة الروسية والخطاب الأوراسي وتدعو إلى تطويقها بحزام مسلح من هذه السلفيات.
2- إن المعاهد والمؤتمرات الدولية الاستراتيجية لحلف الأطلسي، ترى في جبهة دمشق – طهران والمقاومة اللبنانية والفلسطينية، الهدف المشترك لها في الشرق الأوسط، بالإضافة لما تعنيه الأوراسية الروسية وطريق الحرير الصيني من مخاطر مُحدِقة للمتروبولات الإمبريالية الكبرى.
3- في ما يخصّ الشرق الأوسط وبعد الفشل الذريع في سوريا، تعود إيران إلى واجهة الإستهدافات، وهو ما يعني توظيف السلفية المسلحة ضدها انطلاقاً من أفغانستان وباكستان.
4- هناك أيضاً، منطقة الصحراء الكبرى التي تفصل بين شمال إفريقيا العربي وبقية القارة، وهي منطقة شديدة الحساسية لمصالح دولية كثيرة.
(الميادين)