عليك أن تفتح عينيك جيّدا، فالفيلسوف هو من يرى في الحوادث استفزازاً لإعادة طرح السّؤال عن بنية الوعي برمّتها، وفي مقدّمة ذلك.. الوعي بالسياسة والتّاريخ.
لنتوقّف عند المهمة الأولى التي يتكفّل بها منطق الأشياء وهو التعريف، هل يا ترى عرّفنا السياسة أم إننا أخذناها تسامحاً على سبيل الحدود بالتمثيل حيث لا يحضر الجنس والفصل؟.. ومع ذلك سأروم الفكرة التي لفتت إليها الباحثة السياسية الألمانية «حنا أرندت» بذكاء ألا وهي أنّ السياسة لا تدخل في ماهية الإنسان بل تقع خارجه باعتبارها معنية بالاجتماع والعلائق والفضاء الوسائطي. وهذا يكفي لكن عند التفصيل لا نفعل أكثر من شرح المفهوم، فالسياسة بناء عليه تقع هناك خارج الماهية ولا تتقوّم بها، وهذا يكفي للانقلاب على المفهوم «الأرسطي» القائل إن الإنسان «حيوان سياسي». إنّ السياسة أوجدتها الحاجة لحماية الإنسان من نفسه وعدوانيته.. حتى الآن لم يُخطئ هوبز بل تحدّث بما ينزع إليه النوع في الغالب، السياسة إذاً حاجة لاحتواء الهمجية، لكن ماذا لو أصبحت هي نفسها نهجاً للهمجية.. نعم، وبناء على هذا المنحى فإنّ الإنسان كائن غير سياسي لأنّ السياسة توجد فضاء بين البشر.
ونتساءل إلى أي حدّ نجح البشر بالفعل في تحقيق السياسة حتى حين نعدها لا إنسانية؟.. لقد غلبت النزعة البشرية إلى الشّرور، وهي حتى حين تعرقل هذه النزعة لا تفعل سوى قمعها بخطاب لا يمكن أن يكون إلاّ مؤجّلاً، وفي سياق هذا التأجيل يتحقق شيء من الأمل.. ليس أمام الإنسان – منذ عجز عن تحقيق السياسة- إلاّ الانتظار.
يدين التّاريخ إلى الفعل السياسي، حيث لا وجود للتاريخ من دون سياسة. فالأحداث التي يفرزها الفعل السياسي باعتباره يقع في الفضاء الوسائطي – بتعبير حنا أرندت – هي التي تساهم في هذا الحراك الجماعي أو تمنح الحياة الجماعية الصورة النوعية التي يكون عليها التاريخ. إنّ التاريخ مدين للسياسة بكل مستوياتها، لكنه أيضاً رهينة لها، لأنّ التاريخ لا يمكن كتابته بالوعي الخالص، بل هو إنتاج وإعادة إنتاج وظيفيين يرهنان الوعي نفسه. تحتاج السياسة- بما أنها ليست مقوّمة لماهية البشر- هذا الشكل من الإنتاج التاريخي لإعادة إنتاج الفعل السياسي نفسه. إن السياسة ليست جنساً ولا فصلاً، فقد تكون- إن شئنا تعريفها من خلال الكليات- من قبيل «العرض العام» وهو تعريف ضعيف، ولكن يدلّنا على حقيقة أخرى وهي أنّ السياسة قد يكون جزء من ماهيتها وطبعها في الجماعة الحيوانية، لكنها فقط في الجماعة الإنسانية هي سياسة لخرق طبيعة الأشياء، إنها عرض عام، ففي نهاية المطاف كلّنا نمشي.
إن كانت تلك هي السياسة فهي إذاً مخرج غير مستقر من الطبيعة الهمجية للإنسان، ومن هنا يعدّ التّاريخ هو التجلّي الأكبر لانحطاط السياسة إذا لم نقل إنّها تولد غير حاسمة في ذلك الفضاء الوسائطي كما مرّ معنا. لا يحتاج القطيع الحيواني إلى تاريخ لأنّ السياسة عنده ليست إعادة إنتاج لشيء خارج طبعه واستجابته للطبيعة، ولا ندرك الهمجية إلاّ بين الأنواع لكن الهمجية قائمة داخل هذا الذي نسميه «وحدة الإنسانية» ما يعزز أنّ هناك أنواعاً داخل الاجتماع الإنساني وليس هناك نوع واحد إلاّ في دفاتر الفلسفات المثالية. تستطيع أن تدرك همجية الإنسان وهي همجية لا حدود لها في الانحطاط، وهي تفوق كل أشكال الهمجية.
في السياسة يختفي مكر البشر، وفي التاريخ يختفي مكر السياسة، وهذا مسار طويل يُعاد إنتاجه في مراتب مختلفة من أحوال الاجتماع البشري. وقد يصبح الإنسان سياسياً فقط حين يتماهى مع حقيقته باعتباره كائناً همجيّاً يحتاج ماهية خارجية للقبول بالآخر وليس سياسياً باعتبارها ماهيته، وتلك الماهية الخارجية هي السياسة. وعبر التّاريخ لم تكن السياسة توافقاً بل كانت دائماً غُلباً وقهراً. توجد الكرامة كتطلّع مثالي وكاستثناء خارج هذا الفضاء وتطل عليه بمقولاتها الخاصة وتحرج السياسة لكنها تظلّ حلماً ومضموناً في مكان ما غير مكاننا وزمان ما غير زماننا. الخطأ المنهجي هو الخلط بين المثل الفلسفية ووقائع السياسة، فالسياسة حيثما كانت لن تكون سوى هذه المحاولة للتخفيف من الهمجية ولكنها ليست مضمونة أو مستقرة، لأنّ المطلوب قبل تحقيق السياسات هو البحث عن الكرامة التي هي شيء يفوق حتى خطاب الأنسنة الذي هو ابن الوعي نفسه الذي أنتج السياسات، البحث عن ذلك الشيء الذي تعبّر عنه قيم الفرسان حتى حين تصبح قيماً لخوض «حروب طواحين الهواء» أو طواحين الانحطاط والرداءة.. وفي كل هذه الأطوار، كانت النذالة غالبة على النّوع، وكان على المُثل فقط أن تُقاوم حيث هناك يكمن إحساسها وتعبيرها عن رفض الهمجية.
*كاتب من المغرب