ينطلق الحديث عن مشروعية المقاومة من التقرير وليس التبرير، فمقاومة المحتل حق إنساني قانوني أخلاقي، قبل أن تكون حقاً سياسياً وطنياً. انطلاقاً من هذه الرؤية لا يبدو حق المقاومة أمراً يحتاج مقالة أو مقابلة أو بحثاً. هذا ما كان عليه الحال فترة طويلة من تاريخ أمتنا الحديث، لكن العقود الأربعة الأخيرة حملت الكثير من اللغط بشأن مفهوم المقاومة، وتعريف العدو، ما يُظهر الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لإعادة الأمور إلى نصابها.
انطلقت المقاومة العربية الحديثة منذ أكثر من قرنين، وكانت صاحبة الكلمة العليا في تشكيل الواقع التاريخي والجغرافي العربي الجديد، سواء سلباً أو إيجاباً.. فثورة ظاهر العمر في فلسطين استدعت إعادة احتلال بلاد الشام مباشرة من قبل العثمانيين، في حين تمكنت الثورات السورية المتتابعة ضد المحتل الفرنسي من إفشال مشروع تقسيم سورية إلى ثلاث دويلات ذات طابع طائفي ديني.
ما إن وَجَدت المقاومة العربية نفسها قريبة من تحقيق أهدافها، بطرد المحتلين من أرضها والمضي نحو مستقبلها المشترك، حتى ابتليت باستعمار استيطاني احتلالي نادر الشبيه، فانخرط أبناء الأمة من محيطها إلى خليجها في مقاومة هذا الاستعمار الذي استهدف فلسطين، ولا نبالغ إن قلنا إن تاريخ الأمة الحديث، يدور فعلياً حول مقاومة هذا المستعمر، وقصص النجاح والفشل في المعارك ضده، بل إن كلمة «مقاومة» أصبحت تعني، حصرياً، مقاومة العدو الصهيوني، وتحولت قضية فلسطين لتصبح قضية الأمة المركزية.
لكن الموقف تجاه العدو الصهيوني لم يكن في يوم من الأيام واضحاً لدى الكثير من القيادات العربية بقدر وضوحَهُ لدى الجماهير، ولا أدل على ذلك من الوثائق التي يُكشف عنها كل يوم، وتشير إلى تورط الكثير من «الزعامات» العربية في المؤامرة الصهيونية الاستعمارية، مقابل الحفاظ على عروشهم ومصالحهم الخاصة، لكن الإرادة الشعبية فرضت نفسها وظلت العلاقات تختبئ وراء جدار كاذب من المؤتمرات وقرارات المقاطعة، هذا الجدار الوهمي خرقه أنور السادات عام 1979 بتوقيعه اتفاقية «كامب ديفيد» التي يعدها الكثيرون بداية عصر الانحدار العربي بقبول «إسرائيل كحقيقة جغرافية وسياسية» في قلب الوطن العربي، لكن التمعن في التاريخ يبدي لنا أن الكثير من محطات تاريخ الصراع العربي– الإسرائيلي لم تكن سوى حوارٍ دولي- إقليمي- محلي عن الآليات التي تسمح لـ «إسرائيل» بالبقاء، ودمجها في جغرافيا وتاريخ المنطقة، وأعرض هنا أهم المحطات في هذا الحوار:
1-تقرير لجنة بيل (الملكية البريطانية) عام 1937 التي اقترحت تقسيم فلسطين بين العرب الفلسطينيين، والمهاجرين اليهود.
2-تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين الـ «يونسكوب» 1947 الذي اقترح تقسيم فلسطين، ومنح المهاجرين اليهود 56% من الأرض، مقابل 44% لأصحاب الأرض الحقيقيين.
3-قرار الأمم المتحدة رقم(181) لعام 1947 الذي قضى بتقسيم فلسطين حسب توصيات الـ «يونسكوب».
4-حرب 1948 واستيلاء العصابات الصهيونية على 78% من فلسطين، وإنشاء «إسرائيل».
5-جعل تابعية الضفة الغربية إلى الأردن وقطاع غزة إلى مصر، ومنع تشكيل كيان سياسي فلسطيني.
6-حرب 1967، وظهور مبدأ الأرض مقابل السلام.
7-اتفاقية «كامب ديفيد» 1979، مبادرة السلام العربية التي أطلقها مشروع الأمير فهد 1982، اتفاقية أوسلو 1995، واتفاقية وادي عربة 1994.
8-«حلّ الدولتين».
9-«صفقة القرن».
بعد انطلاق «الربيع» الصهيوني، استند معسكر العدوان إلى اتفاق أوسلو ليعلن «نهاية» الصراع العربي– الإسرائيلي، وتحوله إلى «نزاع حدودي بين كيانين شرعيين»، وانتقل العدو الوطني القومي الذي مثلته قوى الاستعمار والكيان الصهيوني، ليصبح عدواً «دينياً طائفياً غير واضح الملامح». وتغاضى معسكر العدوان عن المجازر التي ارتكبها الاستعمار والاحتلال في الوطن العربي بما فيها فلسطين، وعدّوها «أحداث عنف»، وصمّوا آذانهم عن أصوات انطلقت حتى من داخل الكيان الصهيوني نفسه توضح حقيقة ما سمي عملية السلام، مثل المؤرخ إيلان بابيه الذي يقول في كتابه «عشر خرافات عن إسرائيل»:
«يتعين علينا الاعتراف بأن عملية أوسلو لم تكن مسعى سلمياً منصفاً ومتكافئاً، وأنها تسوية وافق عليها شعب مهزوم خاضع للاحتلال، كنتيجة لذلك أُرغم الفلسطينيون على حلول تعارض مصالحهم وتهدد وجودهم بذاته».
لكن التاريخ استمر في إعطائنا الدروس، فبعد الهزيمة المُذلة للجيش الصهيوني واضطراره للانسحاب من لبنان، أعطت الحكومة الإسرائيلية جيشها الضوء الأخضر للرد بأقصى درجات العنف على الفلسطينيين الذين شاركوا في الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وخلال بضعة أيام قتلت قوات الاحتلال أكثر من 200 فلسطيني نصفهم من الأطفال والنساء.
وفي عام 2003 استغل آرييل شارون الورطة التي وجد الأميركيون والبريطانيون أنفسهم فيها بعد احتلال العراق، وحصل على ضوء أخضر للاستمرار في سياسة التنكيل بالفلسطينيين التي بدأت تواجه بعض الانتقادات الحادة في الدول الغربية خاصة بعد مجزرة مخيم جنين عام 2002. وحصل شارون على ما أراده، لأن ما طالب به لم يكن يختلف كثيراً عما تمارسه بريطانيا وأميركا في العراق.
ويقول التاريخ إن الحرب على سورية والمقاومة (أي مقاومة مهما كانت) التي تُشن في الحقيقة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم تتعلق بالموقف السوري الثابت من الحقوق العربية على نحو عام، ومن فلسطين على نحو خاص، وإن القرارات الأميركية ضد سورية ارتبطت برفضها شروط كولن باول التي طالبت سورية بوقف دعم المقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية (حزب الله) وقطع العلاقات مع إيران، والاندماج في محور التفريط العربي. لم يطالب باول بانتخابات أو بتغيير الدستور، كل ما أرادوه ويريدونه من سورية هو التخلي عن المحتوى العربي المقاوم الذي يميزها.
نستطيع الاستمرار في ضرب الأمثلة التاريخية، أو التوقف بعد أن أدركنا أن التاريخ يعلمنا درسين لا ثالث لهما؛ الأول أن التقسيم هو الهدف والوسيلة لعدونا، والثاني أن إمعان العدو في الذهاب نحو التقسيم يثبت لنا كل يوم أهمية الوحدة.. وحدة المناضلين والكادحين.. وحدة المتضررين من الاستعمار.. وحدة الساعين إلى غد أفضل لأبنائهم وأوطانهم، وليست وحدة المستثمرين ورؤوس الأموال والعملاء.
لعل «الربيع» الصهيوني قد أخرج كل الشرور من «صندوق باندورا» العربي، لكنه أيضاً احتفظ بريشة الأمل التي لامست قلب بروميثيوس الذي أحب الإنسان ومنحه قوة النار… وها نحن نمضي على درب النضال، لعلّنا نصحو يوماً مثل الشاعر الإنكليزي شيللي فنرى «بروميثيوس طليقاً».
*كاتب من الأردن