تاريخ طويل يجمع العراق بالفوضى، واستلاب القرار السياسي الوطني الصائب، الذي يصبّ في مصلحة البلاد والعباد، تاريخ نحزن لتفكّره ونأسف له، ولا نريده أن يتكرر، كما لا يريده أحرار ومخلصو الشعب العراقي أن يصبح عادة يدرج عليها، في أحداثه وهزاته كل مرّة، خصوصا وقد تبيّن أن هناك أطرافا خارجية فاعلة، من مصلحتها أن يبقى العراق مختبر تجارب مؤامراتهم، تبدأ من هناك لتنتشر الى دول الجوار، وقد وقفنا على أمثلة عديدة منها.
ليست هذه المرّة الأولى التي يصاب فيها العراق، بسموم المتربصين به، لكنها سموم لم تكن لتسري بداخله، لولا طغمة الفساد وطبقته السياسية وسوء إدارته، التي كبّلت مسيرة شعبه، فخنقت فيه كل ارادة وعزيمة، الى الحد الذي أصبح فيه، من غير الممكن الاستمرار على ذلك النّحو المهين للكرامة، والمسقط لكل أمل في أن ينتقل جيل العراق اليوم، من حال استلاب القرار وضعف الارادة، الى حال وطنية القرار وقوة الارادة، ولا يكون ذلك الا بنخبة سياسية صالحة مؤمنة، مضحّية مع شعبها، من أجل الانتقال بها من حالها المزرية التي وصلتها، الى حال تطمئنها بأنها بين أيد أمينة لا تتلاعب بها.
من حق الشعب العراقي بكل أطيافه، خصوصا أهل الجنوب، أن ينتفضوا من أجل تغيير أوضاعهم، فذلك اضعف الايمان، فما ضاع حق وراءه طالب وهكذا علّمنا الإسلام، لكنه من المسيء والمجحف بحق جارته الكبرى الجمهورية الاسلامية الإيرانية، أن يكون جزاءها على النّحو الذي ظهر من بعض العناصر، من خلال التغطيات الاعلامية، من حرق العلم الاسلامي الايراني، وترديد شعارات مشبوهة، فيها دعوة لخروج ايران من العراق، ومن ليس مطّلعا على العلاقة بين البلدين، يتبادر الى ذهنه أن ايران محتلة للعراق، ومعرقلة لمسيرته التنموية، وقد تكرر هذا العمل الخبيث من قبل، في الإضطرابات التي شهدتها البصرة، أوائل سبتمبر من السنة الماضية.
في مطلع شهر اكتوبر من هذه السنة، بدأت الاضطرابات في جنوب العراق، وكما نجحت سابقاتها في نحت وجه جديد للسياسة في تونس، أريد لها في العراق أن تفضي الى نفس النتيجة، من الناحية الاقتصادية والسياسية، خصوصا وأن الدافع اليها سياسي واقتصادي في نفس الوقت، ذلك أن النخبة السياسية في العراق، قد تسلل اليها الفساد، واستحكمت فيها المصلحية والمحاباة، على حساب بقية الشعب العراقي، وقد رأينا المستوى المتدني جدا للبنية التحتية، والاوضاع المعيشية في مدن الجنوب عموما والبصرة خصوصا، وهي التي تنتج نصيبا هاما من نفط العراق، ولا يستفيدون منه لا في اصلاح بنى تحتية، ولا في تقليص نسب البطالة بين الشباب .
يحتل العراق المرتبة الـ11، في مؤشر الفساد العالمي لعام 2017، ويقول البنك الدولي – رغم أنني لا أومن به كأداة مالية عالمية مصلحة – أن معدل البطالة بين الشباب في العراق يزيد على 20%، والى هذا الحد يبدو الأمر معقولا وقابلا للإعتبار، بأنه خلل وعائق فعلي، يتهدد أجيال الشباب العراقي، الذي سدّت في وجوههم ابواب الشغل والعيش الكريم، وبالتالي فقدوا الأمل في انفراج أوضاعهم الى الأحسن.
لكن الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أيضا، أن هذه الاضطرابات لم تكن عفويّة، رغم عدالة المطلب الاساسي في تحسين أوضاع المواطنين، والعراق بعد سقوط صدام، اصبح محط اهتمام امريكي كبير، يشترك فيه مع عملائه في دول الخليج، فما تخلل اعمال الشغب من حالات استعداء على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يدعونا بكل تأكيد الى مراجعة الاسباب الحقيقية الدافعة لها، والتي لا تخرج عن إطار تحويل ايران من بلد مسلم حسن الجيرة، وقف مع العراق في مواجهة تمدد الارهاب التكفيري، الى ثلاث من محافظاته الغربية والشمالية الغربية، حتى بلغت تهديداته أطراف العاصمة بغداد، واستطاعت بجهودها اللوجستية والاستخبارية، مع تضحيات الاحرار من ابناء العراق، أن تنهي وجود داعش هناك، وهو تعاون لا يجب بأي حال من الأحوار أن ينسى، وما قدّمته ايران في مكافحة الارهاب، يكفي وحده ليقطع طريق الخبث والمكر، لمن يسعى لتوريطها في شأن عراقي داخلي، لا ناقة لها فيه ولا جمل، على المتظاهرين أنفسهم أن يراجعوا حساباتهم ويسألوا أنفسهم من انتخب شخصياتهم السياسية في البرلمان ومنه جاءت الحكومة ليست ايران بكل تأكيد وإنما العراقيون انفسهم، أوعلى الأقل كل من شارك في اختيارهم بالانتخاب، والذي يختار فاسدا عليه ان يتحمّل نتيجة فساده وحده، فلا يرمي بها على غيره.
ويبدو أن توقيت هذه الاضطرابات من خلال استطلاعنا لما مضى من نوباته، أن مخططا خبيثا جدا يحاك لشعوب المنطقة، ويستهدف امنها واستقرارها، بعد فشل مؤامرة الارهاب التكفيري، فالأعداء متربصون بنا وشعوبنا تعيش كالأنعام السائبة، التي لم يرحمها حاكم توسّموا فيه الصلاح، ولا عدوّ سال لعابه ولا يزال على ثروات البلاد، ولا يهمه من أمر شعوبها مستقبلهم شيء.
اهداف عديدة يسعى اعداء العراق وايران في نفس الوقت الى تحقيقها، من وراء هذه الاضطرابات، تتمثل في:
– احداث أزمة حادة في العلاقات بين العراق وايران، بما يؤدّي الى زيادة في الوجود العسكري الأمريكي، يأمل الامريكيون في بلوغه حدّ اقامة قواعد عسكرية دائمة هناك، من شأنها أن تشكل تهديدا خطيرا ومباشرا لإيران الاسلامية.
– استهداف احياء اربعين الامام الحسين عليه السلام ومسيرتها العالمية، ومختلف اشكال تعاونها – الباعثة على الفخر والاعتزاز- التي هبّ عشاق الامام الحسين عليه السلام للقيام بها تطوعا، تعبيرا منهم على مظلومية أهل البيت عليهم السلام، التي بلغت مداها في كربلاء، ففيها تعبير تلقائي وصادق، على مدى المواساة والتضامن والتعبير بين الموالين في نختلف أنحاء العالم، بالأخوّة والوحدة التي يجب أن تتجسد بينهم.
– استهداف وحدة العراق ومؤسساته الوطنية الفاعلة، وفي مقدمتها الحشد الشعبي، الذي يراه الأمريكان والصهاينة وعملاؤهم يشكل خطرا عليهم وعلى مشاريعهم التآمرية على العراق والمنطقة، وقد تعالت أصوات هؤلاء الاعداء، مطالبة بحلّ هذا الجهاز العسكري، الرديف للجيش العراقي، وكان له دور أساسي في تحرير الاراضي العراقية من داعش.
– انعدام الرؤية الصحيحة وقلّة البصيرة، أدّت الى حصول انفلات تكرر ثلاث مرات، واللائمة تقع بالأساس على نخب العراق من وطنيين، مازالوا يعملون للصالح العام العراقي.
من هنا نفهم حقيقة الاضطرابات وتوقيتها وبالتالي التحقق من أهدافها، وما يعانيه الشعب العراقي من نقائص وحاجة يجب ان تحل بالعقل وحسن التفاهم وتقديم أفضل الحلول للخروج من ازمات اثقلت كاهل ابناء العراق، واعتقد أن العراق لن يعدم أخياره، ولن يكون لئيما كما يأمل أعداؤه، فيقع في حفرة لم تحفرها ايران.
نأمل بكل محبة وصدق أن لا يعيد العراقيون تاريخا سيئا ذات سنة 61 هجرية، فتتكرر احداث الكوفة، عندما قتل خذلانهم مسلم بن عقيل وأصحابه رضوان الله عليهم أولا، وقتل الحسين وأهل بيته عليهم السلام، واصحابه رضوان الله عليهم في كربلاء ثانيا بعدما دعوه لينتصروا به فخذلوه فلا يكون حظ ايران الإسلامية مثل حظهم، وهيهات أن يغفر الله لمن خذل أوليائه.