عبر تاريخنا الحديث ارتبط مصطلح الثورة بمعانٍ إيجابية تشير إلى توق الشعوب إلى التحرر من نير الاستعمار أو القمع، لذلك نرى البعض يستهجن أن توصف بعض التحركات عبر التاريخ بأنها ثورية، لأنها كانت أداة بيد الاستعمار أو القمع، ووسيلة لتحقيق أهدافهما، في خضم تعلقنا بحرفية المصطلح، يغيب عن التحليل مضمون المصطلح، وتداعياته.
يشير التاريخ إلى أن الثورات يمكن أن تكون تقدمية، أو رجعية.. الثورة التقدمية تكون على نمط رجعي سائد بهدف تحطيمه والانتقال نحو نمط جديد، بمعنى أن التقدمية تعني التقدم نحو الأمام. بهذا المفهوم تصبح الثورة الديمقراطية البرجوازية فعلاً تقدميّاً، لأنها حطمت نمط الإقطاع الرجعي السائد، وانتقلت إلى نمط الإنتاج الرأسمالي الذي غيّر البنية الاجتماعية والاقتصادية وأدى إلى التمايز الطبقي، أما الثورة الرجعية فهي التي تحاول تحطيم النمط السائد لمصلحة نمط ماضٍ استهلك شروط وجوده، فالثورة اليوم إذا هدفت إلى استعادة الديمقراطية البرجوازية تصبح ثورة رجعية. وفي هذا السياق تكون أي ثورة تحاول استعادة البنى الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالدين.. ثورة رجعية.
حتى لا يلتبس الأمر علينا فإن الدين ليس مصدر الرجعية… الرجعية تكمن في محاولة استعادة البنى الاجتماعية والاقتصادية من حقبة ماضية مرتبطة بالدين، لذلك فالدين يمكن أن يحمل مفهوماً تقدمياً إذا شكّل ثورة على النمط الرجعي السائد، والأمثلة كثيرة؛ من تمرد مارتن لوثر على الكنيسة، إلى لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، وحتى الثورة الإسلامية في إيران.
وإذا أردنا تطبيق هذه المقدمة على ما حدث ويحدث في بلادنا تحت عنوان «ثورات الربيع العربي» وخاصة في جيلها الثاني الذي يضرب العراق ولبنان والجزائر، فسوف نصطدم بصعوبة التوصل إلى نتائج حاسمة، فمن ناحية يمثل خروج المواطنين بأعداد كثيفة إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم، حراكاً ذا مضمون تقدمي. لكن وضع هذه الحراكات في سياق المناخ السياسي الدولي والمخططات والمؤامرات التي تستهدف المنطقة تجعلنا نتريث قليلاً بانتظار النتائج.
لا يمكن تصنيف هتاف من قبيل «يسقط حكم المصرف» الذي دوى في شوارع العاصمة بيروت إلا أنه هتاف تقدمي بامتياز، يستثير حماستنا السياسية والثورية، لكننا سمعنا مثل هذا الهتاف في أكثر من عاصمة، وكانت النتيجة كارثة أصابت الأمة.
ألا نلاحظ التشابه بين هؤلاء الذين يقومون بتسديد سهام «ثورتهم» إلى الحشد الشعبي الذي يشكل أحد أركان محور المقاومة، الذي قدّم خيرة شبابه دفاعاً عن العراق، ولم يكن موجوداً زمن بريمر ودستوره الطائفي، وأولئك الذين يحاولون الخروج من عنق زجاجة الطائفية من بوابة حزب الله الذي لم يكن طرفاً في الصفقة الطائفية الأولى عام 1943، ولا الثانية في اتفاق الطائف 1992؟!
أما في الجزائر فالمطلوب رأس الدولة الجزائرية نفسها، في سيناريو يذكّرنا بالمؤامرة على سورية في مطلع هذا العقد. فالدولة الجزائرية كما الدولة السورية من الدول التي تقوم بدورها الاجتماعي فتؤمن التعليم والطبابة، وإلى درجة معقولة السكن، وتمارس حداً كبيراً من السيادة على أرضها وقرارها السياسي والاقتصادي. هذا النموذج يعوق دور السماسرة المرتبطين بالاقتصاد العالمي، وأصبح مرفوضاً في عالم الرأسمالية وأتباعها الذي يعاني أزمات طاحنة ومتتالية، لم يجد حلاً لها إلا باستعادة وجهه الاستعماري القديم والقبيح في آنٍ معاً.
نحن إذاً أمام معضلة حقيقية، فمن ناحية تطرح الجماهير في الشارع مطالب عادلة ومشروعة، ومن ناحية أخرى تشحذ الرأسمالية وتوابعها سكاكينهم لذبح الأوطان وتخريبها وإنهاء أي محاولة أو فكرة للمقاومة.
وسط هذا الضباب أتى خطاب سماحة السيد حسن نصر الله ليضع الأمور في نصابها، هناك من يعبث بالحركة الشعبية، التي حققت إنجازات مهمة، ويحاول البناء على هذه الإنجازات للوصول إلى الفوضى.. جزء من الفوضى التي يسعى إليها اللاعب الخفي يكمن في جر محور المقاومة إلى مواجهة داخلية، من خلال التركيز في الهجوم على شخصيات العهد، وحلفائه بمن فيهم حزب الله. في الوقت نفسه لا يرى الحزب أن دوره يكمن في منع الناس من التعبير عن مطالبها المشروعة. فكان الطلب إلى جمهور المقاومة بترك الساحات، واكتفاء الحزب بمراقبة الأحداث بدقة، والتدخل عند الحاجة.
هذا الموقف العقلاني أخرج اللاعب الخفي عن طوره، ودفعه إلى الإسراع بالانتقال إلى المرحلة الثانية من مشروعه والمتمثلة في محاولة تفجير الوضع الأمني. فكان إطلاق النار على مناصري حزب الله بعد خطاب سماحة السيد حسن نصر الله، وحادث إطلاق النار باتجاه الجيش اللبناني في منطقة البدّاوي.
لسنا بحاجة للخروج باستنتاجات كثيرة، فمعهد القدس في «إسرائيل» قدم تحليله للأحداث في لبنان والعراق، مستنتجاً أن الأحداث الأمنية «تشغل» أعداء «إسرائيل» (حزب الله، والحشد الشعبي) فهم «مشغولون بالوضع الداخلي ما يحد من قدرتهم على تشكيل تهديد أمني لإسرائيل»، وهي النتيجة نفسها التي وصل إليها ما يسمى «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، الذي يرى أن حزب الله سيضطر إلى الانشغال أكثر بالوضع الداخلي اللبناني ما يقلل من فعاليته على «الحدود» الشمالية.
لسنا أمام ثورات، فالأوضاع لا تتجاوز تحركات شعبية مطلبية، ذات مضامين تقدمية في بعض مطالبها، لكن العامل الخارجي موجود وبحدّة، وهو يحاول وربما يحقق نجاحاً معقولاً في صياغة موجة جديدة من «الربيع العربي». لذلك فإن موقفنا كجمهور ومثقفين لا بد من أن ينسجم مع ما عرفناه وخبرناه من جولات هذا «الربيع» المشؤوم. وألا ننساق إلى العواطف الشعبوية والبحث عن الجماهيرية، فالعدو الرأسمالي يسعى لإشغالنا عن معركتنا الحقيقية التي تدور في الميادين ونحقق فيها الانتصار تلو الآخر. أما إذا تحققت المطالب التقدمية للجماهير التي خرجت إلى الشوارع، فإن ذلك يعزز من قوة محور المقاومة، لأنه أصلاً المعبر الحقيقي عن تطلعات هذه الجماهير.
*كاتب من الأردن