على الرغم من الإحتجاجات المطلبية المرتبطة بالضغط الإقتصادي، والتي شهدتها دول عدة في منطقة الشرق الأوسط، وامتدت من مصر إلى العراق وإيران، إلا ّ أن التظاهرات اللبنانية جذبت الإهتمام الإقليمي والعالمي وحاولت أن تتميز وتقدم نفسها كظاهرةٍ كبرى، ودفعت للسؤال عن محلية الحراك والشعارات التي عكست هموما ًوأوجاعا ًتسبب بها الفساد عبر عقود، الأمر الذي أدى إلى توسيع الفوارق الطبقية والمجتمعية وكرّس المحسوبيات وعزز هياكل الدولة الفاشلة من جهة، ومن جهةٍ أخرى أشار مجددا ً وبوضوح إلى ما هو أبعد و أعمق تاريخيا ًوسياسيا ، بما يتعلق بالإنقسام والإصطفاف اللبناني والعربي عموما ً تجاه بعض القضايا الكبرى والمركزية محليا ًوإقليميا ًحتى دوليا ً، بشكلٍ يستمر معه لبنان – البلد الصغير- ليعبر عن درجة الحرارة والحالة الصحية للمنطقة.
ومن خلال نظرةٍ موضوعية، والتي لا يمكن معها تجاهل المرض والمريض، لا بد من ملاحظة الحمى والصدمات والزلازل التي تعرضت لها دول المنطقة بعد أحداث أيلول الشهيرة 2001 في نيويورك، والتي يمكن وصفها بـ “الصدمات الإستراتيجية”، الأمر الذي انعكس وهنا ًوضعفا ً أصاب الدول والشعوب ووضعها تحت تأثير مختلف الضغوط والمخاطر الزاحفة نحو الجميع دون تردد، بأوجهها المتعددة العسكرية والسياسية والإقتصادية، وبالطبع كان على لبنان أن يتلقفها بطريقته وبتركيبته السياسية – الطائفية -، وبالإلتزامات الخارجية التي تكبل جميع أطرافه الداخلية.
إن إنهيار المعالم القديمة للنظام الدولي، دفع المراكب الأمريكية للإبحار نحو شواطىء العالم بدءا ً من عالمه القديم، وجعلها ترسو في أفغانستان والشرق الأوسط معتمدة ًعلى خرائط برنارد لويس وهنري ليفي وعقيدة وولفويتز، مؤمنة ًببعض أسفار العهد القديم المجتزأة وترانيم التلمود ووثيقة كيفونيم، لتبدأ صدماتها الإستراتيجية من “الليبرالية” الغربية وصولا ً إلى “الراديكالية” العربية… وأصابت الجميع إما بشكل مباشر، أو بشكل نفسي غير مباشر، جعل فقراء ومترفي العالم القديم يفقدون شهيتهم على الطعام ويستعدون للمرض القادم أكثر فأكثر.
وبعيدا ًعن سرد الأحداث الطويل والمعروف للجميع، مع اختيار نقطة بداية قريبة، يمكننا ملاحظة تقاعس وربما إستعصاء الرد الأمريكي على إسقاط الطائرة الحديثة – الثمينة بدون طيار إيرانيا ً، والضربات القاتلة في أرامو يمنيا ً، والسجاد الأحمر الذي فُرش للرئيس بوتين في الرياض سعوديا ً، أمورٌ حددت بمجملها إتجاه إنتشار المرض وعودته ليصيب القلب الأمريكي، ويضيف إليه جروحا ًوإرتباكا ً، ما بين رغبة الإسرائيليين ببقاء القوات الأمريكية في سورية، ورغبة الرئيس ترامب ومؤيديه في الداخل الأمريكي بإستمرار الإنسحاب السلس منها… في أجواء هدوء نسبي وعدم التصعيد الدولي والإقليمي، بدءا ً من جبهات غزة والجولان المحتل ولبنان وسورية والعراق والمواجهة مع إيران.
يبدو أن الهدوء الأمريكي المنشود، تلقفه كل المعنيين على طريقتهم الخاصة، فرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، وعلى الرغم من إنشغاله الداخلي، لم يتوقف عن زعزعة أمن المنطقة، وسعى لجولات إضافية من العنف والعدوان على غزة، وتعمد شن الغارات الجوية على سورية، مستخدما ً أجواء لبنانية وجولانية لعدوانه على أهداف – مزعومة – إيرانية ولحزب الله في سورية، كما تلقفها ساسة لبنان التقليديين استمرارا ً للسعادة والفوز بوجبات طعامٍ شهية في ظل الوضع القائم، فيما وقع المواطنون فريسة “ستاتيكو” سياسي دولي يستنزف بطونهم واحتياجاتهم واّلامهم، في الوقت الذي ألهب الفيروس التركي – الأردوغاني أوجاع الشمال والشرق السوري، عبر إتفاقاتٍ شيطانية مع واشنطن، وإتفاقياتٍ مضادة مع موسكو بعد قمة سوتشي، بما يدعم بالمحصلة الهزات والقلق في المنطقة، والتي انعكست هواجسا ً مخيفة للبعض ومحفزة للبعض الاّخر، وكلٌ بحسب إصطفافه وموقعه وإلتزامه، فكان حراكا ًوتظاهرا ًواضحا ًوغامضا ًفي نفس الوقت.
على الرغم من محاولات إخفاء التدخل الخارجي، إلاّ أن أعراض المرض خرجت عن السيطرة لحظة إعلان الحريري إستقالته، مخالفا ًرغبة من خففوا عنه دمعه الذي انهمر في الرياض قبل عامين، وتمسك بغرابة بحكومة تكنوقراط لا تعكس امتلاكه قوة ًسياسية مشهودة، على رغم التمثيل السني الكبير الذي يحظى به، ونال دعم صديقه الاّذاري وليد جنبلاط الذي ذهب إلى أبعد وإلى نسف إتفاق الطائف، وبدعم سمير جعجع الذي طالب بتسريع تأليف هكذا حكومة … فيما أبدى العونيون وحزب الله وحركة أمل مرونة ً كبيرة ووافقوا على حكومةٍ مزيج من التكنوقراط والسياسيين، الأمر الذي أحرج مدير اللعبة الحقيقي، وخرج جيفري فيلتمان ليؤكد المرض ويطرح شروط بلاده للشفاء، مقابل التهديد بالإنهيار إن لم يحصل التغيير المنشود أمريكيا ً.
وفي وقتٍ تعدد فيه التشخيص الدولي وحُصر المرض برفض حكومة التكنوقراط روسيا ً، وعجزا ً ويأسا ً فرنسيا ًحول “عدم وجود توافق دولي” – بحسب مستشار الرئيس ماكرون، وبالتفكير الفرنسي لإرسال موفدٍ جديد، وبالبحث عن “تعبئة ٍ دولية” لإيجاد الحل، فيما كان بومبيو يؤكد “فخر” بلاده بالوقوف إلى جانب الشعب اللبناني، لقد فضح فيلتمان كل مستور من خلال حديثه عن ترسيم الحدود وأهمية الفاز والنفط والصراع مع “إسرائيل”، وخشية بلاده من المنافسة الروسية والصينية على الموانىء اللبنانية ومن استعمالها سوريا ً لصالح إعادة الإعمار، معبرا ًفي الوقت ذاته عن سعادةٍ خفية بأن استمرار التظاهر والحراك يقوّض الشراكة بين التيار الوطني الحر وحزب الله … من الواضح أن الحريري من حيث يدري أو لا يدري يسير على طريقٍ عبّدها جيفري فيلتمان ودولته العميقة.
وفي الوقت الذي بدأ فيه الحراك يفقد بريقه الشعبي العفوي وتسقط أقنعة الأحزاب على الطرقات المقطوعة، وتتهاوى معه قوة تأثير بعض القنوات التلفزيونية في التحريض وإشعال الفتن، بدأ الأمريكيون بتقديم التنازلات، نتيجة عدم قدرتهم على تحمل تكاليف الساحة اللبنانية إضافة ً لما يتكبدوه في الساحتين السورية والعراقية، وسط مخاوف حقيقية من تسويةٍ قد تُفرض عليهم فجأة في سورية بعد كلام الرئيس بشار الأسد عن “المقاومة العسكرية للإحتلال الأمريكي”، فجاء كلام الوزير بومبيو بنفحةٍ عقلانية سمتها شراء بعض الوقت، ليؤكد أن:”واشنطن مستعدة للعمل مع حكومة لبنانية تستجيب لإحتياجات مواطنيها”.
من خلال تعدد الأطباء والتوصيف المرضي والوصفات، لا يبدو أن الشفاء متاحا ًعلى المدى القصير والمتوسط، وأقله قد يستمر إلى ما بعد الإنتخابات الأمريكية، فالإدارة الحالية لا تستطيع إعادة الوضع إلى ما قبل 17 تشرين الأول في لبنان، وفي العراق، وسط العبور الإيراني لعاصفة الإحتجاجات، كي لا تمنح “حلفائها” ومنافسيها وأعدائها فرصة التصعيد العسكري في أيا ًمن ساحات الإشتباك في المنطقة، وتفضل سيادة حالة المرواحة في الفوضى لتمرير الفترة الإنتخابية دون مشاكل إضافية قد تكون حاسمة تجاه نتيجتها وتأثيرها الحاسم على سيد الأبيض الجديد أو القديم – الجديد.
يبدو أن الحريري بعيدا ً كل البعد عمّا يجري في الخفاء والعلن، بعدما فضحه وجهه العابس الغاضب الذي ظهر فيه صباح احتفالية عيد الإستقلال، الأمر الذي يؤكد قلة حنكته السياسية وغلبة عواطفه الشخصية على تصرفاته كرئيسٍ للحكومة وكرجل دولة، والتشنج الذي أظهره يؤكد إعتقاده ببعض القوة، في حين يدرك الجميع بأنه لو قرأ التنازلات والتراجع الأمريكي النسبي لبكى على كتف الجنرال عون وبين أحضان الأستاذ نبيه بري.