عدة أسابيع ولا يزال المشهد الإعلامي يرصد تظاهرا ًوحراكا ًوإنقلابا ًفي سلوك الكثير من اللبنانيين تجاه فساد غالبية قادتهم السياسيين التقليديين ونظامهم السياسي – الطائفي, الذين أوصلوا البلاد إلى حافة الهاوية بعدما حكموا البلاد لعقود طويلة, دون إحراز أي تقدم على مسار الإصلاحات السياسية والإدارية, أو الإهتمام بالبنى التحتية أو بتوفير فرص العمل .. شوارع غصت بالمحتجين تحت نير الفقر والعوز, وسط غياب الدولة وتغييبها عن قيامها بواجباتها تجاه مواطنيها في الإطار العام, وإنكفاء غالبية أركانها نحو تحقيق المصالح الفردية والشخصية والحزبية لساسةٍ أصابتهم التخمة وتعفنوا على مقاعد الحكم …
هو دائما ًالإنقسام القديم ذاته في الشارع الوطني والطائفي, ما بين لبنان الكبير والصغير, لكن التدخل الخارجي الغربي والضغط الأمريكي وسّع الشرخ وخنق الجميع ليدفع بهم نحو الشارع, وأصاب الإقتصاد اللبناني من بوابة السلوك السياسي للعهد الحالي والعقوبات على حزب الله وشخصيات وكيانات أخرى .. ويبقى السؤال هل تستهدف الولايات المتحدة أعدائها في لبنان فقط أم تذهب إلى أبعد وتصل حد استهداف إستكمال إنتصار سوريا وعودة مواطنيها وإعادة إعمارها, وكسر الإرادة الإيرانية في المنطقة… يبدو أن الجواب أتى واضحا ًوصريحا ًعلى لسان المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت بقولها: “الإضطرابات ستتواصل في لبنان وسوريا واليمن وفي أي مكان توجد فيه إيران ما لم تؤتِ حملة الضغوط الأمريكية ثمارها”… فيما أتت تصريحات الوزير بومبيو خليطا ًمتناقضا ًما بين الوعود بمساعدة لبنان وتهديد المقاومة.
من الواضح أن الولايات المتحدة تراهن – حاليا ً- على استدامة الفوضى في دول وأحزاب وبيئات محور المقاومة, كإستراتيجية وحيدة لتمرير فترة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية, ولخلق أوراق إبتزاز جديدة, تضاعف عبرها الضغوط على الدولة الإيرانية وتدفعها نحو الأحضان الأمريكية … فهل حققت الولايات المتحدة شيئا ً من أهدافها حتى الآن؟
يبدو أنّ ما تحقق فعليا ًهو إنتشار حالة الخوف والترقب والغموض, وارتفاع أسعار البضائع, وانخفاض كميات الأدوية والسلع في الأسواق, وخسارة الليرة اللبنانية أكثر من 40% من قيمتها مقابل الدولار, فيما فقد الكثيرون وظائفهم, وبالكاد حصل بعضهم على نصف راتبه … أما الطرقات فباتت تغلق بأوامر أمريكية وبتنفيذٍ حزبي – محلي, تابع مأمور محسوب بدقة… وسط وعي كبير لقيادة الجيش اللبناني, التي قرأت خطورة النوايا وسارعت لفتح الطرق الرئيسية وإبعاد “البلطجية”.
وكعادته قرأ حزب الله وحلفائه المشهد بشكلٍ صحيح وبعناية وتروي, وحاولوا تجنب الإستفزازات, ودعا السيد نصر الله إلى:”ضبط الأعصاب والصبر والتحمل وعدم الإنجرار إلى أي توتر أو مشكلة”, وشكل الحزب مع حركة أمل لجانا ً لضبط شارعيمها.
فيما حاول الرئيس ميشال عون تهدئة الأوضاع والنفوس, وبتسريع إتخاذ الخطوات الدستورية التي من شأنها الإسراع بتكليف رئيسٍ للحكومة, والقيام بكل ما من شأنه تفويت الفرصة على القوى الخارجية ومنعها من استثمارالحراك العفوي والمسيس لصالحها, وكان على وشك تكليفٍ جديد لمرشحٍ جديد “سمير الخطيب”, لولا تدخل السلطة الدينية السنية وبعض الأحزاب السياسية لدعم ترشيح الحريري مجددا ً, وسط معارضة البعض الاّخر, وهذا ما ستؤكده الإستشارات بداية الإسبوع القادم.
من المؤكد, أنه يمكن إعتبار كل ما حصل حتى اللحظة يشكل بداية فشلٍ حقيقي للمخطط الأمريكي في لبنان, فقد تمكن حزب الله بحكمته تجنيب لبنان الإنزلاق نحو حربٍ أهلية جديدة, واستطاع دعم وتعزيز مواقف حلفائه, وسيكون لاحقا ًجزءا ًمن الحكومة الجديدة مهما كانت تركيبتها وصيغ تشكيلها, وهو القادر على تقديم شخصيات جديدة من التكنوقراط أو السياسيين, وحتى من الوزراء التقليديين.
وأن يكون حزب الله ممثلا ً بالحكومة الجديدة فهذا من حقه نظرا ً لتمثيله الواسع في البرلمان, الأمر الذي يساعده على منع واشنطن من فرض كلمتها في الداخل اللبناني لخدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية, خصوصا ًما يتعلق بالملفات الصعبة كحقوق وحدود النفط والمياه, وعودة اللاجئين السوريين, ومنع الولايات المتحدة من التدخل في ملف ترسيم الحدود البرية بين سوريا ولبنان …
بات فشل الإدارة الأمريكية في تحقيق أيا ًمن أهدافها واضحا ً, على الرغم من إعتلائها موجة المطالب وتبنيها الفوضى والحراك… فقد فشلت في جرّ حزب الله لقتالٍ داخلي, وفي إبعاده عن المشاركة في أية حكومة جديدة, وفشلت في التأثير على طريق المقاومة السالكة نحو سوريا ومنها إلى العراق وإيران وروسيا والصين.
تبدو واشنطن وقد رمت بكل أوراقها في لبنان ولم تحصد سوى الفشل, وعليها توقع المزيد مع إصرارها على عرقلة تأليف الحكومة, ومحاصرة الدولة والشعب اللبناني في لقمة عيشه وبإنهيار إقتصاده, الأمر الذي سيدفع اللبنانيين أكثر فأكثر للإتجاه نحو روسيا والصين, وسيدفع الأوروبيين إلى تخفيف ضغوطهم على العهد الحالي, ولتقديم بعض التنازلات وربما لحرق أوراق إعتماد بعض الشخصيات السياسية, مقابل المحافظة على مصالحهم في لبنان والمنطقة.