بعد عدة محاولات لتأجيل عقد جلسة لمجلس النواب العراقي تم من ضمنها ممارسة ضغوط على مكونات رئيسية سياسية على الساحة العراقية لا بل وتهديدها برفع الدعم الامريكي عنها وذلك لتلافي أخذ قرار يلزم الحكومة العراقية بإتخاذ الاجراءات لانهاء تواجد القوات الامريكية على وجه التحديد في العراق الى جانب قوات ما سمي “بالتحالف الدولي” ولم تنقطع هذه المحاولات حتى لغاية اللحظات الاخيرة لانعقاد الاجتماع فقد تم عقد الاجتماع البارحة بعد إكتمال النصاب القانوني له.
وإتخذ مجلس النواب العراقي في جلسته اليوم قرارا ملزما للحكومة العراقية يقضي بإنهاء التواجد الاجنبي في الاراضي العراقية ومنعها من استهداف الاراضي والاجواء العراقية لاي سبب كان كما وتضمن القرار أيضا إلزام الحكومة بإلغاء طلب المساعدة المقدم الى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش. هذا ابرز القرارات التي إتخذت الى جانب رفع مذكرة الى رئاسة مجلس الامن الدولي والامين العام للامم المتحدة يتضمن شكوى رسمية بشان الهجمات والاعتداءات الامريكية ضد مواقع عسكرية عراقية والقيام باغتيال قيادات عسكرية عراقية وصديقة رفيعة المستوى على الأراضي العراقية، والتي نتج عنها استشهاد نائب رئيس هيئة الحشد الشعبيّ الشهيد جمال جعفر محمد (أبو مهدي المهندس)، مع ثلة من الشهداء من القيادات العراقية والصديقة، في انتهاك خطير للسيادة العراقية وبمخالفة لشروط تواجد القوات الأمريكية في العراق” وهذا ما جاء في الرسالة التي رفعت رسميا من قبل وزراة الخارجية العراقية.
ولا شك ان مثل هذه القرارت لم تكن لتأتي لولا غليان الشارع العراقي وتوحده ضد الوحشية العلنية للولايات المتحدة والاهانة الفاضحة التي وجهت الى العراق والعراقيين بغض النظر على انتماءاتهم السياسية. ولا شك ايضا أن الولايات المتحدة التي قامت بإرسال الاف الجنود الى المنطقة سواء الى العراق او لبنان أو سوريا لن تخرج من العراق بهذه السهولة. الولايات المتحدة بنت كل الاحلام على السيطرة الكاملة على العراق ونهب ثرواتها وإتخاذ الاراضي العراقية كمركز للحفاظ على مصالحها في المنطقة وخاصة بعد ان تبين لها على ارض الواقع ان الكيان الصهيوني لم يعد قادرا على حمايتها ولا حتى حماية نفسه هو الذي أصبح يجابه خطرا وجوديا جديا. كما ان التواجد على الاراضي العراقية سيتيح للولايات المتحدة محاصرة إيران. ويكفي ان نشير هنا الى أن بناء أكبر “سفارة” أمريكية في العالم على الاراضي العراقية لتكون أكبر مركز تجسس وجمع المعلومات في المنطقة وربما في العالم وهذا بالتحديد له أهمية ودلالات كبيرة. وفي هذا المجال نستحضر هوية وطبيعة عمل السفارة الامريكية في طهران وما كانت تحتويه من الداخل. والسفارة في العراق هي اكبر بكثير من تلك وتحتوي على مهبط للطائرات الى جانب دبابات ومئات من قوات المارينز…الخ وهي مقامة على مساحة ارض يبلغ ماحة دولة الفاتيكان.
الولايات المتحدة ستعمد على إبطال أو عرقلة مشروع القرار الذي اتخذه مجلس النواب العراقي بعدة سبل. وإحداها ربما تكون على شاكلة ما رأيناه في الفترة الاخيرة وهي تحريك عملاءها في الداخل العراقي وبدعم مالي سعودي وخلق نوع من الفوضى وصدامات مع رجال الامن والشرطة العراقية وتصعيد هذه الاحتجاجات الى ان تصل الى حد يستدعي التدخل المباشر للجيش وربما إستيلاء الجيش على السلطة كما هو الحال في الثورات الملونة التي أشرفت عليها أجهزة المخابرات الامريكية في اوكرانيا وجورجيا وغيرها.
كما من الممكن ان تؤلب بعض المحافظات ذات الاغلبية السنية على السلطة المركزية في بغداد وخاصة في منطقة الانبار وبدعم سعودي أيضا لاثارة الفتنة الطائفية ومطالبة محافظة الانبار بالحكم الذاتي أو حتى الاستقلال. ويجدر ان نشير هنا الى أن منطقة الانبار قد تم ذكرها من ضمن صفقة القرن وترشيحها كمنطقة يمكن توطين اعداد كبيرة من الفلسطينيين بها. ولا شك ان الغرف من بئر المذهبية والطائفية سيزداد وستحاول الولايات المتحدة وأذنابها في المنطقة تصعيد مخاوف المكون السني في العراق في حالة انسحاب القوات الامريكية وتصوير نفسها وكأنها حامية للمكون السني في العراق وهي التي عمقت الهوة الطائفية والمذهبية والعرقية من خلال نظام المحاصصة التي نص عليها دستور تفوح منه رائحة الفتنة والانقسام في المجتمع العراقي.
كما وأن الولايات المتحدة ما زالت تملك ورقة إرهاب داعش, وبالتالي فإنها ستعمد على إطلاق يد الدواعش الذين ما زالت تحتفظ بهم هنا وهناك من قيادات وعناصر. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قامت الولايات المتحدة بتهريب الاف الدواعش من مدينة تلعفر العراقية الذين ذهبوا و “استسلموا” الى القوات الكردية حينئذ ولم نسمع على الاطلاق عن مصيرهم. كما وان قوات الحشد الشعبي قد وثقت بالصورة عمليات نقل قيادات داعشية بطائرات امريكية في الاراضي العراقية. وقد ذكر ايضا ان هنالك اعداد كبيرة من الدواعش التي أخليت من مدينة الرقة على ايدي القوات الامريكية قبل دخول . وفي الفترات الاخيرة بينت دراسة عراقية ان هنالك كان تعاون بين الدواعش والقوات الامركية المتمركزة في العراق أثناء محاربة الارهاب. ولا شك اننا سنسمع عن تزايد نشاط الدواعش وخلاياه النائمة في العراق في الفترة المقبلة وستستخدم الولايات المتحدة هذه الورقة للبقاء في الاراضي العراقية.
أما الاحتمال الرابع الذي من الممكن ان تسعى اليه الولايات المتحدة هو تدبير إنقلاب عسكري. ولا شك ان التواجد الامريكي لسنوات طويلة في العراق بعد الغزو 2003 وأخذ مسؤولية “بناء” جيش عراقي جديد (مدفوعة لثمن ذلك طبعا) بعدما اخذت القرار بحل المؤسسة العسكرية والجيش العراقي بعد الغزو مباشرة قد اتاح لها فرصة ذهبية لتجنيد ضباط وقيادات رفيعة في الجيش العراقي لصالحها وفتح إمكانية استخدامهم في المستقبل. ومثل هذه الممارسات برعت فيها أجهزة المخابرات الامريكية وخاصة في دول امريكا اللاتينية ومن يراجع تاريخ الانقلابات العسكرية في هذه القارة سيجد ان معظم إن لم يكن كل الذين قاموا بالانقلابات العسكرية منذ خمسينات القرن الماضي كانوا ضباطا تلقوا علومهم وتدريباتهم العسكرية في مدارس عسكرية أمريكية ربما اهمها ويست بوينت.
والسؤال الذي ربما يدور في ذهن الكثيرين الان هل هذه القرارات التي بنيت على خلفية استشهاد قامتين من قامات المقاومة وما تلاها من ردود فعل هي بداية الغيث وتحولات استراتيجية في مجابهة الولايات المتحدة في المنطقة؟ الولايات المتحدة ورئيسها الارعن أرادتها حربا مفتوحة دون مواربة وليس من خلال أدواتها وأذنابها وهذا ما ستشهده المنطقة على ما يبدو.