من كان يتوقّع أنّ جسيماً صغيراً سيكون له دور تاريخي في زحزحة المركزية الغربية بعد الكشف عن هشاشة المركز؟.. لا أحد، فلقد أحاطت المركزية الغربية نفسها بأساطير حديثة تشبه الأساطير الأولى، فالمركز هو الحاضر والمتقدّم بقوة الهيمنة الاقتصادية والتفوق العسكري والتّطور التّقني.. سيطلّ كورونا برأسه من ووهان -واحدة من أكبر المناطق الصينية من حيث التمركز الصناعي- والحقيقة أنّ كورونا كان يلفت الأنظار إلى أنّ مركزاً جديداً يلوح في الأفق، حيث استقطب الأنظار حول القوة الاقتصادية الجديدة والتفوق التقني في احتواء المرض.
لقد بدا الغرب يفقد آخر عناصر تفوّقه، لقد ضرب الطاعون المركزية الغربية وزعزع أركانها وأصبح العالم بفضل كورونا على قناعة بأنّ البشرية تتجه نحو نظام عالمي جديد بأقطاب متعددة، لكن الأهمّ هو أنّ المركزية الغربية بدأت تسلم مفاتيح قيادة النظام العالم الجديد لقوى جديدة وسيكون لآسيا والشّرق دور في تشكيل عالم الغد.
قريباً سيُتاح لنا تأويل أساطير عصر المركزية الغربية، وسندرك أنّ العالم دخل في موجة حداثية مختلفة، حداثة تقوم على توسيع مجال الشّراكة، حداثة تنفتح على الإمكانات التي استبعدتها أساطير المركزية الغربية عبر أنماط الاحتكارات والهيمنة الإمبريالية، حداثة تخرج من عوائقها الذّاتية ومجالها الاحتكاري وإثنيتها. سيُتاح لنا تأويل أكثر من أربعة قرون من الأساطير التي لم يكن العالم في حاجة إليها بقدر ما كان الغرب في حاجة إليها لتعزيز فكرة أنّ «العقل للغرب والقلب للشّرق» وأنّهما في نهاية المطاف لا يلتقيان، سندرك أنّ أقطاباً جديدة في هذا العالم أعادتنا إلى الحدث «البروميثيوسي» وبأنّ كورونا قد يكون هو ذلك الشّر الذي أطلقه «صندوق باندورا» ليُلاحق من اقتبسوا من نار المركزية الغربية قبساً في لعبة الاستقطاب الممنوع.
خلال السنوات الماضية عشنا بداية تهاوي المراكز والأقطاب والأساطير، وفي السياق ذاته كانت هناك قوى تنشأ في سديم هذا الصّراع، كانت المركزية الغربية مكسباً غير قابل للانزياح، وكان نيرون متشبّثاً بهذه المركزية حدّ الجنون، ونشأت على هامش ذلك أفكار وتيارات وإيديولوجيات عنصرية وتصنيفية، وقامت حروب واحتلالات وغزو، وكلّ ما حدث كان يرعى على هذه المركزية.. لكن كان هناك لكل مركز هامش وهامش الهامش، لا يوجد هامش مباشر، والعالم الثالث لم يكن يوماً هامشاً مباشراً بل كان على مدى التاريخ بمثابة هامش الهامش، فالمركز «المركزي» يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية بينما الهامش المباشر هو أوروبا، وداخل أوروبا يوجد هامش الهامش، أي سائر الدول الأوربية الجنوبية مثل إيطاليا، إسبانيا، اليونان.. إلخ، إلى أن نصل إلى هامش الهوامش، وكل هامش بالنسبة لمن تحته يشكل مركزاً، وكل مركز بالنسبة لما فوقه يشكّل هامشاً مباشراً، وعند الجوائح تتعرّى حقيقة هذه الهرارشية (أي التصنيفات الهامشية المذكورة) فيتحلل المركز من هوامشه المباشرة ويلوذ بالفرار.
وقد أظهر فيروس كورونا أنّ إيطاليا وإسبانيا وقبل ذلك اليونان في جائحته الاقتصادية ما هي سوى هوامش متقدّمة إزاء مركز المراكز الغربية.
لقد بدأنا نشاهد معالم تفكّك الهيكل وبأنّ إعادة توزيع مراكز القوى في العالم ما بعد كورونا سيكون حاسماً.
كسر كورونا “كبرياء” المركزية الغربية، وستكون لهذا الانكسار آثار تراجيدية على الغرب خلال الحقبة القادمة، إن انزياح المركزيات له أثر كبير على مسار تاريخ الحضارات، وإذا كان فرويد «انظر:Une difficulté de la psychanalyse» قد استطاع تحديد الجروح النرجسية التي توالت على العالم -الجروح الثلاثة التي أطاحت بمركزية الأرض (كوبرنيكوس) ومركزية الإنسان (شارل داروين) ومركزية الشعور (فرويد)- فإنّ هذه الجروح ليست جديدة ولا محصورة في هذه النماذج الثلاثة، يمكننا الحديث عن جروح أخرى بعضها أقدم وبعضها حديث وأحدث، بعضها أدركته البشرية وبعضها لم تدركه وبالتالي لم تتأثر به وحوصر داخل نخبة محدودة، وليس ها هنا مورد التفصيل في ذلك، لكن يمكننا القول إنّ كورونا شكّل جرحاً نرجسياً استهدف مركزية الغرب في الصميم.
لا شكّ أنّنا أمام جائحة تضرب العالم ولا تميّز بين الأقطار، غير أنّ ضرر الغرب سيفوق ضرر العالم الثالث.. ثمة جائحتان: كورونا وانهيار المركزية الغربية.. كورونا يصيب الإنسان في سائر بلاد العالم في جهازه الصّحي، لكنه في الغرب يطيح بهيكله التّاريخي.
علينا أن ندرك مسبقاً أنّ سقوط الأساطير الكبرى وانهيار المركزيات العظمى ليس حدثاً هيّناً في التّاريخ، إنّ تداعيات انحطاط الغرب ستكون مَهولة، وفي هذا المستوى الحضاري الكبير لا نتحدّث عن انتصارات حيث إنّ تداعيات الحدث ستكون مكلفة للجميع، ولكنه ثمن التغيير والتّحوّل العالمي ونتاج صراع طويل.
الحضارات الكبرى والقوى العظمى يقترن سقوطها بحدث مفارق، يلعب الجنون دوراً كبيراً، وأيضاً الميكروبات التي تعمل على تسوّس أركان الإمبراطوريات، فلا ننسى حماقات نيرون، وكيف كان يعزف على أنقاض روما.. لا أحد سيهضم هذا الانهيار، ولكّنه سيقع، وسيعيد النّبض للفكرة القديمة لشبنغلر (أوسفالد أرنولد غوتفريد شبينغلر مؤرخ وفيلسوف ألماني).
غير أنّنا نتحدّث عن انهيار المركز، وهو حتمية تاريخية تمنح فرصة لانبعاث الهامش الذي سيكشف عن مهارات كامنة، عن طاقات متجددة، غير أنّ ما نشاهده حتى اليوم لا يكفي لرسم ملامح مستقبل أفضل من خلال المؤشرات المتوفرة.
انهيار المركزية الغربية أمر وارد، غير أنّ الأسئلة التي تُطرح: ماذا بعد سقوط المركزية الغربية.. وما السيناريوهات القادمة.. وما البدائل.. وما استحقاقات هذا الانهيار الحتمي؟.. كورونا يجعل الصورة واضحة حول إمكانية انهيار المركزية الغربية، فحتى لو استطاع الغرب اكتشاف اللقاح فهذا يعطي العالم صورة عن الانهيار المتوقع لهذه المركزية، سيكون الجرح النرجسي هذه المرة خاصاً بالمركزية الغربية وليس جرحاً للعالم.
العالم يتوقّع هذا الانهيار اليوم أكثر من أي وقت مضى، لكن لا أحد يتوقّع كيف سيتمّ تدبير الفراغ ما بعد الانهيار، وما القوى الجديدة التي تستطيع الاضطلاع بقيادة عالم الغد، أم إنّ البشرية ستتيه لفترة من الزمن في فوضى ماقبل تشكل عالم متعدد الأقطاب.
*كاتب من المغرب