حينما نستمع إلى محاضرة في تاريخ الأوبئة، أو نقرأ في الكتب والقصص التي دونت التاريخ عن جائحة أصابت أقواما وخلفت أضرارا، عادة ما نتناول هذه المسائل وكأن بيننا وبينها برزخ، أو نتفاعل معها بفضول المعرفة ومتعة القراءة، هذا التناول أو هذا التفاعل عادة أيضا ما يكون مجردا من الخوف فاقدا للحيرة والقلق. لكن عندما تكون في قلب الحدث وتعيش التجربة، وتكون عرضة أنت ومن معك على الارض لوباء يحوم حوله الغموض في مكونه وكيفية إنتشاره، مع إزدياد يومي لأرقام الضحايا البشرية وتصاعد الاضرار على مستوياتها الثلاث، يتغير كل شيء، فتكون على مسافة صفر من الحيطة والوقاية، وتمتلئ خزائن النفس حيرة وقلقا، وتتعمم هذه المشهدية لتجذب الكل في إتجاه البحث عن الخروج من المأزق، فتتغير أنماط الحياة اليومية وتتوسع رقعة القواسم المشتركة بين البشر، وتُفْرَضُ مواضيع بعينها على عقول الناس وحواراتها وتتعدد التساؤلات والتأويلات، لتعيش البشرية نقلا مباشرا للتاريخ ومنعرجاته، وتكون المجتمعات والأفراد شواهد على عصرٍ جديد سيكتب .
أظن أن علاقة القوة بضخامة الحجم وكثرة الأساطيل تبددت، قاهرية الطبيعة ومن خلقها تؤكد ذلك، فايروس ميكروسكوبيك يُحدث كارثة تقلب العالم بأسره رأسا على عقب، ويضع أكثر من نصف سكان الأرض في حجر لا يغادرون منازلهم، تعطلت كل المصالح والإقتصاديات، وهدأت المصانع وتراجعت كل الأرباح والأرقام، والحساب مازال مفتوحا، دول غنية ومتطورة عاجزة على دفع الضرر، الشعوب تستغيث متى ينتهي هذا الكابوس، حتى أن التساؤل هل هو فايروس طبيعي أم وراءه تدخل بشري متعمد، لم يعد مهما بقدر أهمية التوصل إلى مُضاد للفايروس وإيقاف الجائحة . ونحن ندقق في تفاصيل هذه الأحداث، لا يسعنا إلا أن نضع هذه الكارثة في سياق آخر له علاقة بمستقبل الانسانية، نعم فايروس كورونا وضع النظام العالمي ومؤسساته على المحك، هذا النظام الذي يُعد أهم نتائج الحرب العالمية الثانية 1939ـ1945 والذي قام على توازنات عسكرية حددت من خلالها الدول المنتصرة خارطة مصالحها وكيفية حمايتها، فكانت منظمة الأمم المتحدة أهم مخارجها، ثم جاء منعرج سقوط الإتحاد السوفياتي بعد الحرب الباردة 1947ـ1991 بين المعسكرين ـ الشرق والغرب ـ والذي يمثل توقيتا تاريخيا لبداية الهيمنة الأمريكية وتفردها بالقرار الدولي وتمكين المنظومة الرأسمالية .
هناك ملاحظات يجب أن نسجلها ونحن في قلب المعركة، تصرفات ومواقف وخيارات صاحبت تفشي فايروس كورونا ستكون رافعة لتوازنات جديدة ترتقي إلى تغيير في خارطة التحالفات وفي هندسة السياسات. سأحيلكم إلى مشاهد من زمن الكورونا تستدعي التوقف عندها، في الوقت الذي تعلن فيه الصين عن سيطرتها وإحتواءها للجائحة يقول جونسن رئيس وزراء بريطانيا على البريطانيين أن يتهيئوا لتوديع أحبائهم، في الوقت الذي تتعاطف الشعوب في ما بينها عبر شبكات التواصل الاجتماعي ترفض أمريكا الطلب الروسي الصيني لرفع العقوبات الإقتصادية على إيران لتسهيل شراء الأدوات الطبية وإدخال الماعون، في الوقت الذي تنتظر فيه إيطاليا المساعدة من الإتحاد الأوروبي أو حلفاءها التقليديين …تأتي المساعدة من الصين وروسيا وكوبا ويعاد في أذهاننا خطاب فيديل كاسترو في جامعة هافانا في نوفمبر من سنة 2005 ”نحن نتعلم لنرسل أطباء لا قنابل ذكية وهذا هو الذكاء”، كذلك طَرَقَ مسامعنا خطاب الرئيس الصربي ”ألكسندر فوتشيتش“ في 15 مارس 2020 الذي تحدث عن تخلي الأوروبيين عنهم فيما الصين مدت يد العون؛ بعض الصحف تحدثت عن بلطجة وقرصنة بعض الحمولات المتمثلة في اجهزة طبية وقائية؛ في الوقت الذي تنتظر فيه الشعوب الإعلان عن جلسة طارئة لمجلس الأمن، توضع فيه خطة دولية أولويتها الإنسان، لمواجهة الوباء وضمان الأمن الصحي الدولي، تذهبت الدول الغنية إلى الإنكفاء على الداخل.
بالأرقام المفزعة التي تأتينا من الولايات المتحدة الأمريكية ومن القارة الأوروبيّة ودول أخرى، يثبت هذا الوباء عجز المؤسسات الدولية القائمة على مواجهة الأزمة لجهة فشلها في رسم إستراتجية إنقاذ والحد من الأضرار، بل إكتفوا بنشر دعوات الوقاية وتعداد الموتى والتحذير من خطورة إنهيار إقتصادي محتمل يفوق ذلك الذي حصل سنة 1928. هنا لا بد أن نتساءل عن مدى تحمل هذا النظام لمسؤلياته ومدى شرعية إستمراره في ظل هذه التغيرات الكبيرة. ما بعد الكورونا ليس كما قبله، الدول ”الديمقراطية والمؤسساتيّة الليبرالية ” تجد نفسها في ورطة بين مطلبية الأمن والصحة وضرورة تفادي الإنهيار الإقتصادي، في حين تبدي الدول المركزية التي تعرف ”بالدكتاتوريات المعدلة ” مرونة ونجاح نسبي في إدارة الأزمة بل ومدت يد العون لكثير من الدول، هذه ملاحظة أخرى نسوقها كي نعيد النظر في تركيبة المنظومة الحالية ومدى فاعليتها وأسسها وهل تضع أمن الانسان وصحته في سلم أولوياتها . منذ سنوات والعالم ينجذب نحو الشيء الجديد، قوى صاعدة وأخرى عائدة ثم الصين إستطاعوا تغيير التوازنات، ولن تكون هذه الأزمة إلا توقيتا يشير إلى بداية عصر جديد ومنعرج تاريخي، يعاد فيه تشكيل المصلحة البشرية وترتيب أولويات الإنسانية وحاجيبتها، إنطلاقا من تشكيل كتل ونظم وخارطة تحالفات جديدة تقطع مع الآحادية القطبية والإنفراد بالقرار.
لكن التساؤل الذي يُطرح، هل تسطيع الدول النامية أن تشارك وتبدي وجهة نظرها في صياغة أي نظام جديد ؟