على هامش “الحرب العالمية” على وباء كورونا، دار صراع بين التيارات الفكرية والسياسية المتصارعة تاريخياً.
ففي الوقت الذي اعتَبر فيه تيار الدولة المركزية أن نجاح الصين في السيطرة على الجائحة، يعيد الاعتبار إلى دور الدولة المركزية، التي تُشكل الملجأ الوحيد والأخير للمواطنين في الأزمات التي تعصف بالأوطان.
صمّم أنصار الرأسمالية على نظرية المؤامرة، ووزعوا الاتهامات في جميع الاتجاهات، وخاصةً كيل الاتهامات الباطلة للصين “بتزوير المعلومات والإحصائيات”.
لكن لغة الرأسمالية خلال الأزمة كانت واضحةً بشكلٍ فجّ، إلى درجة سهّلت على خصومها مهاجمتها.
فهل تُعبر هذه اللغة عن عجز النظام الرأسمالي، أم أنها تعبّر عن جوهر هذا النظام وحقيقته؟
من غير المنطقي الحديث عن عجز النظام الرأسمالي مادياً، فهذا النظام يمتلك من الإمكانيات المادية ما يفوق بعشرات الأضعاف ما تمتلكه الدول الأخرى بما فيها الصين، بما في ذلك نظامٌ صحيٌّ واسعٌ ومتقدمٌ علمياً وتقنياً. هذه الحقيقة تضعنا أمام سؤالين مهمّين؛ لماذا لجأت الرأسمالية إلى خطابٍ متعالٍ غير إنساني، ولماذا “سمحت” للصين إضافة إلى دولٍ نامية صغيرة بتحقيق هذا النصر المعنوي عليها؟
جاءت اللغة المُتعالية تعبيراً عن “ثقة الرأسمالية بنظامها الصحي المتطور”، وكانت وسيلة أولية للزعم بأن النظام الصحي والاجتماعي الصيني “نظام فاشل غير قادر على التعامل مع الجائحة”.
لكن انتقال الجائحة إلى أوروبا، وتسارعها إلى درجة تحّولت معها إلى كارثة حقيقية أدى إلى التراجع عن اللغة القديمة القائمة على فكرة “مناعة القطيع”، واللجوء إلى لغة أخرى.
قامت اللغة الجديدة على كيل الاتهامات الباطلة للمستلزمات الطبية والفحوصات التشخيصية القادمة من الصين ووسمها “بالتّلف وعدم الدقة”، فصدرت تقارير بهذا المضمون من دول مثل هولندا وإسبانيا والدانمارك. ثم جاء تسارع الأحداث ليُسقط هذا الخطاب الرأسمالي الكاذب، خاصة بعد ما قاله رئيس صربيا ورئيس وزراء إيطاليا، عن تخلي المنظومة الرأسمالية ممثلة بالاتحاد الأوروبي عن دولهم، وترك شعوبهم لمصيرها المحتوم.
اجتياح الوباء لمعقلي الرأسمالية الأبرز(بريطانيا والولايات المتحدة) وضع مزيداً من الأعباء على كاهل المنظومة الرأسمالية، أخلاقياً واقتصادياً.
فالأعداد الضخمة للمصابين خاصة في الولايات المتحدة، وضعت النظام الرأسمالي في أزمة أخلاقية أمام مواطنيه والعالم. فاللغة التي استخدمها وما تبعها من ممارسات على الأرض كانت السبب في التفشي الكبير للفيروس وارتفاع أعداد الوفيات، حيث تشكل الوفيّات في الدول الرأسمالية 66% من مجموع الوفيّات العالمية حتى تاريخ 11/4/2020. لكن الأزمة الأخلاقية لا تشكل معضلة حقيقية للنظام الرأسمالي المسؤول عن قتل ملايين البشر من خلال حروبه وسياساته، من دون أدنى شعور بالذنب، الأزمة الحقيقية التي واجهها هذا النظام هي الأزمة الاقتصادية.
في الجانب الاقتصادي، تعاني الرأسمالية من توقف دورة المال، فحظر الطيران، وإجراءات الحجر التي اتبعتها الدول المختلفة أدت إلى تباطؤ شديد في دورة المال التي تعتبر أساس الاقتصاد الرأسمالي. رغم أن مؤشرات الأسواق المالية تُصارع للحفاظ على مستويات معقولة مدعومة بارتفاع أسهم شركات التكنولوجيا، والتجارة الإلكترونية مثل «زوم» و«أمازون» وكذلك أسهم شركات المعدّات والتقنيات الطبية، إلا أن أي اقتصادي مبتدئ يدرك أن هذا الارتفاع يشكل فقاعةً سرعان ما تنفجر بعد انتهاء الأزمة، لتترك الأسواق المالية في مواجهة الكوارث التي حلت بقطاعات الصناعة، وتجارة التجزئة، والنقل والسياحة وغيرها.
فالخطاب الرأسمالي الذي يدعو إلى فتح الأسواق واستعادة دورة المال، ليس مطابقاً للخطاب المتعالي الذي ساد في بداية الأزمة. هذا الخطاب الجديد يُعبر عن جوهر بنية الرأسمالية الحديثة، التي تحول الإنسان إلى موضوع من موضوعات الحضارة، وتعامله مثل أي آلة يمكن استغلالها إلى الحد الأقصى، ومن ثم التخلص منها. في هذا السياق سقط الحديث الليبرالي عن حق الإنسان الأساسي، المتمثل بالحياة، لصالح حق النظام بالبقاء على حساب الإنسان، والحديث هنا عن الإنسان الرأسمالي الأبيض نفسه.
لم نكن بحاجة إلى أدلة إضافية على وحشية النظام الرأسمالي، ونحن من خبِرها جيداً في فلسطين والعراق وسورية وليبيا. لكننا وللأسف ما زلنا نسمع من بعض مثقفينا نغمة ليبرالية مشروخة، ترفض تعلم الدرس مهما تكرر.
الدور اليوم، من دون تردد ، للدولة المركزية، ليس في قطاع الصحة فحسب، بل في جميع القطاعات الاقتصادية، التي تحمي الوطن والمواطنين.
كاتب من الأردن