ربما لم يشهد العالم إغلاقا كاملا لحركته وأنشطته الاقتصادية والثقافية والفنية والرياضية كما يحدث اليوم. وهذا شيء مذهل يضاف إلى هذا الفراغ الكبير منذ الحرب العالمية الثانية.
كتب مفكرو الغرب كثيرا عن النهايات. فمثلا، يتحدث الآن تورين عن “نهاية المجتمعات” حيث فقددت المؤسسات الاجتماعية المختلفة، مثل العائلة والمدرسة وأنظمة الرعاية، معناها في عصر العولمة.. بينما يرسم جاني فاتيمو في كتابه “نهاية الحداثة” معالم التحول القادم من العدمية الغربية إلى عصر جديد.
يواجه البشر اليوم عدوا خفيا ويعيشون حالة حرب من نوع آخر قد تسمى حربا بيولوجية. عادة ما تكون أطراف الحرب واضحة.. دولتان أو قوتان تهاحم إحداهما الأخری وتغزو أرضها. لكن ما نعايشه اليوم هو عدو خفي، بلا مقاتلين، يهاجم البشر متجاوزا كل الحدود. ربما يعكس هذا تحول العالم إلى كيان واحد في عصر ما أصبح يعرف بالعولمة.
والمفارقة أن هذا العالم فقد قيادته ولم تعد هناك زعامة واضحة لأي دولة في العالم. وهذا قد يشير إلى أننا نعيش وقت الغروب في مكان والفجر مكان آخر وهو ما يعني اختفاء قيادة لتظهر أخرى.
يمكن ملاحظة انكفاء الولايات المتحدة عن نفسها وهي تنسحب من منظمات دولية عديدة وتمزق اتفاقات دولية أخرى. بينما يبدو رئيسها شخصا غريب الأطوار دون أية التزامات وكأنه يعري بذلك الحقيقة التي كانت تخفيها الدولة الأمريكية عن الآخرين طوال العقود الماضية لهيمنتها. تخسر الولايات المتحدة دون شك دور زعامة العالم بشكل لا يخطئه المتابع، ليس فقط بسبب الاقتصاد، ولكن أيضاً بسبب الأيديولوجية والسياسة. ولا يبدو أن هناك دولة أخرى قادرة على سد هذا الفراغ. فالأوروبيون يتشتتون وينكفىء كل منهم على نفسه، بينما يواجه الصينيون اشمئزاز العالم من سلوكهم السياسي الداخلي القائم علی الاستبداد والشمولية، وعاداتهم الغذائية المقززة وغياب الشخصية الفكرية والإيديولوجية اللازمة للقيادة فضلا عن غياب الأهلية السياسية.
تتوجه كثير من التحليلات إلى الصين باعتبارها البديل المتوقع لزعامة العالم. إلا أن ذلك ليس أمرا مؤكدا. صحيح أن أميركا تغرق، لكن الصين تعيش وضعا متناقضا، وتمارس شمولية ماوية لإدارة النظام الرأسمالي العالمي، بشكل لم يعد مقبولا.
تشبه هذه الحالة التي يعيشها العالم اليوم ما جرى خلال أزمة 1929، عندما تراجعت كل القوى وانهار الاقتصاد العالمي واختفى كل شيء ليظهر فجأة زعيم الحزب النازي أدولف هتلر الذي أصبح مستشار ألمانيا عام 1933، ليملأ الفراغ. وصل العالم اليوم إلى هذه المرحلة، بعد سيطرة الغرب عليه لما يقرب من خمسة قرون، وانتقلت الزعامة فيه من أوروبا إلى أمريكا ولكنها لم تخرج عن سيطرة الإنسان الغربي.
هذا الفراغ السياسي والعقدي والأيديولوجي الهائل بعد سقوط الشيوعية المؤكد ونهاية الليبرالية الوشيكة، قد يفتح المجال أمام مفاجأة ضخمة لم يتوقعها إلا القليل من المهتمين، وهو انتقال الزعامة إلى الجنوب، وبشكل محدد القارة العربية وما جاورها، في تكرار تاريخي لما حدث للعرب قبل أكثر من 14 قرنا حين انتقلوا فجأة من مجموعة من القبائل والكيانات التابعة والمتناحرة إلى امبراطورية كبيرة وقوية ورائدة رغم ما حدث في داخلها.
لكن الخطر هو حدوث هذا التحول بشكل وحشي، تفقد فيه الإنسانية حتى قدرتها على النفاق والظهور بمظهر الشهامة.
نتفق مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري على أن طريقة تعامل الحكومات الغربية مع وباء كورونا مؤشر قوي على انهيار أوروبا والحضارة المسيحية اليهودية التي قامت على تحالف هاتين الديانتين وعلى رؤية مادية وعبثية للوجود والحياة. فقد بنيت هذه الحضارة على العنف الأرعن في التعامل مع الآخرين ولم تتوقف حربها يوما على العرب والمسلمين بأشكال شتى عسكرية واقتصادية وثقافية.
ومع نهاية هذه الحضارة لا بديل للعالم سوى ظهور قيادة تحمل رؤية توحيدية وقيمية وإنسانية شاملة لا نرى مكانا آخر لظهورها سوى الجغرافيا العربية. نعرف أن الكثيرين يستبعدون مثل هذه المفاجأة لأسباب شتى، لكن عليهم أن يحتملوا ذلك على الأقل.