مساعدات إنسانية أعلنت الخارجية الأميركية يوم الخامس الماضي عن عزم الولايات المتحدة تقديمها لعدد من دول العالم المتضررة جراء انتشار فايروس كورونا المستجد، وتبلغ قيمة هذه المساعدات “نحو 508 ملايين دولار” للمساعدة في “المجالات الطوارئ الصحية والإنسانية والمساندة الاقتصادية” بحسب البيان الصادر عن الخارجية.
فما الذي تريده واشنطن من الإعلان عن هذه المساعدات؟
الولايات المتحدة اصدرت هذا القرار بعد يوم واحد فقط من إعلانها تجميد تمويل منظمة الصحة العالمية بسبب انحيازها للصين وفقاً لاتهامات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي لاقى قراره هذا، موجة انتقادات واسعة في داخل أميركا وحتى خارجها، وبالتالي فإن اعلان الخارجية الأميركية عن تقديم هذه المساعدات هدفه الأول (دون الأهداف الأخرى)، هو أن تقول للعالم ان انسانيتها لا تنحصر في نطاق منظمة معينة وان الولايات المتحدة رغم تفشي كورونا فيها ووصول عدد الوفيات فيها بسبب الفايروس إلى مئات الآلاف، فإن ذلك لن يثنيها عن مساعدة الدول الأضعف في العالم.
والسؤال الآن…ما هي الأهداف الأخرى الكامنة وراء اطلاق حزمة المساعدات هذه؟
رغم ان المساعدات التي أعلنت عنها واشنطن شملت دول متفرقة في مختلف أنحاء العالم، إلا أن التركيز كان متمحوراً حول دول بعينها أبرزها العراق وسوريا وفلسطين واليمن.
ومن المعروف ان هذه الدول تشكل جزءًا اساسياً من محور المقاومة الإسلامية المعادي للولايات المتحدة الأميركية، ولذلك فإن الهدف الأميركي الآخر من وراء هذه المساعدات هو محاولة ثني هذه الدول عن التقرب من طهران والدفع بها نحو واشنطن.
علاوةً على ذلك فإن الدول الأربع المذكورة، لدى الولايات المتحدة مصالح واطماع فيها، ومن اللافت أيضا ان الدعم الأميركي المقدم لهذه الدول كان متدرجاً بحسب أهمية الدولة وحجم المصالح الأميركية فيها.
فالعراق كانت له حصة الأسد من المساعدات المقدمة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث خصصت له واشنطن مبلغ 26.5 مليون دولار، ولا احد يخفى عليه أن العراق هو أبرز المحطات الأميركية في المنطقة ولدى الولايات المتحدة أطماع كبيرة فيه نظرا لكميات النفط الوافرة التي يحويها.
ولذلك فإن تقديم الولايات المتحدة هذا المبلغ للعراق كنوع من الدعم، تستهدف منه أميركا بناء علاقات جيدة مع المكلف بتشكيل الحكومة مصطفى الكاظمي، وبنفس الوقت تريد أن تظهر نفسها للشعب العراقي على أنها دولة صديقة له، خاصة بعد قرار البرلمان القاضي بإخراج القوات الأميركية والأجنبية من البلاد، هذا من جانب ومن جانب اخر فإن واشنطن قدمت هذه المساعدة للعراق لأنها تريد الحفاظ على أرواح جنودها المتمركزين هناك، فليس من مصلحة أميركا ان يتفشى الفايروس في العراق ويتسلل إلى القواعد العسكرية والقوات الأمنية، كما حصل في الولايات المتحدة، إذ سجل البنتاغون مئات الاصابات بكورونا، لاسيما اذا ما أشرنا إلى ان القوات الأميركية في العراق تتقاسم بعض قواعدها العسكرية مع الجانب العراقي.
هذا بالنسبة للعراق اما سورية، فقد خصصت لها الولايات المتحدة بحسب بيان الخارجية الأميركية مبلغ 18 مليون دولار، وليس من المتوقع ان تقدم واشنطن هذه المساعدة إلى دمشق لأنها تعلم جيدا انها ستُقابل بالرفض خاصة وان أميركا تفرض حصاراً وعقوبات اقتصادية على سورية، كما تحتل اكبر واضخم حقول النفط فيها كتلك الكائنة في محافظتي الحسكة ودير الزور، ولذلك فإنه من المرجح وإلى حد كبير ان ترسل أميركا هذه المساعدة إلى المناطق التي يحتلها الجيش الأميركي او تلك التي يسيطر عليها الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية)، الذين هم بطبيعة الحال حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي تكون واشنطن وفرت بيئة صحية آمنة لمقاتيلها الموجودين هناك وحلفائهم، وبالوقت نفسه حاولت التقرب من أبناء المناطق التي تنتشر فيها القوات الأميركية، خاصة بعد ازدياد حالة الاحتقان الشعبي والكراهية تجاه قوات الاحتلال الأميركي، حيث شهدت مناطق في ريفي القامشلي والحسكة في الفترة الأخيرة عمليات مناهضة للاحتلال الأميركي قام بها السكان المحليين، وتمثلت باعتراض الاهالي لقوات الاحتلال ومدرعاته وآلياته ومنعها من دخول مناطقهم، والاشتباك معهم في بعض الحالات.
اما فلسطين فكان نصيبها من المساعدات 5 ملايين دولار، إلا أن الحكومة الفلسطينية نفت على لسان المتحدث باسمها إبراهيم ملحم تلقيها اي مساعدات اميركية، وأكد ملحم في مؤتمر صحفي عقده الجمعة أنه “لا علاقات ولا اتصالات مع الإدارة الأميركية، ولسنا بحاجة لاموالها”.
وإعلان الخارجية الأميركية والسفير الأميركي في إسرائيل عن عزم الولايات المتحدة تقديم مساعدات لفلسطين، ونفي الجانب الفلسطيني تسلم اي مساعدات يعني ان هناك أهداف وشروط أميركية معينة تكمن وراء هذه المساعدة، وهي عديدة ابرزها منع تفشي فايروس كورونا بشكل كبير في فلسطين وبالتالي ازدياد فرص حدوث صدام عسكري بين الفلسطينين والاسرائيلين (حلفاء واشنطن)، خاصة بعد تحذير حماس لكيان الاحتلال بأن كافة السيناريوهات والاحتمالات مطروحة حال تعرضت حياة الفلسطينين للخطر جراء امتناع الكيان عن تزويد الجانب الفلسطيني بأجهزة التنفس الصناعي والمعدات الطبية الأخرى اللازمة لمواجهة فايروس كورونا، ومن الأهداف أيضا بناء علاقات مع الفلسطينيين ودفعهم نحو القبول ببنود صفقة القرن التي أعلنها ترمب من البيت الأبيض في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني الماضي، إلى جانب حملهم على دعم بنيامين نتنياهو (صديق ترمب المقرب) خلال مباحثات الكنيست الجارية لاختيار مرشح لرئاسة الحكومة المقبلة بعد فشل نتنياهو في التوصل إلى اتفاق مع بيني غانتس حول تشكيل حكومة طوارئ ووحدة وطنية، أو ضمان تصويت القائمة العربية المشتركة لصالح حزب الليكود حال تنظيم انتخابات رابعة للكنسيت.
وبالمرتبة الأخيرة جاء اليمن، إذ لم يتجاوز الدعم الأميركي له النصف مليون دولار، وربما حجة واشنطن في ذلك هو أن اليمن لم يسجل بعد إصابات مرتفعة بالفايروس المستجد، ولكن الجميع يعلم انه اذا ما تفشى كورونا هناك فستكون له تداعيات هي الأخطر من بين جميع الدول التي ظهر فيها الفايروس، بسبب الأوضاع الانسانية والامنية والصحية والاقتصادية السيئة جدا التي يعاني منها اليمن، ولعل الشاهد على ذلك هم آلاف اليمنيين الذين قضى وباء الكوليرا على حياتهم، فكيف بالوباء الحالي الذي هو أشد خطورة من الكوليرا بعدة مرات؟.
ولذلك فإن السبب الحقيقي وراء تخصيص الولايات المتحدة المبلغ الادنى من المساعدات لليمن، فهو انه ليس هناك وجود اميركي كبير على الأراضي اليمنية، فقوات التحالف السعودي الإماراتي والفصائل اليمنية الموالية لهم، هم من يديرون الحرب الأميركية على اليمن، واما الجنود الأميركيين الموجودين هناك فإن عددهم لا يتعدى 500 جندي يمكن تأمين حياتهم والحفاظ عليها بنصف مليون دولار، لأن من المسلم به أن واشنطن لن تقدم هذا المبلغ للقوات الوطنية اليمنية الحوثية، بل ستبعث بها إلى حكومة عبد ربه منصور هادي.
إذاً مساعدات تغلفها أميركا باسم الإنسانية، وفي الحقيقة الهدف الوحيد من وراءها الحفاظ على مصالح البيت الأبيض وسمعة زعيمه دونالد ترمب الذي يبدو أنه لم يدرك بعد أن أمواله عاجزة أمام روح المقاومة الصلبة وخاسرة أمام وعد المقاومة بالقضاء على إسرائيل وازالتها من الخارطة وإخراج القوات الأميركية مذلولة مكسورة الجناح من المنطقة.
رأي اليوم