في مسرحية الرحابنة «صح النوم» تلخص قرنفل -التي تلعب دورها السيدة فيروز- قضيتها بجملة «الشمسية هي القضية» عندما يقرر قائد الحرس مصادرة شمسيتها. فبعد سقوط سقف بيتها لم يبق لديها سوى الشمسية تقيها مطر الشتاء وحر الصيف، بينما يستمر نضالها من أجل الحصول على تصريح لبناء سقف بيتها.
منذ مطلع القرن الماضي، ونحن نسمع جيلاً بعد جيل عن «القضية». تنوعت القضايا حسب مراحل التاريخ، وتبدلت بتبدل الظروف والزعماء. قضية واحدة حافظت على أولويتها منذ اللحظة الأولى وحتى اليوم، هي قضية فلسطين. القضية المركزية للأمة كما نحب أن نسميها، فهي القضية التي حملت في طياتها كل القضايا الأخرى، والتي أصبح محورها تحرير الأرض العربية المحتلة.
منذ ذلك التاريخ والقوى الإمبريالية تحاول، بالتآمر تارة وبالقوة تارة أخرى، تغيير بوصلة القضية المركزية. بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر الذي تعرض لكل أنواع المؤامرات، نالت سورية النصيب الأكبر من المؤامرات الإمبريالية والرجعية العربية. ما جمع بين مصر عبد الناصر، وسورية الأسد (الأب والابن) كان ترجمة إيمانهم بمركزية القضية الفلسطينية إلى عمل على أرض الواقع بهدف إنتاج واقع جديد قادر على حسم الصراع.
في عام 1964، قال الرئيس عبد الناصر لوفد من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية إنه لا يملك خطة جاهزة لتحرير فلسطين. شُنّت ضد عبد الناصر حملة شعواء قادتها السعودية والأردن، لكنه بقي ثابتاً على موقفه لإدراكه أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق في ظل التخلف الاقتصادي والعلمي والاجتماعي. اتخذ قرارات التأميم، والإصلاح الزراعي، وبناء السد العالي، وبناء الصناعات التي تقلل من ارتباط الاقتصاد المصري بالخارج. كان الهدف وضع الأساسات لدولة منتجة قادرة على تحمل أوزار الحرب وتبعاتها.
بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973 وخيانة السادات، أدرك القائد المؤسس حافظ الأسد أن التحدي الداخلي أكبر وأكثر صعوبة من التحدي الخارجي، فرفع شعار «التوازن الاستراتيجي» مع العدو. لم يكن هذا التوازن ليحسم المعركة لو كان عسكرياً فحسب، لذلك شهدت سورية نهضة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
لكن المخطط الاستعماري نجح في كثير من المحطات، وها هي مساحة الأراضي العربية المحتلة تزداد. عاد جنود المحتل القديم ليحتلوا أجزاء من أرضنا، يقيمون القواعد والمناورات المشتركة، يهددون ويقصفون. وبلغت الأمور مداها مع “ربيع” الصهاينة المسمى زوراً عربياً.
جاء العدو التركي ليقيم 15 مركزاً وقاعدة عسكرية بعمق 200 كلم شمال العراق، في حين تتمدد القواعد الأميركية في وسط البلاد وجنوبها. ويقيم المحتل التركي 35 “نقطة مراقبة” عسكرية داخل الأراضي السورية (12 منها محاصرة بشكل كامل) ويحتل مدناً مثل عفرين واعزاز، في حين يقيم العدو الأميركي قواعده غير الشرعية في الشمال الشرقي. وها هو الجيش التركي يتمدد نحو ليبيا، تدعمه الولايات المتحدة من خلال قوات «أفريكوم». مع تمدد الاحتلال في وطننا العربي، تغادر قضية فلسطين بُعدها الجغرافي، لتحمل بُعداً رمزياً يجعل من كل شبر محتل من أرض العرب قضية مركزية.
من أين نبدأ؟
وطني عتيق يتقن فن الخطابة، سيؤكد أن الزمن لم يتغير في مضمونه، وأن القضية المركزية لا يمكن أن تتغير، بل إن كل ما تبعها من مؤامرات على الأمة مرتبط بها. لذلك إذا أبقينا البوصلة متجهة إلى العدو الرئيسي الذي يحتل فلسطين، فإن النصر سيحل كل القضايا الأخرى. أما الليبرالي المحفوف بثلة من المرتدين عن قوميتهم ويساريتهم، فإن سهامه جاهزة دائماً للتصويب على الأنظمة، خاصة الوطنية منها. يقدم “حلوله” الاقتصادية- الاجتماعية، التي تغطي الأفق من معارضة قطع الغابات المطرية (غير الموجودة في بلادنا) حتى فتح أبواب الاقتصاد على مصراعيه لكل من «هبّ ودب». وما بينهما يعرج على قضايا الحرية والديمقراطية وتمكين المرأة وحقوق الطفل والتعددية الثقافية، وكلها أمور قابلة للحل شرط العبور من البوابة الليبرالية الاجتماعية– الاقتصادية وفق “وجهة نظره”.
أسوأ الجميع هو ذلك الملتحي الغاضب للدين والعرف، فالقدس “أرض رباطه”، لكنه يرابط في وادي سوات، وإدلب وصحراء الأنبار وسيناء.. المسجد الأقصى “قبلته” لكنه يدمر المسجد الأموي في حلب والمنارة الحدباء في الموصل.. دم المسلمين “معصوم بمبدئه” لكنه يقتل أهل اليمن وسورية والعراق ومصر.. الصليبيون “أعداؤه” لكن يأتمر بأمرهم، ويتلقى تمويله منهم!
مرة أخرى من أين نبدأ؟
لعل الوقت قد حان لنقول ما توقفنا عن قوله منذ زمن؛ فالاستقلال الوطني الذي منحه الاستعمار في حقبة تصفيته لم يكن ناجزاً لأنه انطوى على التقسيم. كان هذا الاستقلال «الشمسية» التي تقي من المطر والشمس، لكنها لن تقينا أبداً من العواصف. نحتاج لبناء سقف قوي يرتكز إلى أعمدة قوية. نحتاج إلى العمل على القضايا التي تشكل أساس البناء ودعامة وجوده. ونحتاج أن ندرك أن انتصارنا في قضيتنا المركزية لن يتحقق من دون التعامل الجاد، وعلى قاعدة النضال مع القضايا المركزية الأخرى، مع قضايانا الوطنية والاقتصادية والاجتماعية.
هنا تصبح الحرية نقيضاً للتبعية، وتصبح الديمقراطية تعبيراً عن حق الشعوب في اختيار طريقها السياسي والاقتصادي بعيداً عن هيمنة المستعمر، وليست حق الأفراد في تخريب أوطانهم، وتحل الأممية بآفاق التعاون بين الشعوب على قدم المساواة، ودعم الشعوب المقهورة في نيل استقلالها، مكان العولمة الرأسمالية القائمة على نهب الشعوب وسلب مقدراتها. ويصبح السوق حراً من نمط الاستهلاك الرأسمالي، منتجاً لحاجات مجتمعه، ساعياً لتحقيق قيمة مضافة لاقتصاد بلاده. وتصبح الوحدة هدفاً يحقق مصلحة الأمة وليست حلماً رومانسياً، أو قصة خيالية تسكن بطون الكتب.
إذا نجحنا في إنجاز كل قضايانا المركزية، نستطيع استبدال «شمسية» استقلال التقسيم بسقف الوحدة، وعندها يصبح التحرير قراراً.. نعود إلى قرنفل لنسمعها تغني «القضية سطح وشمسية، وأنا ما بخون القضية».
كاتب من الأردن