الزيارة التي قام بها البارحة الرئيس الفرنسي ماكرون لبيروت لا تمت بصلة الى دعم الشعب اللبناني” المعتر” الذي يعيش 50% منه تحت خط الفقر كما تدل الاحصاءات. ولنذكر ان هنالك من اللبنانيين ما زالوا ينظرون اليوم الى المحتل الفرنسي الذي لم يترك البلاد الا بعد أن كرس نظاما يقوم على المحاصصة الطائفية وتقاسم مقدرات لبنان والشعب اللبناني بين عدد من العائلات الاقطاعية التي ترعرعت تحت الاحتلال العثماني والتحفت بلحاف الاحتلال الفرنسي بعد ذلك. هذه الطبقة السياسية وأخطبوتها المالي ينظر الى فرنسا على انها ” فرنسا الام” لانها ببساطة ربيبة كل الادارات الفرنسية دون استثناء. والبعض من عناصر هذه الطبقة والنخب أقامت علاقات حميمة على المستوى العائلي مع بعض الرؤوساء الفرنسيين وكانوا يذهبون الى المنتجعات السياحية معا مع عائلاتهم. ويكفي ان نذكر هنا الى ان الشيخ سعد الحريري الذي احتجز في الرياض من قبل “أبو منشار” ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والذي تعرض لكل انواع الاهانات اثناء إحتجازه حتى لا نقول اكثر, لولا تدخل ماكرون شخصيا وتهديد ولي العهد السعودي بتداعيات الاستمرار في حجز الحريري لما أفرج عن سعد الحريري الذي قام بزياة باريس “الوطن الام” وأقام فيه لعدة أيام قبل عودته الى بيروت.
هذه المقدمة ضرورية لمن إما لا يدري بتاريخ فرنسا القديم والحديث فيما يخص لبنان أو من أصيب بالزهايمر السياسي لسبب او لاخر فكان لا بد من التذكير.
لو كان السبب الحقيقي للزيارة هو التعاطف مع الشعب اللبناني المنكوب لقامت فرنسا بإرسال طائرات تحمل مواد طبية وإغاثة ومواد تموينية مباشرة ودون التوجه الى لبنان للإطلاع على ماذا يريده لبنان من مساعدات مباشرة وسريعة كما فعلت روسيا الاتحادية وإيران والعراق. الانسان لا يريد أن يجري بحثا لكي يصل الى ما قد تحتاجه مثل هذه الكارثة. وإذا ما كانت فرنسا فعلا “الام الحنون” للبنان لكانت قد تقدمت الى لبنان بالمساعدات والدعم المالي وهي ترى لبنان يتهاوى ووصل الى اعتاب دولة مفلسة او فاشلة بدلا من وضع الشروط لتقديم المساعدات الى الدولة والحكومة سابقا, وهي لم تقدم شيئا على الاطلاق لغاية الان. الموقف الفرنسي لا يخرج عن مسار الادارة الامريكية ولا عن سياساتها وإن بدا في بعض الاحيان شيئا من التناقض او الاختلافات في الرأي لان هذا نابع من المصالح الفرنسية التي لا تعيرها الادارة الامريكية اية أهمية وفرنسا تريد حصتها وكذلك موقع وموطىء قدم في الشرق الاوسط هذه المنطقة الاستراتيجية ولهذا فهي تبحث عن هامش لها. ولبنان بحكم التاريخ والجغرافيا كان وما زال يشكل دائرة نفوذ فرنسي وهي تريد المحافظة على ذلك.
ماكرون يأتي في فترة يمر بها لبنان بوقت عصيب جدا على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والسياسي وهو بأمس الحاجة الى اي دعم ومن اي مكان أو دولة ليبقى عائما فوق سطح الماء وتجنب الغرق. وماكرون يدرك هذا تماما ومجيئه الى لبنان قد يعطي الانطباع بأن فرنسا هي المنقذ وهي التي ستمد لبنان بطوق النجاة. هذا على الاقل الانطباع الذي يريد ان يتركه ماكرون وهو إنطباع خادع. وزيارته الى المرفأ ليست بريئة ايضا.
فرنسا تعلم بالعرض الذي قدمته الصين الى لبنان من اجل تطوير البنية التحتية لهذا الميناء وتوسيعه وزيادة حجم البضائع التي يمكنه التعامل معها وإنخراط لبنان في طريق الحرير الصيني والفوائد المادية التي سيحققها لبنان من جراء ذلك مما سيكسبه نوع من الاستقلال في قراره السياسي المسلوب من قبل دول خارجية. ماكرون يريد الالتفاف على العرض الصيني ليس فقط لما قد تحققه الشركات الفرنسية من مرابح وربما يطالب ايضا بأن تتسلم فرنسا إدارة الميناء كما فعلت الشركات الفرنسية مع مطار عالية الدولي في الاردن حيث قامت بتوسيع المطار وإعادة تاهيله وتسلم إدارته لعدد من السنوات مقابل استثمارها.
ماكرون يسعى الى تدويل المساعدات الى لبنان عن طريق الدعوة الى مؤتمر دولي في باريس وتشكيل دول مانحة وهذه احدى الطرق أيضا لقطع الطريق على المشاريع الصينية والتي يشكل إعادة بناء وتأهيل الميناء جزء منها. فالمشاريع الصينية تشمل بناء شبكات طرق برية وقطارات لنقل البضائع وغيرها من البنى التحية والتي تقدر بعشرات المليارت من الدولارات. ولا شك ان هذا سيلاقي دعما من قبل الولايات المتحدة التي تحاول بشتى السبل إبعاد الصين عن المنطقة الحيوية والتي تشكل بعدا استراتيجيا هاما للسياسة الامريكية. وهذا ما قد صرحت به السفيرة الامريكية في لبنان علانية من ان “التوجه شرقا خط أحمر” وكأن لبنان هو الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
وهنالك جانب ايضا قد يخفى عن البعض الا وهو الدخول في عطاءات مع الطغمة المالية اللبنانية التي نهبت البلد وما زالت. ولن يكون من المستبعد ان تكون أحد الشروط هي عودة هذه الطغمة المالية الى الحكم من خلال ممثلها الحريري الى رئاسة الوزراء. ولم يعد خافيا على احد ان كل ما جرى ويجري في لبنان حاليا يهدف بالدرجة الاولى الى إسقاط هذه الحكومة ببساطة لان فيها بعض الشرفاء اللذين يحاولون مكافحة الفساد بشكل جدي وقانوني بالرغم من ان العملية تسير ببطء شديد. طواغيت المال لا يريدون هكذا حكومة لانها تضيق عليهم وتحد من سرقاتهم وتهريب ما تبقى من أموالهم خارج لبنان. زيارة ماكرون تأتي لدعم هؤلاء مصاصي الدماء وليس لدعم الشعب اللبناني الذي يعاني الأمرين.
ومما لا شك فيه ان ماكرون سيدعو الى إجراء تحقيق دولي أو مشاركة دولية في التحقيق عما جرى في الميناء والاسباب وراء التفجيرات المرعبة وهذا ما تدعو اليه الطغمة المالية اللبنانية التي تحاول تحميل المسؤولية لما وصلت اليه الاوضاع الى الحكومة الحالية متناسية ان ما وصل اليه لبنان ما هو الا نتيجة عملية تراكمية عبر سنوات كانت فيها هذه الطغمة هي المسيطرة سياسيا وإقتصاديا على البلد مما أتاح لها سرقة عشرات المليارات من الدولارات وللتذكير في هذا المجال ما زال مصير العشرة مليارات التي إختفت في عهد رئيس الوزراء السنيورة مجهولا. ولا يخفى الأمر الا على الجهلة من ان طلب تدويل قضية الميناء معناه تسيس القضية وإلغاء الدولة كما فعلوا سابقا في عملية إغتيال الاب الروحي لهذه الطغمة المالية رفيق الحريري الذي وتحت رئاسته للحكومة تم إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني من إقتصاد إنتاجي الى إقتصاد ريعي وهذا أحد الاسباب الرئيسية في تدهور الاقتصاد والوصول الى الحال الذي يعيشه لبنان الان.
ومن المتوقع الان ان هذه الطغمة المالية وأحزابها ستعمل على تصعيد الموقف وستستخدم الشارع ووسائل إعلامها والمنظمات الغير حكومية الشبابية الذي وعد ماكرون لدعمها وكذلك المال السياسي الخليجي على وجه التحديد لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والمطالبة بإسقاط الحكومة اللبنانية وحتى الوصول الى العهد. وهذا يستوجب موقفا صلبا من قبل الحكومة والرئاسة وعدم الخضوع الى الابتزازات والضغوط التي تنهال عليها.
لبنان الان يقف على مفترق طرق وفرصة تاريخية يجب إقتناصها بجرأة وشجاعة من قبل الرئاسة والحكومة الى فك الارتباط والعبودية سواء لفرنسا او الولايات المتحدة وأذنابها من الدول الخليجية الذي لم تنقطع محاولاتهم لابتزاز لبنان ومواقفه السياسية وكانوا المسؤولين عن التلاعب بالليرة اللبنانية على غرار ما فعلوه في سوريا بهدف تحريك الشارع ضد المقاومة اللبنانية الممثلة بحزب الله. لبنان اليوم مطالب بفك إرتباطه بصندوق النقد الدولي الذي كان سببا في إفقار لبنان وبناء طبقة ونخب محلية من الفاسدين كما هو الحال في اي بلد دخلتها هذه المؤسسة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وتستخدمها كسوط لجلد كل من يقف في وجهها وسياساتها العدوانية.
لا يوجد اليوم شيء اسمه الحياد في منطقتنا ضمن الاستقطاب السياسي والاجتماعي الذي تعيشه المنطقة وبدرجات غير مسبوقة في تاريخها, والاصوات التي نادت وتنادي بالحياد في لبنان اليوم هي أصوات مرتبطة بالمستعمر الجديد والقديم وتاريخها ومواقفها اصبحت معروفة للقاصي والداني. هذه الاصوات التي أصبحت تنادي علنا بعودة الارث الاستعماري لفرنسا وتنادي “بحماية” دولية على المعبر المائية والبرية ووضع لبنان تحت الوصاية والانتداب الدولي. الحياد اليوم يعني الخيانة للوطن والدولة والشعب والهوية وهكذا يجب ان يفهم ومن يريد “الام الحنون” فليذهب اليها…. من يريد أن تكون باريس وصية عليه فليذهب اليها… فهذا الوطن ليس لكم. هذا وطن شهدائه..هذا وطن فقراءه وعماله …هذا وطن المحرومين نتيجة النهب والسلب الذي مارستموه منذ عقود …هذا وطن لمن يرفع السلاح في وجه المحتل لأرضه..هذا ليس وطن للخانعين والمستسلمين والسماسرة واللذين يستقون بالمستعمر القديم والجديد على ابناء بلدهم… ارحلوا الى وطنكم “الام” فلن يقف في طريقكم احد… هكذا فعل كاسترو في فترة زمنية وتخلص من كل اللصوص والفاسدين والخونة ليبني كوبا العزة والكرامة والتي ما زالت ليومنا هذا شوكة في حلق الامبريالية الامريكية.
كاتب وباحث فلسطيني