أمام هول الفاجعة التي ذهب ضحيتها العشرات من الشهداء والآلاف من الجرحى والمشردين في لبنان، وبعد الترحم على شهدائه الأبرار، والتوسل إلى العلي القدير، أن يعجل في شفاء جرحاه ولم شمل أهليه. تبرز أهمية الوقوف والتمعن عند ردود الأفعال التي تخللتها التحركات والتصريحات، التي إن أحسنا قراءتها وربط النقاط فيما بينها، أن تسهم مع سيل التحقيقات التي تداعت من أكثر مكان، في الكشف عن طبيعة المأساة وهوية الجناة!
يقول الضالعون في علم الجريمة كما يشاركهم المختصون في علم الجنايات، أنه لا بد لهم بداية في التركيز أثناء سير التحقيقات، على الظروف والعوامل التي أدت إلى وقوعها، ومن ثم الغرض المرجو منها، ومراقبة سلوكيات المشتبه بهم، إلى حين توجيه التهمة لهم!
وكما هو معلوم فإن هيئة قضائية وطنية للتحقيق في الإنفجارات قد تم تكليفها، في الوقت الذي سارعت فيه بعض الجهات بالإلحاح على تشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق في المأساة، بغض النظر عما يشكله ذلك من إحراج وتدخل صارخ وتجاوز على سيادة الدولة اللبنانية، وما قد تفضي إليه من إشكاليات إذا تضاربت فيها نتائج التحقيقات، والتي كان من أبرز المتحمسين في الدعوة إليها الرئيس الفرنسي، ماكرون أثناء الزيارة التي قام بها على عجل إلى بيروت عقب التفجيرات، والذي نصب نفسه في أثناءها الوصي الشرعي على لبنان العربي، والناطق الرسمي الغير مسمى لأولئك اللذين أشرنا إليهم أعلاه من أصحاب ردود الأفعال، وهو يختصرها بالدعوة إلى “تحقيق دولي” في الإنفجار، وإلى “تغيير عميق” يفضي إلى “نظام سياسي جديد”، وتنفيذ “الإصلاحات” قبل إتاحة “التمويل” لها، والذي لم يخفي سابق التنسيق مع الرئيس الأمريكي ترامب بشأنها!
لا شك أن الدوائر المعنية بالقضية الفاجعة من خلال مصالحها ونواياها المبيتة، وبالأخص الأمريكية والفرنسية والصهيونية، إضافة إلى بعض الدول العربية، أنها مشغولة اليوم خلف الكواليس في العمل على استغلالها، من خلال الإعداد لصيغة تبرر فيها الدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية، وهو ما لم يخفيه الرئيس ماكرون بزعمه أن الهدف منها هو “الحيلولة دون إخفاء الأمور ولمنع التشكيك”، وما أشاح عنه بالأمس نائب وزير الخارجية الأمريكي، ديفيد هيل بأن بلاده “تريد التأكد من إجراء تحقيق شامل وشفاف وموثوق به” في الحادث المأساوي، التي سوف تفضي في النهاية إلى قرار بالإتهام تصدر بموجبه محكمة الجنايات الدولية الأحكام، التي بتقديرنا المتواضع سوف تلجأ إلى واحد من إحدى السيناريوهات، على ضوء استنتاجات المحققين الدوليين:
.1صدور عريضة إتهام التي سوف تستند في حيثياتها، على الأدلة الظرفية القائمة على الإجتهادات في غياب الأدلة القطعية، تورط من خلالها مسؤولين في حزب الله ومسؤوليته عنها، وهو السيناريو الأبعد إحتمالا في اعتقادنا!
2 التوصل إلى نتيجة مفادها، أن الإنفجارات كانت نتيجة حادث عرضي غير متعمد، الذي كان من الممكن الوقاية منه وتجنبه، لو توفرت الإرادة عند اللبنانيين من حكومات وأحزاب وتنظيمات ومسلحين على تفاديها، وهو الإحتمال الأقرب في تفكيرنا، بغية إضفاء نوع من الواقعية وبعض المصداقية عليها، مع ملاحظة أن المستهدف سيبقى هو نفسه مهما تعددت أو اختلفت السيناريوهات، عندما سيتبين ذلك حين صدور القرارات الأممية لاحقا، التي سوف تؤكد على ضرورة منع السلاح في المدن وخارجها حفاظا على “السلم المدني”، وأن يقتصر اقتناءه وحمله على الجيش اللبناني وحده، تحت طائلة أشد العقوبات الدولية في حالة عدم التقيد بذلك، هذا في حال أن اكتفت إحدى الدول الدائمة العضوية في الإمتناع عن التصويت، وأن لا تعارضه الصين ليس حبا في أمريكا غريمتها، وإنما نتيجة حسابات تخصها!
وهكذا يكون كل ما أرساه علم الجريمة والجنايات، في ظل شيوع الكذب والتحايل والنفاق، كما اعترف بذلك يوما الوزير الأمريكي بلا ضمير ولا كرامة بومبيو، قد ضل طريقه في الوصول إلى الحقيقة، بينما راح المستفيد الأول منها، يلوذ بالصمت والترقب وهو ينتظر بداية القلاقل وتبادل الإتهامات، في الوقت الذي بدل أن ترصد فيه ردود الأفعال، بناء على خلفياتها وربط النقاط فيما بينها، راح البعض في الإصرار على إفقاد الشارع عذريته، بينما تهاوت واحدة من أشرف الحكومات في تاريخه، حتى يبقى لبنان في عين العاصفة، في مواجهة الدسائس والتحديات الصعاب الكبيرة!