منذ سنوات وآذاننا تتلقف كلمة ” التطبيع ” وفي كل مرة تكون إحداثيات الذهن مصوبة باتجاه القضية الفلسطينية وذاك الكيان الصهيوني المحتل والمغتصب للأراضي الفلسطينية والمهجر لرجالها ونساءها وأطفالها يصحب ذلك استحضار المشاهد الدموية للقتل والتدمير والعدوان الذي طال مجموعة من الدول العربية الحدودية له .
لكن مع توالي السنين أصبح ينحى منحى آخر يتمثل في إبرام مجموعة من الاتفاقيات التي يحاول من خلالها إضفاء الشرعية على أعماله وكذا وجوده في الشرق الأوسط , بل ومطالبته بحقوق اليهود التي تعود إلى 14 قرنا ( يهود خيبر , قينقاع … ) وكل ذلك مكر وحيل وخداع .
وحتى نضع القارئ في السياق الذي نحن بصدده وجب التذكير ببعض اللمحات التاريخية التي صحبت استيلاء الصهاينة على فلسطين , ولعل من أبرز ما مهد لذلك ( الوعد البلفوري 1917 ) البريطاني الذي كان دعما للصهاينة على تأسيس وطن قومي لليهود وهو وعد ” من لايملك , لمن لا يستحق ” كما يقال .. وثم بالفعل الوفاء بذلك عن طريق الهجرات التي سهلت إجراءاتها مجموعة من الدول ليتكلل ذلك بإنشاء وطن لليهود بعد 31 سنة أي سنة 1948 , وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصهيونية لاتعني اليهودية وانما هي منظمة لها من يعارضها من اليهود لكنها استطاعت أن توحد نسبة كبيرة منهم ., وحتى لايتيه النقاش وسط هذا السيل العارم من التفاصيل التاريخية فإننا سنسلط الضوء على مفهوم من المفاهيم المتداولة على الساحة السياسية والإعلامية مايعرف بـ” التطبيع ” والمقصود بذلك يمكن أن نشتقه من الكلمة أي كل ماهو طبيعي وعليه يكون جعل العلاقات مع إسرائيل طبيعيا هو ” تطبيع ” ويتم ذلك عن طريق فتح المجال لأي اتفاقيات أو تعاقدات اقتصادية أو تجارية أو سياحية …
بدايات التطبيع :
تبعا لمصادر إسرائيلية نفسها يمكن إرجاعه إلى ماقبل الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية , وذكرت تلك المصادر أنه كانت هناك مصالح استراتيجية بين اليهود وأمريكا والسعودية , ويورد أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية وهو – ميخائيل كاهانوف _ في كتابه أن السعودية وراء الاحتلال الصهيوني , أما ما تقوم به من قمع للأصوات والأقلام الحرة من اعتقال وتهميش وتنكيل فأجده يسير في هذا السياق في مقابل ذلك يتم السماح للخطباء داخل المسجد الحرام بالتفوه بكلمات مطبعة ( بكسر الباء مع تشديدها ) , أما التطبيع في جانبه العملي فبدأ من جانب تجاري وثم ذلك عن طريق إغراق الأسواق الخليجية بمنتوجات إسرائيلية تحمل أسماء دول أوروبية . كل هذا يدفعنا لطرح مجموعة من التساؤلات :
· هل استطاعت إسرائيل أن تتزعم منطقة الشرق الأوسط ؟
· أسلمت الحكومات العربية فلسطين بدواعي تجارية ؟
الإجابة نوردها بالصيغة القطعية التي لاريب فيها فنقول : أن التغلغل الإسرائيلي بلغ أشده وعمقه , عن طريق التحكم في مجموعة من الدول ببضع اتفاقيات تسهر عليها الولايات المتحدة الأمريكية وتقف سندا لها ., أما ” التطبيع ” فبعد أن كان متخفيا وراء أقنعة توهم بغيره , أصبح يمرر في قنوات عربية دون أن تتزحزح جفون المسؤولين , كل هذا ساهم بشكل كبير في تقوية شوكة إسرائيل علما أننا إن قلبنا صفحات الاقتصاد الإسرائيلي وبداياته نجد الهشاشة والفقر باديان عليه , وهذا الفقر يمكن تتبع في استيراده للخامات من الدول الغربية , أما أرضه وموارده ومياهه محدودة وبذلك يكون التسلل للدول الخليجية خدم ولايزال يخدم الكيان الصهيوني .
النفط الخليجي
من الأسباب الرئيسة التي جعلت إسرائيل تهتم بالخليج عامة ” النفط ” هذا الأخير التي كانت تستورده من الخارج بتكلفة عالية بالإضافة إلى عدم امتلاكها لخط سير آمن لنقله , فكانت الوجهة السوق الخليجية النفطية التي ستستورده منها بثمن بخس علاوة على استفادتها من تأمين خط السير لنقله , كل هذا لم تستطع أن تصل إليه إسرائيل وحدها ولن تصل إليه دون تدخل للولايات المتحدة الأمريكية .
السوق الخليجية
من المميزات التي تطبع الاقتصاد الخليجي كثرة الاستهلاك التي تسجل سنويا , وبالتالي فان الاستغلال الإسرائيلي للخليج شمل هذا الجانب أيضا وثم ذلك عن طريق ترويج البضاعة الإسرائيلية داخل السوق الخليجية مما جعل الأطماع الإسرائيلية تتزايد , وهذا فتح المجال سياسيا لإسرائيل كي تضع يدها داخل الدول الخليجية بل وتتدخل في الشأن الخليجي كطرف ., كل هذا الحديث يجرنا إلى الاعتقاد الجازم أن التطبيع لم تشترك فيه الحكومات وحدها وإنما التجار أيضا الذين يضعون الربح ولاشيء آخر نصب أعينهم فكانت الطريق مفتوحة أمام أي تغلغل إسرائيلي في المنطقة رغم كل النضال والمجابهات التي أقيمت لمحاربة دخول المنتوجات الإسرائيلية منها ( المؤتمر الشعبي لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني ) ., لكن رغم ذلك ظلت الأطماع الإسرائيلية في تزايد والمراقب لذلك يلحظ أن التركيز الإسرائيلي بعد أي اتفاقية تقوم بها هو اللجوء لعقود تجارية تمكنها من ترويج منتوجاتها .
تهجير الفلسطينيين وتوطينهم
منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين وعمليات التهجير تتم بأعداد كبيرة , لذا فان التطبيع مع الدول الخليجية يخدم إسرائيل بشكل كبير في هذه النقطة , وذلك عن طريق توطين الفلسطينيين في الدول العربية وذكرت بعض الدراسات أن 3 ملايين فلسطيني سيتم توطينهم في صحراء الخليج وهذا متضمن في ” صفقة القرن ” علاوة على ضم الأراضي , كل هذا يتم عن طريق الضغط والابتزاز التي تعرفه الحكومات العربية إضافة إلى الإغراءات المالية . , وحتى يكون تحليلنا منهجيا فان خيانة القضية العربية قد تمت بشكل علني وعليه فان المتتبع العربي المؤمن بقضيته أصبح على يقين من تنفيذ هذا التوطين وسنرقبه في الأيام القادمة .
إن المعاين للسياسات الخارجية لبعض الدول الخليجية والدول العربية الحدودية لإسرائيل يجد أن ” التطبيع ” يتلون في صيغ عديدة وسنرصد ذلك انطلاقا من نقاط هامة :
1. الاتفاقيات
ساهمت الاتفاقيات بين إسرائيل والدول الحدودية لها في فتح المجال للتطبيع , فكانت أولى هذه الاتفاقيات هي التي تمت بين مصر وإسرائيل سنة 1979 مايعرف بمعاهدة السلام أو ” كامب ديفيد ” 1978 والتي بموجبها يتم السلام بين الدولتين ويفرض ذلك أن يكون هناك تمثيل ديبلوماسي عن طريق السفراء , كذلك عن طريق التبادل الثقافي الا أن الشعب المصري بكل تشكيلاته ظل صامدا في وجه التطبيع صادا كل المنافذ رافضا لأي تليين .
لم تكتفي مصر بمعاهدة السلام التي بمجرد انتهاء إسرائيل منها , اتجهت صوب لبنان فكان العدوان عليها سنة 1982 , أبرمت مصر بعدها اتفاقية أخرى سنة 2005 تعرف ب “اتفاقية الكويز ” والتي يتم بموجبها تصدير الغاز لإسرائيل .
الاتفاقية الثانية كانت مع الدولة الحدودية من جهة الشرق ونقصد ( الأردن ) التي أقامت اتفاقية ” وادي عربة ” سنة 1994 والتي ستستعيد على اثرها الأردن أراضيها المحتلة والتي تصل ل 380 كلم مربع , وكحال كل اتفاقيات السلام التي تبرمها إسرائيل فان المصالح التجارية تجيء بعد ذلك لتوقع الأردن معاهدة التجارة 1996 .
الإمارات هي الأخرى أعلنت تطبيعها بعد أن كانت متوارية هي وغيرها من الدول الخليجية , فلم تفاجئ العالم العربي بما أقدمت عليه لأن بوادر تطبيعها بنته عبر سنوات وهيأت كل الأجواء كي يستساغ , وسارعت هي الأخرى لعقد اتفاقية السلام مبررين ذلك بوقف ضم الأراضي الفلسطينية , لكن الذل كل الذل أن يتم نفي ذلك في نفس اليوم من قبل الحكومة الإسرائيلية . , وحتى يتم تهييئ الشارع العربي من جديد لتطبيعات أخرى فان السعودية لمحت لتطبيع قادم في المستقبل تجلى ذلك في السماح للطائرة الإسرائيلية بالمرور عبر الأجواء السعودية , والأكثر من هذا أن خطب الجمعة داخل المسجد الحرام تخدم هي الأخرى ذلك بتلفيق الآيات والاحاديث النبوية ووضعها في غير ما وضعت له حتى يكون الجانب الديني خادما للتطبيع مسايرا له , يضفي عليه الشرعية الدينية .
2. المناهج التربوية
يظهر التطبيع أيضا في المناهج التربوية فعلى سبيل المثال حذف الآيات التي تمس اليهود من المنهاج التربوي في الكويت , وهذا حاصل أيضا في مصر .
3. الإعلام
كان ولايزال الإعلام قوة فعالة تلجأ إليها الدول لخدمة مصالحها سواء داخليا أو خارجيا , لكن هذا الاستغلال قد يجيئ للتطبيل والتنميق والتزييف إن كان غير مستقل ومتحكما فيه , وهذا ماحصل ويحصل في الأوطان العربية ( مصر على سبيل المثال ) أما بربطنا المفهوم الذي نعالجه ( التطبيع ) بالإعلام يمكن القول : أنه لطالما نادى حقوقيون وسياسيون بمقاومة التطبيع استنادا للتوعية الإعلامية , لكن الحكومات لم تهتم لذلك ولم تعره اهتماما إلا أن الكيان الصهيوني سخر كل الجهود للتجذر في الصناعة الإعلامية , فالتطبيع الذي كان يكتفي بإشارات أصبح ينتج مسلسلات رمضانية مطبعة (مسلسل أم هارون / مخرج 7 … ) .
كل هذا غيض من فيض وإلا فالكلام عن التطبيع يجرنا للتشكيك في مجموعة من الدول التي لازالت تخفي خيانتها للقضية العربية الفلسطينية وللشعب العربي الذي يعتبر فلسطين قضيته الأم ولن يسكت أو يتهاون في واجبه الذي يحتم عليه الصدوع بكلمة الحق في وجه أي تطبيع قادم أو خيانة أو مؤامرة أو سلطان جائر… أما التاريخ فإنه لم ينسى ولن ينسى أن الحكومات الخليجية العربية تخلت عن فلسطين , وأن العالم بات يعرف أن التطبيعات قائمة وأن خطوة الدول القادمة هي التصريح بذلك لاغير