بقلم فتحي بوليفه: مدرس-باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة |
رغم تعالي عدة أصوات من الدكاترة الشبان المعطلين عن العمل وبعض المنابر الصحفية، لا تزال وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تتجاهل وتعجز عن فتح ملف الساعات الإضافية الذي يشمل كل الجامعات التونسية دون استثناء نتيجة لتحكم عدد كبير من الأساتذة النافذين ورؤساء الأقسام في توزيع ساعات التدريس بالمؤسسات الجامعية. فهل تجرؤ الوزارة على مواجهة هذا النوع الخطير من الفساد؟
كما دأبت في مقالاتي السابقة المنتقدة لتفشي الفساد في الجامعة التونسية، سأقدم لكم بعض مظاهر الفساد في تحكم بعض الأساتذة النافذين ورؤساء الأقسام في توزيع ساعات التدريس بالمؤسسات الجامعية التي عايشتها.
في مستوى الإجازة التي بدأت الساعات الإضافية تشح بها في السنوات الأخيرة، خاصة في الاختصاصات الأدبية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، أصبح الأساتذة النافذون “يتكالبون” على هذه الساعات، خاصة أن هؤلاء يتمتعون بتخفيض في الساعات المطالبين بتدريسها قانونيا كلما تمت ترقيتهم، لذلك يصبح لهم متسع كبير من الوقت لتدريس ساعات إضافية بمقابل مالي يفوق بقية الرتب. هل تعلمون ما هو سبب تخفيض عدد ساعات التدريس بعد الترقية؟ من المضحكات أن يكون الهدف من ذلك منح الأستاذ المحاضر أو الأستاذ الجامعي زمنا إضافيا للبحث أو تأطير الباحثين، أما في واقع الأمر فهؤلاء أقل المدرسين إنتاجا علميا في البحث وإشرافا على تأطير الطلبة ونفسّر ذلك باطمئنانهم على ترقيتهم لأنهم لا يُقبلون على البحث إلا لتحقيق ذلك الهدف. لذلك يترك هؤلاء تلك المهام العلمية للأساتذة المساعدين والمساعدين والمبرزين الذين يحلون محلهم استجداءَ لـ”المعلم” (يطلقون هذه التسمية على الأستاذ الذي أشرف على إعداد أطروحاتهم لنيل شهادة الدكتوراه أو ما دونها) أو طمعا في ترقية يتحكم أولئك في مصيرها.
بعد تعميم نظام “إمد” بالجامعة التونسية الذي يجيز لجل المؤسسات الجامعية بعث دراسات “ماجستير مهني” أو “ماجستير بحث“، لإدماج الطلبة المجازين في مسار دراسي يلهيهم ويؤخر ولوجهم مبكرا إلى سوق الشغل، أصبحت هذه المؤسسات تتسابق لبعث أكبر عدد ممكن من هذه الدراسات، لا للرقيّ العلمي بالمؤسسة الجامعية، بل لتوفير ساعات إضافية يتقاسمها الأساتذة النافذون الذين يبتكرون الاختصاصات المدرّسة في هذا الماجستير حسب اختصاصاتهم وحسب اختصاصات أصدقائهم في مؤسسات جامعية أخرى (الحلقة المغلقة لمنظومة الفساد التي ذكرتها في مقال سابق)، يتبادلون فيما بينهم الساعات الإضافية ويقصون زملاءهم في نفس المؤسسة الذين يدرّسون نفس الإختصاص. أحيانا يعمد هؤلاء لاستجلاب أصدقاء لهم لا يخوّل لهم القانون التدريس في التعليم العالي عموما والماجستير خاصة، لعدم توفر الكفاءة والرتبة العلمية، كأن يستجلبوا محام لتدريس مادة “حقوق الانسان” مثلا، أو مهندس فلاحي لتدريس “التهيئة المائية” في ماجستير الجغرافيا دون حسيب أو رقيب… كما يتنقل هؤلاء المتكالبون على الساعات الإضافية بين العديد من المؤسسات الجامعية لتغطية النقص في الإطار التدريسي، بينما يبقى الآلاف من حاملي شهادة الدكتوراه في بطالة بتعلة أن الدولة مطالبة أمام المانحين الماليين الدوليين بعدم الانتداب في الوظيفة العمومية.
حسب آخر الإحصائيات بإمكان الساعات الإضافية المتوفرة في المؤسسات الجامعية تشغيل أكثر من 2000 مدرّس، أي انتداب قرابة نصف عدد الدكاترة المعطلين عن العمل. من خلال هذا المعطى الإحصائي يتبيّن لنا أن الحوكمة الرشيدة في ملف الساعات الإضافية تمكّن الوزارة من مقاومة الفساد والحد من الاحتقان الاجتماعي بالحد من البطالة.