إن مقولة كل الطرق تؤدي إلى الظلم مزيفة أيضا. ولذا لا مسلك لنا سوى هذا التأمل الموجز في الجريمة والقتل والإعدام والانتحار.
هل ينفع الإعدام في حالة الانتحار الذاتي بقتل الغير؟
ماهو نوع الإعدام الذي تطبقه الدولة في هذه الحالة، هل هو مجرد قتل لقاتل أم هو قتل لقاتل قتيل؟
وماهي العدالة في هذه الحالة، هل هي مجرد انتصار للضحية المقتولة أم هي مجرد عقاب لمعتد أثيم؟
وماهو العدل الحق، هل هو منع للقتل أم انه منع للانتحار في صيغة القتل؟
***
لنترك، الضحية جانبا، فالضحية ضحية مظلومة في مطلق الأحوال ولا تنفع في شأنها أي صناعة ولا أي عذر. ولنترك الصفح والغفران والمسامحة، فالمسألة على درجة كبيرة جدا من الصعوبة. ولنتجنب أيضا اعتبار القاتل ضحية حتى إذا كان ضحية إلى حد ما، فهذا لا يحل المشكلة أيضا، بل ربما يعقدها. ولكن، أليس القتل أيضا صناعة من صناعات الدول الظالمة؟ لا نتحدث هنا عن الجريمة السياسية الإرهابية وإنما نتحدث عن الجريمة الإجتماعية. أليست منتوجا يفهم ويحلل ويفسر ويخضع أيضا للتأويل؟
إذا وصلنا هاهنا بالعقل المجرد إلى قيام هذه الحالة واستحالة التهرب من المسؤولية تجاهها، فسوف يصبح السؤال، ماذا نحن فاعلون لتبرئة أنفسنا أقصى ما يمكن من مجرد القتل أو مجرد الإعدام أو مجرد تجاهل ظروف الانتحار منفذا في الذات أو منفذا في الآخر؟
وبعيدا عن جدل ماذا فعلنا لمنع هذا وذاك أو تجنب الوصول إلى هذا وذاك، دعونا نجتهد، حتى إذا أخطأ كل منا فنحن لا نتطلع إلا إلى الإصلاح، نجتهد لا كفقهاء وإنما كمسؤولين عن الانتماء الجماعي إلى ألم حصول ذلك وكل الأيادي مكتوفة.
هل ينفع مثلا أن نصالح بين القاتل والمقتول في الغياب؟ هل نستطيع أن نصالح مائة عائلة مع مائة عائلة أخرى من أهل القاتل ومن أهل المقتول؟ (عندما نقول مائة، نقولها على سبيل المجاز). وهل يمكن أيضا أن نحرر ألف رقبة في السجون وخارج السجون من الوصول إلى هذا المصير الانتحاري الاجرامي ونؤمن لها كل أسباب النجاة من ذلك؟ فالقتل لا شك إجرام ولا شيء يبرره والانتحار أيضا إجرام عدمي غير قابل للتبرير غير اننا نصمت لشدة الألم أو حتى القلق على ادانته بينما القتل سهل الادانة خاصة إذا تعلقت أنفسنا بالتخلص من الجاني حتى إذا كان ضحية والتخلص من الموضوع أصلا بتخيل راحة مفترضة يوفرها.
إننا هنا لا نجادل لا في الدين ولا في الدولة، وإنما لا نتهرب من الحقيقة القائمة المؤلمة جراء ما يجري تحت أعيننا، لا ولا نتهرب من التبعات الإنسانية لذلك في أنفسنا وفي مجتمعنا اذا كنا ينعالح الأمر كل مرة بالجهد الأدنى.
حتى الآن لا يغلق العقل ملفا ولا يغلق القلب الموضوع ولا هو علم كلام أبدا ولا علم كلام جديد أبدا ولا نظن اننا على الطريق الصحيحة، فكلنا نعلم منذ المنطلق ان الذي يحدث عندنا لا هو طبيعي ولا هو عادي ولا هو مكتسب ولا هو فطري ولا هو متعود عليه. وكلنا يدرك أحببنا أم كرهنا اننا لسنا على أحسن ما يرام لا دينيا ولا قانونيا. وعليه، نرى مجددا، دون أن نكون قد تقدمنا خطوة واحدة، نرى ما يلي:
يتطلب الأمر كما كتبنا سابقا عملا معمقا ومطولا لاكتساب المناعة الحضارية الكافية لحفظ الحياة عموما. وكل ذلك مرهون بالتحرر الروحي والذهني والنفسي من معيقات تخلف الإنسان عن عقله الخاص به وتاخره عن نجدة نفسه وانقاذ ذاته، جماعيا لا فردانيا، من فخ الانسحاق الذاتي في الدرك الأسفل من قيم الحكمة في القرار والكرامة في خيارات الحياة.
يبدأ هذا التحرر الروحي بلا شك من تغيير طريقة الحياة. ولا ينتهي عند إبداع تحرر تنموي شامل بتباعد حضاري واضح مع كل مظاهر الارتباط العضوي بمولدات هذه النكسة المعيشية والحياتية والوجوجية والاخلاقية والبيوسياسية الكبيرة.
ربما يحتاج ذلك عصرا آخر يبدأ الآن أو “شعب مستقبل” يعيش بعضه معنا أو إنسانية عميقة وأكثر آدمية لم تفارق الروح البشرية مطلقا وإن بدا عكس ذلك غالبا. إلا أن كل الأمر يتعلق ببرنامج مكثف لعقل هذا العصر والعصر المقبل، برنامج “اصلاح عقل” لا ينتهي بمنعطف إنساني أو طفرة إنسانية تحقق السكينة الحضارية المبثوثة في جسد الكون وذلك منتهى العدل ومبتغى غايات الحق.
يتعين علينا في جوهر مقصد القضاء على الانتحار إصلاح كل تفاصيل الطريق المؤدية إلى العدالة. وينبغي علينا اصلاح كل الطرق المؤدية إلى العناية والرعاية. وهنا لا حلول ولا عقوبات ناجعة لأنك لا يمكن أن تختار بين الإبادة الجافة قتلا وبين الابادة البطيئة بدعوى دعه يعيش حتى يموت أو حتى دعه يموت بطريقة أخرى أو بدعوى سنرضي عقولنا أو أنفسنا أو سنرضي البعض منا أو سنحتكم إلى الشكليات القانونية أو حتى إلى موازين قوى معينة سياسية أو شعبية وننحرف بالموضوع إلى صراع مصطنع وتجارة كاسدة بين الضمير الديني واجيال الحقوق والقوانين الرائجة حاليا دون حل لا للمشاكل التي يطرحها الأول ولا الثاني.
إننا لا نقصد هنا لا الأسد ولا أذن الأسد. ولكن ترك القضية في وضعها الاشكالي المزمن بدعة ظالمة أو بدعة عادلة، سيان.