بقلم: محمد الرصافي المقداد |
أيّا كان ما حصل للنبي (ص) توفاه الله – وهو الأرجح- أو قتلته عصابة من الناس؟ فإن أحداث تلك الأيام عصيبة ومحزنة، وتدعونا إلى مراجعة أحداثها، بتروّ ودون انفعال لاستقصاء الحقيقة، والبناء عليها من جديد مبنى صحيحا، قد يكون تبعا لمحصّلها، مغايرا تماما لما سوّقه لنا وعاظ السلاطين، من روايات بدت عليها مسحة الاختلاق، وظهرت فيها بصمة التحريف.
إن الإمساك بخيط من الحقيقة في هذا الشّأن إذا حصل، سيأخذ الفائز به الى مورده من الصحة أو الخطأ، والباحث الشاطر برأي كل عاقل، موفق دائما في استخلاص زبدة جهوده، من الاثار المهملة والاقوال المتروكة، التي اشاح عنها المؤرخون بمدوّناتهم تبرما مما جاء فيها، وخوفا من اثارة السلطان بمحتواها، ففي تلك الاجواء السلطانية الغاشمة، مراسيم سلطانية أقلّها تأثيرا، ليس كل ما يعرف يقال، والخطوط الحمراء المرسومة لهم، والمتواصلة الى اليوم كثيرة، ومن يجرؤ على اقتحام خط من تلك الخطوط، تثار ضده الاتهامات، ويرمى بأشنع النعوت، فكيف بمن أظهر حقيقة أنّ رسول الله (ص) مات مقتولا؟
والقضية هنا غير متوقفة على ابنته سيدة نساء العالمين، كيف انتهكت حرمتها، وأهين بعلها، ولم ترقب فيها الأمة مقامها، ولا وصايا الوحي بشأن أهل بيتها، بل تتجاوز ذلك الى كبير أهل البيت، ورمز الإسلام الأول، وخاتم النبوة والوحي، حبيب رب العالمين وما لقيه من صحابته، من تعدّ وتجاوز وانتهاك، وحريّ بمن عرف ذلك، أن لا يصمت على ما حصل، وينتصر لمولاه، ويتبرأ من عصابة الاجرام بحقه وحق أهل بيته، فإن من شرائط الإيمان بنبوة خاتم الانبياء والمرسلين، أن يكون في صفه ومدافعا عنه، ويكون أحبّ اليه من نفسه وأهله، ولا تأخذه في حبه وموالاته لومة لائم.
جاء في كتاب الله ما أفادنا أن حياة النبي(ص) معرضة إلى الموت الطبيعي أو القتل، وتضمنت أيضا انقلاب الصحابة نتيجة لذلك، كما حصل في معركة أحد، حين فر من كان معه، ولم يبق سوى علي بن ابي طالب، وبضعة رجال ثبتوا لحمايته، من التفاف المشركين عليه لقتله، قال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم…) (1)
ما في أيدينا من الروايات، مجمعة على أن النبي(ص) وقع سمه، لكن من أجبر من الحفاظ على نقلها، نسبها إلى يوم خيبر، قبل ثلاث سنوات خلت، وهي نسبة من الغرابة بما كانت، وغير خاف على أحد، أن تأثير السم في البدن سريع، ولا يمهل صاحبه، وفي نظري أن الروايات التي نسبت مصدر السم الى يهود خيبر كما في هذه الرواية مختلقة، ومنسوبة لأنس بن مالك: (أن يهودية أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها ” الحديث، فعرف أن التي أهدت الشاة المذكورة إمرأة، أخرجه ابن إسحاق بغير إسناد، وأورده ابن سعد من طرق عن ابن عبّاس بسند ضعيف، ووقع في مرسل الزهري، أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها، أن ذلك كان أحبّ أعضاء الشاة إليه، وفيه ” فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهش منها ” وفيه: فلما ازدرد لقمته قال: إن الشاة تخبرني أنها مسمومة.) (2)
الدليل على اختلاق روايات دسّ السمّ إلى اليهود، أن مختلقوها دهاة من ناحية، ومن ناحية أخرى أغبياء، قد جمعوا النقيضين معا، فدهاءهم أوصلهم إلى إرجاع تسميم النبي(ص) إلى اليهود، لتبرئة الفاعلين الحقيقيين من المسلمين، بسبب ارتباطهم الوثيق بمنظومة الخلافة، وإمكانية كشفهم، من شأنه أن يفضح تلك المنظومة، ويسقطها إسقاطا مدوّيا، لا تقوم لها بعده قائمة، لكن غباءهم أنساهم من ناحية أخرى، بأن النبي مرتبط بالوحي ارتباطا وثيقا، يمنعه من تناول أي شيء مسموم، وهو بكامل وعيه، وتنبيهه إلى ما قد يشكل خطرا عليه، قبل وقوعه من مستلزمات نبوّته، فلا يصحّ أن يغيب الوحي عنه، في ذلك الزمن الحسّاس، وطوال إعداد الشاة المزعومة، وتقديمها إليه دون تدخّل منه، والغريب هنا كيف يصدّق مسلم، أن النبي(ص) قبل شاة مشويّة هديّة من يهودية، وهو يعلم مكر اليهود ودهاءهم، وهو في حالة حرب معهم في خيبر، وهو أولى بتطبيق الآية: (لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)(3) في الحذر منهم، وعدم الوثوق بأفعالهم، فكيف يقبل أكلا أعده له أعداؤه؟
قد يستغرب الكثيرون مما ذكرته، ولكن إذا تذكّروا أن من حاول قتل النبي (ص)، عند منصرفه من غزوة تبوك، في السنة التاسعة للهجرة، هم من الصحابة(4)، وقد عرّفهم النبي(ص) لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فكان صاحب سره بشأنهم(5)، لذلك فإن دسّ السمّ، كان في اللّد الذي لدّته به بعض نسائه. عن عائشة قالت: لددنا النبي(ص) في مرضه فقال: لا تلدوني.(6) ومع نهيه(ص) عن لدّه، فقد لدّوه وهو مغمى عليه، فكانا خطأين معا، وتجازين كبيرين بحقه، الأول تنفيذ مؤامرة اغتياله، ووراءها ما وراءها من هدف واضح، وهو قطع الطريق على الأولى بقيادة الأمّة بعد نبيّها، والثاني مخالفته في نهيه من أن يلدّوه، وكان إغماءه فرصة لتنفيذ الجريمة.
الخيط الذي ذكرته هنا، والذي يجب الإمساك به، جاء في رواية عبد الله بن مسعود، أخرجها إمام الحنابلة أحمد بن حنبل، (عن عبد الله بن مسعود قال: لأن أحلف تسعا أن رسول الله (ص ) قتل قتلا، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله عز وجل جعله نبيا، واتخذه شهيدا. قال الأعمش فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: كانوا يرون ويقولون: ان اليهود سموه وأبا بكر.) (7)
وثاقة ابن مسعود في قوله، مشددة بأنه مستعد للقسم تسعا، بأن النبي قتل قتلا، ولم يمت موتا طبيعيا، باب بحث خشيه كثيرون، وتجنبه آخرون، لكنه في هذا الزمن أصبح متاحا، لمن أحبّ اتّباع نبيه (ص) في كامل تفاصيل حياته الشريفة، ليتبين له من كان معه على أمر جامع، ومن كان يخاتله وينافقه بالتقرّب إليه للغدر به، مظلومية نبيّنا (ص) يجب أن تظهر لكل مؤمن يحب الله ورسوله(ص)، المطلوب مراجعة هذا التراث، ففيه قبس من الحق وسط ركامه.
المراجع
1 – سورة آل عمران الآية 144
2 – فتح الباري في شرح صحيح البخاري ابن حجر العسقلاني كتاب الطب باب ما ذكر في سمّ النبي ج10 ص255 ح 5441// صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب قبول الهدية من المشركين ج3ص163ح2617// صحيح مسلم، كتاب السلام، باب السم ج7ص14ح2190
3 – سورة المائدة الآية 82
4 – اغتيال النبي الشيخ ناجح الطائي ص63/78
5 – سير أعلام النّبلاء الذهبي ج2ص361
6 – صحيح البخاري، كتاب الديات، باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات ج9ص7ح6886 وح6897 /مسلم كتاب السلام، باب كراهية التداوي باللدود ج7ص24
ح2213
7 – حكم الحديث صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات / مسند احمد مسند عبد الله بن مسعود ج7ص205ح4139 وج6ص115ح3617وج6ص418ح3873