استراليا للتذكير بتاريخها كانت مستعمرة بريطانية قديمة كانت تستخدم كمنفى وموطنا لكل مرتكبي الجرائم البشعة في بريطانيا أيام الامبراطورية البريطانية منذ القرن الثامن عشر. وللتذكير أيضا فإن السكان الاصليين لاستراليا الذي يطلق عليهم الابوريجينز والذين سكنوا البلاد لاكثر من 100000 عام لم يتم إعتبارهم من الجنس البشري الا في عام 1960 . وقبل هذا التاريخ لم تتعدى الحقوق القانونية لهؤلاء السكان الاصليين أكثر من النباتات والحيوانات كما يقول المثل. وكانت هنالك فرق من البريطانيين البيض يذهبون “لاصطياد” السكان الاصليين كما كان أفراد الطبقة الارستقراطية في بريطانيا يذهبون في جوقة على ظهور احصنتهم وكلابهم لاصطياد الثعالب في المناطق الريفية. هذا هو الارث الاستعماري الذي أورثته الامبراطورية البريطانية الى استراليا.
وبعد الهزيمة التي تلقاها البريطانيون في سنغافورة من الجيش الياباني عام 1941 بدأت استراليا تدريجيا الى الانتقال الى الحضن الامريكي والاعتماد على الولايات المتحدة فيما يخص أمنها الخارجي, في وضع مشابه لدول الخليج العربي بعد آفول الاستعمار البريطاني. ووصلت طلائع اولى قوات أمريكية الى استراليا في عام 1942 وأقامت أول قاعدة عسكرية امريكية على الاراضي الاسترالية والتي بلغ عددها الان مع مرور الوقت الى ثمانية قواعد في تلك الاراضي. وقد تم توقيع معاهدة أمنية بين استراليا ونيوزيلندا وأمريكا عام 1951 اطلق عليها معاهدة والتي بموجبها تعهدت امريكا بضمان أمن هذا الدول وبالتالي ضمان بقاء وجودها العسكري في تلك المنطقة الحساسة والاستراتيجية. وقامت نيوزيلندا بالانسحاب من هذه الاتفاقية أما استراليا فقد بقيت على هذه الاتفاقية منذ ذلك العهد للان.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 شاركت استراليا في حروب الولايات المتحدة على الاقل في اربعة حروب عسكرية رئيسية في مناطق بعيدة جغرافيا عن استراليا بالاضافة الى عدم وجود مبرر أو اية مصلحة استراتيجية حيوية لها. هذه الحروب التي شنتها الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية وضمن سياسية الهيمنة والتسلط الكوني وسياسة خارجية قائمة على العدوان والغزو العسكري المباشر في كوريا (1950) وفيتنام (1961-1975) وأفغانستان (2001) والعراق (2003) وليبيا وسوريا (2011 ).
وبالرغم من إتضاح الاكاذيب التي ساقتها الولايات المتحدة لغزو العراق وأفغانستان على سبيل المثال ما زالت الحكومات الاسترالية المتعاقبة تدعم الولايات المتحدة في حروبها ومغامراتها العسكرية وكذلك في حروبها الاقتصادية من خلال فرض العقوبات على الدول التي ترفض للانصياع للغطرسة والهيمنة الامريكية وترفض ان تكون أداة لتنفيذ مخططاتها الاستراتيجية سواء على النطاق الاقليمي او العالمي. الفترة الوحيدة التي حاولت فيها استراليا التخلص من الهيمنة الامريكية على سيادتها كانت الفترة الواقعة ما بين 1972-1975 عندما نجح حزب العمال في الانتخابات وتشكيل الحكومة التي اعلنت إعترافها بجمهورية الصين الشعبية وحكومتها بانها السلطة الشرعية للصين متجاوزة جزيرة تايوان حليفة أمريكا. وكما انها وقفت ضد الحرب الامريكية في فيتنام وقامت بسحب القوات الاسترالية المشتركة مع القوات الامريكية في الحرب هناك.
أما من الناحية الاقتصادية فقد بقيت استراليا مرتبطة ببريطانيا الى حين دخول بريطانيا الى السوق الاوروبية المشتركة والتي وضعت بعض القيود على التبادل التجاري مع بريطانيا مما استدعى إعادة تقييم الوضع الاقتصادي في استراليا وعلاقاتها الخارجية. ومنذ تقريبا مطلع سبعينات القرن الماضي بدأت استراليا بإقامة علاقات إقتصادية مع جيرانها الاسيويين وعلى رأسهم الصين وقد تسارعت هذه العلاقات منذ السبعينات للقرن الماضي وتوطدت الى حد كبير بحيث أصبح الاقتصاد الاسترالي معتمدا الى حد كبير على التصدير والاستيراد من الصين.
وانتعشت العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياحية وغيرها بين الصين واستراليا حيث اصبحت استراليا تستقبل اكبر عدد من الطلبة القادمين من الخارج من الصين كما اصبح الصينيون يشكلون أكبر عدد من السواح الاجانب وثالث أكبر دولة في حجم الاستثمارات في استراليا.
وفي عام 2019 شكلت الصين أكبر شريك تجاري لاستراليا حيث وصلث اليها أكثر من ثلث إجمالي الصادرات الاسترالية وقد مثل هذا ما يقرب من ضعف حجم التجارة مقارنة مع اليابان ثاني أهم شريك تجاري لاستراليا.
ولكن كل هذا تغير بمجيء عام 2020 عندما إنحازت القيادة السياسية في استراليا الى الولايات المتحدة في القاء تهمة نشر فيروس الكورونا على الصين اسوة بالموقف الامريكي منذ بداية الجائحة, وتبنيها الخطاب السياسي الامريكي الرسمي فيما يخص العداء السافر للصين على جميع الاصعدة.
وكان من الطبيعي أن تقوم الصين ببعض ردود الفعل على هذه المواقف المتناغمة مع الادارة الامريكية التي تبعتها ايضا تهديدات بالعقوبات الاقتصادية. وردا على هذه الاتهامات والاجراءات الاسترالية قامت الصين بوقف استيراد النبيذ من استراليا لارسال اشارة واضحة الى الحكومة الاسترالية التي لم تتعظ وأبقت على تصريحاتها العدائية الى الصين التي قامت مؤخرا بوقف استيراد الفحم الحجري من استراليا مما شكل ضربة لصناعة المناجم حيث تقدر الخسائر الناجمة عن هذا بمقدار 13 مليار دولار سنويا ولم تكتفي الصين بهذا بل قامت بالتهديد بوقف استيراد خام الحديد من استراليا والذي تقدر خسائره الى الاقتصاد الاسترالي بما يقرب من 100 مليار دولار سنويا وقد تم خفض نسبة الاستيراد حاليا بنسبة 17%. وإذا ما أضفنا الى خفض الاستثمارات الصينية وما سببه فيروس كورونا على الاقتصاديات العالمية واستراليا ليست مستثنية من هذه الارتدادات على إقتصادياتها نستطيع ان نقدر حجم الخسائر للاقتصاد الاسترالي التي نجمت لعلاقات التبعية للهيمنة الامريكية والانخراط التام بسياساتها العدوانية تجاه الصين حتى قبل ظهور جائحة الكورونا.
ومن الواضح ان الامور تتجه نحو التصعيد بين استراليا والصين فقد سبق وأن رفضت استراليا وبناء على آوامر من البيت الابيض بعدم السماح للصين ببناء شبكات الجيل الخامس على اراضيها وكذلك وقوفها الى جانب البيت الابيض في الانتقادات الموجهة الى القيادة الصينية فيما يخص ملف “حقوق الانسان” في مقاطعة شينغيانغ وهونغ كونغ كما أتضح جليا في البيان الختامي الذي عقد في شهر اغسطس الماضي بين وزير الدفاع ووزير الخارجية الامريكي مع نظريهما الاستراليين والذي حضره ايضا الامين العام لحلف الناتو . وهنالك نية وتوجه أمريكي لانضمام استراليا الى حلف الناتو ونشر صواريخ محملة بالرؤوس النووية على الاراضي الاسترالية في محاولة لتطويق الصين كما فعلت وما زالت الولايات المتحدة مع روسيا. والذي يبدو أن إنسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى مؤخرا يدخل ضمن هذا التوجه.
ومن الملاحظ انه وبعد إجتماع وزراء الخارجية والدفاع للولايات المتحدة واستراليا وبحضور الامين العام لحلف الناتو بدأت الصحف الاسترالية المقربة من الحكومة الحديث عن سياسة دفاعية جديدة مشيرة الى تحول استراتيجي مهم في سياسة استراليا الخارجية لمواجهة التهديدات الجديدة من “الصين”. وهذه الاستراتيجية الدفاعية الجديدة تستدعي إنفاق بلايين الدولارات لشراء الاسلحة الامريكية والاعتماد على الولايات المتحدة بشكل أكبر لتامين حماية لاستراليا. ومن المؤكد ان الشركات الامريكية العاملة في مجال التصنيع الحربي والتي تعتاش على الدماء وخلق بؤر توتر في العالم أمثال بوينغ ولوكيد مارتن ورايثون وغيرها ستحقق مليارات الدولارات من الارباح نتيجة هذه الصفقات. وهذا التحول الاستراتيجي في السياسة الخارجية لاستراليا يأتي متناغما مع السياسة العدوانية التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه الصين في تلك المنطقة والتياصبحت مكشوفة للعيان.
في النهاية نود ان نؤكد ان السياسة الخارجية لاستراليا وخضوعها للهيمنة الامريكية لن يعود عليها الا بالضرر الكبير إقتصاديا وسياسيا وأمنيا. فأي نزاع مع الصين في تلك المنطقة وخاصة إذا ما نشبت حربا عسكرية بالصواريخ أو غيرها ستكون استراليا المتضرر الاكبر من هذه المعارك بحكم موقعها الجغرافي القريب من الصين. أمريكا تسعى الى توسيع حلف الناتو الذي لم يعد مقصورا على حماية طرفي الاطلسي كما كان يدعي اثناء الحرب الباردة. فأمريكا تريد ان تتعدى دوره القديم كما رأينا في الحالة الروسية حيث تمدد حلف الناتو الى الحدود المتاخمة جغرافيا لروسيا الاتحادية. والان أمريكا تسعى لتوسيعه بحيث يشمل أيضا استراليا واليابان في محاولة لاضعاف الصين القوة الصاعدة إقتصاديا وسياسيا والاخذة بتطوير صناعاتها العسكرية لمواجهة التهديدات الامريكية. ولن يمضي الوقت قبل أن تبدأ الولايات المتحدة استراليا بدفع الجزية “لحماية أمنها” كما فعلت وتفعل مع الدول الخليجية.
* كاتب وباحث فلسطيني