ان وجود بناء فكري مبادئي متكامل وشامل عند تلقينه وإعطائه وتدريسه للفرد يكون حجر الزاوية والأساس في عمله وآلية اتخاذه للمواقف وفي طريقة تعامله مع الأحداث المستجدة على المجتمع بكل أنواعها شيء مطلوب وضرورة لكل إنسان يتحرك ويشارك في الحياة .
إذن نحن نريد وبحاجة إلى أيديولوجية نستطيع معها تقليل وتقليص المسافة بين المفكرين والمنظرين والعامة من الناس ونستطيع أن نلخص ذلك بالقول إننا نريد تحقيق الاستقطاب .
ونحن إذا كنا نتفق ولا نختلف حول ضرورة صنع وصناعة هذه الأيديولوجية وجب علينا أن نبحث ونقرر عن ماهيتها وأساسها والمنطلق لبنائها .
باعتقادي ، نحن نريد خلق وصناعة حركة جماهيرية شعبية عريضة ، متفاعلة ومتواصلة حول هدف سامي رفيع ونبيل المطلوب الوصول إليه والسعي والاتجاه بطريقه ، إذن علينا أن نفكر ونضع في حسابنا وأذهاننا إننا نصبو ونرغب ونريد الكل وليس الجزء .
نعم عندما نقول حركة شعبية ، لسنا نقصد جزءا من طبقة ، فئة أو تجمع معين ، بل نقصد ونهدف إلى المجموع ككل .
إذن نحن هنا اشترطنا شيئين اثنين : الأول هو أيديولوجية وفكر استقطابي جاذب وشامل وكامل ، والثاني هو استهداف المجموع بالشرط الأول وهو الأيديولوجية .
طرحنا فيما سبق تساؤلات حول ضرورة الأيديولوجية المرغوبة وماهيتها وأساسها والمنطلق لبنائها ، فلنبدأ هنا بالأساس الذي ننطلق منه للبناء .
إن العالم الإنساني كل ما فيه من فكر ومبدأ ينطلق من ثلاثة منطلقات : الإلهي والإنساني والخليط بين الاثنين الإلهي الإنساني بمعنى الفكر الإنساني المستخرج والنابع من الفكر الإلهي .
أمثلة على الفكر الإنساني
إن الفكر الإنساني هو المبادئ والأفكار مما صنعه عقل الفرد وتفكيره على مر الزمان ، بناءا وتأسيسا على ما واجهه وصادفه في مساراته التاريخية والاجتماعية والاقتصادية .. الخ ، فهي ما فهمه من أشياء وأمور تجعله يعيش بشكل أفضل وأحسن . وهو ما توصل إليه بعد تجارب مع ما يحيط به .
إذن الفرد في زمان ما في الماضي ، الحاضر أو المستقبل صادفته وواجهته مشكلة ومعضلة ما ، فأصبح وجود حل رغبة وغاية لديه ، فتكونت وتبلورت لديه فكرة ، طبقها ونفذها ، إذا فشلت ألغاها من عقله ، وان نجحت خزنها وثبتها وأصبحت لديه كقاعدة للتعامل مع المشكل والمعضل المشابه ، بل يمكننا أن نضيف ونزيد أن كيفية وآلية إيجاده وعثوره لهذا الحل ، وأيضا الحل نفسه ، يصبحان لديه قاعدة في التفكير وثوابت مبادئية يتعلم ويتكيف بواسطتها مع واقعه ومحيطه الذي يعيش فيه .
مثلما حدث في أوروبا عندما تطورت الآلة فزاد الإنتاج وأصبح من يملك الآلة يسيطر على الإنتاج ومن ثم بطريقة تلقائية على الربح وأصبح هناك من يحتاج إلى الآلة والى من يسيطر عليها للمعيشة ، فأصبح هناك طبقة للعمال تسيطر عليها البرجوازية مالكة الآلة والحاصلة على الربح ، مع فروق واختلافات عميقة وشاسعة بين الطبقتين ، ترتب عليه حصول ظلم كبير على الطبقة العاملة الكادحة وانعدام للمساواة فظيع ، أدى إلى زرع البذرة للتفكير في حل المشكل الموجود وجاء هذا التفكير على أساس من قاعدة من الواقع نظرت على أن حل المشكل هو بتدمير من يسيطر على الآلة والربحية وهم البرجوازيون ، وانتقال السيطرة والتحكم إلى العمال الكادحين على الآلة والربحية ومن ثم يتم حل المشكل وهذا ما شكل أساس الفكر الاشتراكي .
إذن الواقع في هذه الحالة من تاريخ البشرية كان هو قاعدة التفكير والماركسية كانت هذه الفكرة .
وفي فترة مقاربة من تاريخ البشرية في أوروبا كانت الجماهير والشعوب تسعى وتريد الفكاك و الخلاص من سيطرة الإقطاع والإقطاعيين والنبلاء على مقدراتهم ومصيرهم ، فكان أن تعاونت البرجوازية مع الجماهير لإسقاط الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية المسيطرة .
فكان هنا المشكل هو التسلط الإقطاعي بالتعاون مع الكنيسة وهي ما يمثل الدين في أوروبا فكان الوضع أنه باسم الدين والرب يكون التسلط والظلم على المظلومين والمحرومين في الطبقات الدنيا ، فكان أن وجدت وخرجت فكرة العلمانية أو علمنة المجتمع والدولة ، وتنص وتقول بفصل الدين عن المجتمع والدولة ، أي برفع الارتباط الذي خلق وصنع المشكل ، إذن برفع القدسية والتبرير الإلهي المزعوم لظلم الإقطاع وتسلطه حلت المشكلة الموجودة ، وكان التعاون المصلحي المشترك ، حيث التقت وتلاقت مصالح البرجوازية مالكة رأس المال والآلة مع مصلحة الكادحون والعمال في إلغاء الإقطاع ، فكانت أن بذرت بذور الدولة الحديثة في أوروبا وتبعاتها .
ما سبق كان أمثلة على نتاج الفكر البشري والأمثلة التي ذكرناها وقلناها هي الماركسية والعلمانية وهي مثال على ما حدث في الغرب من تطورات فكرية إنسانية مهمة ، ساهمت وأسهمت في نهضة ورقي أوروبا .
إن انتقال هذه الأيديولوجيات من الغرب إلى الشرق ، بالتخطيط المتعمد أو بالتأثير الطبيعي قد أدت إلى إحداث مفعولها وتأثيرها على الواقع الشرقي من فرد ومجتمع ودولة .
التأثير المتبادل بين عالمين
إن الأفكار الإنسانية كما أسلفنا وقدمنا ، كانت لحل مشكل ضمن واقع معاش في فترة زمنية معينة ، وقد أدت وعملت أثرها الإيجابي والسلبي معا في مجريات الأمور وواقع الحال ، فالماركسية الاشتراكية التي اكتشفنا فشلها العملي الذريع والشبه تام بانهيار الدول والمنظومات التحالفية التي حاولت تطبيقها وتنفيذها ، وليس الأمر يقتصر على فشل التطبيق والتنفيذ وحسب ، فعندما وصل إلى مراكز القرار والسلطة من آمن واعتقد بالماركسية كأيديولوجية مخلصة ومنهية لمشاكل الإنسانية وكقاعدة للتفكير ، أكتشف عجز النظرية الأولى واكتشف أنها غير منطبقة مع واقع الحال ، فأخذ يغير فيها ويبدل ويعيد بناء المصطلحات والانطلاقات التطبيقية مرات ومرات حتى تبدلت النظرية الأولى بنظريات أخرى لا تشترك مع الأولى إلا بالتسمية والاسم ، وهذا التغيير والتبديل الذي بدأ منذ البداية لم يؤدي إلى شيء من النجاح اللهم ماعدا الانهيار الكبير والعظيم والتآكل الفظيع الذي حصل وجرى لمنظومة الدول الاشتراكية . فاختصارا ما آلت وانتهت إليه الاشتراكية نظريا وعمليا وتاريخيا هو الفشل والموت والنهاية حيث لا يجدي الآن ولا توجد فائدة من حتى النقاش حولها وعنها لأنها بكل بساطة فشلت من هنا وهناك وفي كل مكان بل إنها ملغاة من الذين ظلوا السنين الطوال يحملون شعارها ، واكتشفوا عجزهم عن التطبيق ، فما هو فائدة الشعار المرفوع في ظل عجز وجمود الفكرة عن التنفيذ .
وهذه الماركسية انتقلت إلى الشرق العريق فماذا حدث وماذا جرى عندنا نحن من في الشرق .. جاء أحدهم وهو الشرقي المتغرب بالماركسية يتكلم ويقول هو يريد زراعة شيء في غير أرضه كمن يريد زراعة أشجار الموز في الصحراء الصفراء ، تناسى ونسي شرقينا المتغرب أن وجود الماركسية كان لمشكل في أوروبا والغرب ، وهو كما قلنا وذكرنا : سيطرة البرجوازية على رأس المال والآلة واستغلالهما بذلك للطبقة العاملة الكادحة .. الخ ، فبكل بساطة ووضوح أين هو هذا المشكل في شرقنا ، هل هناك آلة أصلا وعمال . إن الاثنان مفقودان وغير موجودان فكيف هداه التفكير إلى تطبيق وتنفيذ حل على مشكل غير موجود أساسا ؟!!
وأيضا يا ليت شرقينا المتغرب هذا اكتفى بذلك وسكت ، بل أخذ يردد كالببغاء وكآلة التسجيل مصطلحات غريبة وعجيبة على فلاح بسيط أو بدوي راعي بعجرفة وتعالي على الآخرين وبغرور ما بعده غرور ، هو ( شرقينا المتغرب ) يضع نفسه في برج عاجي وعالي ويقول : أنا من يفكر لكم ويضع لكم الحلول تعالوا اتبعوني ، لا يهم أن تفهموني فأنت راعي وهذا فلاح ، وهو يصرخ بهما لماذا لا تفهمون لماذا لا تتبعوني تعالوا كوني نفسي متغربين تعالوا واصعدوا معي في البرج .
وما أعظمه من رد فطري تلقائي يرد فيه هذا الفلاح وذلك البدوي عليه ، حين يقولون : ما بال هذا الإنسان كان في الأمس القريب منا وكان مثلنا ذهب وعاد مسخا لا نعرفه ولا نفهمه يطالبنا بحل مشكل غير موجود بشكل غير مفهوم تعال يا صاحبي ـ يقول الفلاح للراعي أو العكس ـ دعنا نتركه فليس هذا من عرفناه وكان معنا .
ويا ليت شرقينا المتغرب يفهم ويعي ويدرك ، ولكنه يغلق ويقفل عليه باب برجه العاجي ويبدأ الإعادة وتكرار ما هو مكرر وهو في برجه العاجي لا يرى الأرض ولا يريد ولا يرغب بالنزول .
والعلمانية التي أحدثت النهضة في الغرب يأتي ويجيء بها شرقي متغرب آخر إلى الشرق وها هو يخاطب صاحبه في البرج العاجي ويقول له انتظر وسترى ماذا ستفعل العلمنة مالنا وماركسيتك ، ويأتي هو ويقف أمام صديقينا الراعي والفلاح ويتكلم ويقول : حسنا فعلتم إذ لم تسمعوا صاحبي الماركسي ، دعوكم منه فها آنا ذا اسمعوني : إن أساس تحقيق وضمان حدوث التطور والنهضة هنا في الشرق كما في أوروبا والغرب هو أن تتركا وتلفظا هذا الدين كما تركوا ولفظوا هم ذلك الدين ، لأن …………… وقبل أن نسمع شرقينا المتغرب الثاني يكمل كلامه وأقواله نجده يركض تسبق رجلاه الريح ، فها هما يطردانه ويلاحقانه ، بل أنهما يريدان قتله .
إن هذا الذي يقوله ذلك المتغرب يتجاهل حقيقة أن ما يجعل الشرق شرقا هو هذا الدين . نعم صحيح أن الغرب نهض وتطور وانتعش بعد مئات السنين من الظلام والتخلف الشديدين بعد العلمنة ، وصحيح أن العلمنة هناك فجرت الثورة العلمية ، وصحيح أن تطور الأمم والشعوب هناك إلى دول قطرية والى قوى رأسمالية ومن ثم استعمارية جاء بفضل العلمنة التي من غيرها وبدونها كل ذلك لم يكن ليحصل في أوروبا بعد الظلام الدامس للقرون الوسطى ، ولكن واقع الأمور في أوروبا يختلف عن واقع الأمور في الشرق ، إن ما حصل ونشر الظلام والاستبداد والتخلف في أوروبا كان الدين ، لذلك كان استبعاده وإلغائه وإقصائه من الحياة والمجتمع والدولة ، نهض وارتقى بهم وطورهم ، وفي نفس الوقت واقع الأمور في الشرق يختلف ، فما وضع العصا في العجلة في الغرب ، هو ما يحرك ويدفع العجلة في الشرق ، إن من يطور وينهض ويرتقي بالشرق ضمن واقع الأمور وضمن طبيعة هذا الدين وضمن فطرة شعوب المنضوية تحت راية هذا الدين هو نفسه هذا الدين ، فالعلمنة هنا مدمرة وقاتلة وموقفة لحركة المجتمع والدولة نحو التطور والرقي وهي هناك صانعة ومطورة ومحركة .
إذن هذا الدين يختلف عن ذلك الدين ، ما هو دين في الغرب يختلف عن ما هو دين في الشرق ، وهذا الفلاح والراعي لديهما القناعة القلبية الفطرية بذلك وأي محاولة لتغيير واستبدال ذلك مستحيلة إلى حد كبير لأن الناس في الشرق لن يتركوا دينهم كما تركه الغربيون وأبسط دليل تلك الأرجل التي تسابق الريح .
يصرخ الشرقي المتغرب الثاني ما لكم لا تفهمون ولا تعون ما أقول ، ولكن جريه وكلامه يؤديان به إلى نفس البرج العاجي لصاحبنا الشرقي الماركسي المتغرب وهو يطرق الباب عليه ويدخل يجلس معه يتناقشان ويتكلمان لا يسمعهما إلا أنفسهما ، ومن أراد ورغب في دخول البرج معهما لا يشاهدون الأرض ولا تراهم هي أيضا .
القومية الذات المزيفة
إن القومية أي التمسك والدعوة إلى الانتماء إلى عرق وجنس معين وتفضيله والدعوة إلى ارتقائه على باقي الأعراق الإنسانية بناءا على ما يحمله هذا العرق من أصول مشتركة والعيش على أرض واحدة في فترة زمنية امتدت من القديم إلى الحاضر وعلى خلفية وأرضية من القواسم المشتركة .
وأتت وجاءت القومية في الغرب كنتاج للتطور الاجتماعي والسياسي عند نشوء وبروز الدول القطرية في أوروبا ذات الدستور المقنن والمحدد لصلاحيات وسلطات الحاكم والمحكوم ، ونتيجة لهذا البروز والنشوء هناك انتقلت هذه الفكرة طبيعيا بواسطة التأثر الثقافي العادي الذي يحصل أو بتعمد مخطط ومدروس لما تمثله هذه الفكرة من وجود في مكان خارج أوروبا من مصالح وفوائد تخدم هذه الأخيرة ( أوروبا ) وتقدم لها المنفعة.
فلنناقش إذا هذه الفكرة ولنغمض أعيننا عن فكرة وأمر التعمد في النقل مؤقتا ، لكي لا نتهم بأننا نبحث عن شماعة للإلغاء والإقصاء الفكري عن طريق القول بنظرية المؤامرة والتخطيط المسبق للأحداث وثانيا لأننا نريد ونرغب أن نعمل في التفكير والتحليل لهذه الفكرة القومية في حياتنا ومجتمعنا وأيضا لكي نعرف ونفهم محل هذه الكلمة من الإعراب عندنا نحن من في الشرق .
إن القومية قد تأتي وتظهر كنتيجة طبيعية وكحالة ردة فعل متوقعة لمحاولات الإلغاء والسيطرة والاستغلال والتبعية المفروضة على شعب من الشعوب بواسطة ومن قبل شعب آخر أو أمة أخرى.
إن قومية من هذا النوع هي قومية دفاعية وقائية طبيعية مشروعة إلى حد ما ومطلوبة في حدود معينة أيضا وهي تجيء وتأتي رغبة في الحماية والبقاء والاستمرار في الوجود وكل هذا أمر مشروع ، ولكن ماذا يحدث عند فشل ردة الفعل في إيقاف الإلغاء والهيمنة والاستغلال ؟
إن ما يحدث ويحصل هو انتقال القومية من قومية تحررية وقائية طبيعية إلى قومية عنصرية تعصبية شيفونية ، تساوي وتضاهي وتقابل الاستغلال والهيمنة والإلغاء الذي حصل وجرى على الشعب المقهور والمستغل وتحوله إلى شعب يحاول القهر والاستغلال والإلغاء على الآخرين بعد أن كان ذلك يمارس عليه ، وهكذا ندخل في دائرة لا تنتهي فكل ما نصل إليه هو الفرقة والتفرق ، والبقاء متغنين بأمجاد وآثار فارغة ، والبحث عن قديم أمة سحيقة ألغاها التاريخ ونساها الناس لنقول نحن كنا هنا نحن ننتمي إلى هنا إلى هذه الآثار والآخرين يقولون نفس الكلام ، عن آثار موجودة في أرضهم وهكذا الكل يدخل إلى دائرة لا تنتهي ولا تتوقف من أقوال وأفعال لا تفيد بل تضر ومن تباهي وافتخار وفخر زائف وخائب .
إن تحول الإنسان إلى كائن يلغي الآخرين الذين هم إخوانه ورفقائه في الإنسانية وتفضيل نفسه وعرقه عليهم ، وبالمقابل وبالموازي هم أيضا يفضلون أنفسهم وأعراقهم عليه ، وهكذا بدورة لا تنتهي كالإعصار المدمر يبدأ صغيرا وينتهي كبيرا يدمر ويحطم كل شيء في طريقه .
إن هذه الدورة المجنونة تفضي بالبشر إلى إلغاء إنسانيتهم وضمائرهم والى تحولهم لعناصر في الغابة بلا رحمة أو شفقة ، تحاول أن تلغي وتشطب الآخر لأسباب تفاضلية متبادلة بين الطرفين هي بقمة السخف والسخافة ، وما هي كمحصلة وناتج نهائي إلا شطب لإنسانية الإنسان من داخل شعوره ووجدانه وأحاسيسه واستبدالها بالمصلحة والمنفعة القومية العرقية ، والذوبان في آثار ماضي سحيق لا يهم الشعوب والناس ، بل يهم فقط من هم يدرسون وحدهم ويتناقشون فيما سمي حضارات الماضي القديم ، وهم المتخصصون والأكاديميون المنظرون والمتكلمون بالقومية ، أو المهتمين حقا بالآثار كالآثار فيما يتعلق بجوانب تخصصهم الدراسي وحسب .
هذا ما كان يتعلق بالقومية من ناحية فكرية نظرية.
فلننتقل الآن إلى نقاش وتحليل الواقع العملي ولننظر إلى أمر التعمد في نقل وانتقال الفكرة القومية من الغرب إلى الشرق .
إن القوى الاستعمارية الإمبريالية الناشئة في الغرب نتيجة لبروز الآلة والعلمنة وانتقال الرأسمالية البرجوازية إلى مرتبة الإمبريالية الباحثة والمنقبة عن مصادر الثروة وأسواق جديدة للاستهلاك ، هذا البحث والتنقيب يتلخص في كلمة واحدة وهي مصلحة الاستعمار الإمبريالي الغربي في الشرق .
إن الإمبريالية لديها مصلحة وحاجة فيما لدينا نحن من في الشرق هذه المصلحة والرغبة واجهتها وتصدت لها وقاومتها الخلافة والدولة العثمانية الدينية الإعلان ، وهذه الدولة كقوة دولية وقطب دولي أممي عظيم ومسيطر آنذاك وفي ذلك الوقت ، كان يمثل عقبة وحجر عثرة أساسي أمام المصالح الاستعمارية الإمبريالية الملحة في السيطرة .
فحدث التخطيط والتفكير ومن ثم العمل على تنفيذ وتطبيق الأفكار والخطط المقررة والمكتوبة لتدمير العقبة والصخرة .
إن هذا التفكير الاستعماري استنتج وخلص إلى أن ما يجعل هذا الشرق قويا هو هذا الدين ، وما يربط ويقوي ويعمل على استمرار هذه العقبة والصخرة هو اسم الدين (1) .
هذا الاسم كان ما يجمع ويوحد بين الأمم والشعوب والأعراق المختلفة والمتنوعة والمختلطة المكونين والصانعين للعقبة والصخرة .
إن اسم الدين كان كافيا لتوحيد كل هؤلاء في كيان سياسي واجتماعي واحد يمثل كتلة سياسية قطبية دولية مسيطرة فارضة لاحترامها وعزتها وكبريائها بين الآخرين وهذا كله جاء وأتى باسم الدين وليس الدين !
إن اسم الدين كان ذات وشخصية الأمم الشرقية ، كان روحها وهو ما كان يصنع ويخلق شخصيتها وذاتها وكرامتها ، وهو اسم الدين ما كان يجعلهم أمة واحدة مع أنهم أمم مختلفة ومتنوعة عرقيا ولكنهم واحد ومتوحدين دينيا .
إن الغرب كان بحاجة إلى إلغاء وإضعاف وقتل هذا الدين لتضيع الشخصية والذات والكرامة لكي يستبدلوا الذات والشخصية الشرقية إلى خواء وفراغ ، وهذا ما كان مطلوب ومرغوب حدوثه ووجوده لدى الشرقيين ، هذا ما كان الغرب يريده ويرغبه لكي يفرض نموذجه الفكري الذي يخدم مصالحه وأغراضه في المنطقة في تحوله إلى سوق استهلاكي كبير لما يصنعه هو ، والى منبع ومنجم للمواد الأولية يستغلها ويستفيد منها هو أيضا ليغذي بها آلته الصناعية والاقتصادية .
وكان الإلغاء والقتل للدين عن طريق وبواسطة بث والعمل على نشر النعرة وبذرة الطورانية التركية في قلب وباطن الصخرة والعقبة ، وهذه البذرة ما إن انتقلت حتى ترعرعت وكبرت ونمت وتفجرت قومية شيفونية عنصرية طورانية تركية تنادي بالتركي وباستغلال الآخرين لمصلحته ومنفعته ، فكانت أن حدثت ردة الفعل الطبيعية الوقائية ، فأصبحت هناك القومية العربية والكردية وقام الجميع الترك والكرد والعرب بدخول الدائرة التي لا تنتهي بل فقط تكبر وتتسع ، ومع هذا الكبر والاتساع هي تدمر وتحطم ، فكان أن تدمرت وتحطمت الصخرة والعقبة ودخل الاستعمار الإمبريالي بكل ثقله ووزنه مع مصالحه وتطلعاته المنفعية إلى الشرق .
ولكن أين الدين ؟ لماذا لم يصمد ويتحمل ويقاوم و ينتصر ؟
إن الدين انهزم لأنه لم يكن دينا بل اسما للدين ، إن ما كان موجودا لم يكن الدين بل كان الاسم والشعار الديني الذي لم يستطع الصمود والوقوف أمام الفكرة القومية التي دمرته وحطمته .
إن القومية أقوى من اسم الدين الضعيف المهزوز ، إن اسم الدين ذاتي التدمير لنفسه عند المواجهة الفكرية لأن أسس الدين وما يجعله قويا وصامدا ليس الشعار والاسم فقط ، إن هناك ما نطلق عليه مثلث الدين ، يجب وجوده وحضوره إذا أردنا ورغبنا بالدين وليس الاسم والشعار فقط .
مثلث الدين
إن الدين باعتقادي يتكون ويتشكل من ثلاثة أضلع رئيسية وأساسية ، تكون بمجموعها واتحادها مثلثا للدين ، وتتكون الأضلاع من شعار وفكر وحركة ، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة يشكل ويكون ضلعا من أضلاع مثلث الدين ، هذا المثلث بتواجده ووجوده الثلاثي الأضلاع يشكل ويصنع الدين الحقيقي والأصيل وهذا المثلث يشترط في وجوده عدم التناقض والتقاء بين الثلاثة ( الشعار والفكر والحركة ) وهو يتطلب ويشترط الانسجام والتوافق والتناغم بين الثلاثة ، وأي تناقض وتعارض وعكسية بين هؤلاء الثلاثة تلغي وتشطب فكرة إسلامية المنهج ومحمدية المنهج والخط .
إن وجود المثلث الديني يلتزم ويشترط وجود شرط ومبدأ أساسي آخر أيضا ، وهو الإيمان والقبول بحرية الاختلاف والتعددية في الأضلع الثلاثة من المثلث ، فعظمة الإسلام هي بالسماح بالاختلاف والتعايش معه بقبول الأخر لا برفضه ، بالاستماع إليه لا بإسكاته ، بالتواجد الفكري وليس بالإلغاء الفكري والشمولية الأيديولوجية الواحدة واليتيمة .
إن أي شخص يقول باتباع المثلث الإسلامي يجب عليه القبول باختلاف المثلث من شعار وفكر وحركة وعليه أيضا أن يقول بجماعة من المسلمين وليس أن يقول بجماعة المسلمين ، أي أن ليس لأحد التصريح والقول بأنه هو جماعة المسلمين وأنه ممثل الإسلام والفهم الوحيد له ، ويجب عليه الاعتراف بثبات ووحدة الإسلام وأيضا بتعدد فهم هذه الوحدة .
إن هناك تعددا واختلافا بفهم هذه الوحدة وهذا الدين الثابت المقدس المقبول والمتفق على ثباته ووحدته من الجميع . نعم الجميع يقبل الدين والكل إسلامي لأن الجميع بكل بساطة ووضوح مسلمين ، ولكن لا يجب ولا يجوز فرض وتطبيق فهم وشرح واحد يتيم ووحيد للإسلام والدين .
إن ما يجب علينا أن نعرفه ونعيه أن الإسلام في إحدى جوانب عظمته وقوته ، تكمن وتوجد في قبوله وموافقته على وجود الأديان التي تلغيه وتمنعه من الوجود كدين ولا تعترف به .
إن الإسلام يقبل ويوافق بل يأمر باحترام وقبول تواجد الأديان الأخرى اللاغية والرافضة له ، إن قوة دين محمد وعظمته في إحدى جوانبها توجد هنا في النقطة السابقة ، لأنه دين نقاش وحوار وقناعة ودين قبول الآخر ودين يثق بذاته وبقدسيته ويثق بالأفراد (ذكورا أم إناثا ) دين يعطي للفرد المثلث ، ومن ثم الفرد يختار اتجاه ووجهة سيره من دون وصاية بشرية أو تحريك فوقي علوي آلي .
إن من يعمل ويجاهد على إلغاء الآخر هو الضعيف والواهن وليس القوي المنيع ، لأنه من الضعف والوهن تتفجر وتخرج الرغبة في عدم القبول ورفض الآخر .
إذن على قاعدة القبول بالآخر وبالتعددية والأيديولوجية يجلس ويرتكز مثلث الدين ، وبالشعار والفكر والحركة يستوي الدين دينا .
إن رفع والقول بالشعار ثم وجود الفكر الصانع للذات والشخصية والكرامة للفرد ذكرا كان أم أنثى ، يكون هذا الفكر هو الوقود والمحرك والدافع والمحفز نحو الحركة التي تكون وتوجد بتطبيق وتنفيذ الفكر على الواقع والمحيط الاجتماعي بجوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فحسب الظروف والحاجة تتكون وتتشكل الحركة التي تبدأ بالاختيار .
الاختيار
إن الفرد يختار هو بإرادته يختار حركته ومسيرته ، هو الذي يقرر لا يفرض عليه شيء ولا يرغم على أمر ولا يغصب على ما لا يريده ، هو لديه الفكر من خلاله وبواسطته هو يفكر يحلل يناقش ضمن وحسب معطيات الواقع المحيط وظروفه ومن ثم يكون اختياره فيبدأ الحركة والمسير .
وهنا تكمن فلسفة الخلق ، الاختيار بالإرادة ، وهنا كان الابتلاء والامتحان الإلهي للإنسان وهنا يكون المحك والمنعطف في صناعة المستقبل الاخروي للفرد .
إذن الدين يكون بالمثلث ووجود أحد أضلاع المثلث ليس دينا بل هو جزء ناقص من الدين وليس دينا .
إذن كان هناك اسما للدين موحدا وجامعا للشعوب المختلفة والمتعددة ، هذا الاسم جمع وربط هؤلاء ولكنه فشل ولم يصمد أمام الأيديولوجية القومية ، فانهدم وتدمرت معه الصخرة والعقبة أمام الاستعمار .
ولكن أين كان الفكر والحركة ؟ وهما الثنائي الباقي من مثلث الدين ، أين ذهبا ؟ هل اختفيا و تلاشيا ، وان وجدا ، ماذا فعلا وعملا ؟
الأيديولوجية في الدين
إن ما هو فكر وأيديولوجية في الدين ينطلق ويستخرج من أيديولوجية وفكر ثابت مقدس لا يتغير ، وهو المقدس ( القرآن والسنة والعقل ) إن هذا الثبات المستمر والدائم نستطيع أن نعبر عنه بالأيديولوجية الثابتة أو الفكر الثابت ، ومن هذا الفكر الثابت نحن نستخرج ونخرج الأيديولوجية الشاملة الكاملة ، وهو فهم للدين نأتي به من الثوابت الدائمة المستمرة .
إن هذا الفهم متغير باختلاف الظروف الزمانية والمكانية والأمور المحيطة حول الثابت ، إذن فهم الدين متعدد ومختلف ومتغير وغير مقدس وبشري ، أما ثوابت الدين فهي واحدة ومقدسة وإلهية علوية .
إذن في فهم الدين يكمن ويوجد السر في أي انحراف وفي عدم توافق وتناقض الفهم المستخرج مع الواقع ، أي عندما يكون فهم الدين مستخرج ضد حركة الواقع والمجتمع الحالية والآنية يمكننا أن نقول : أن هناك خلل في طريقة ووسيلة الفهم للدين ، وهذا الخلل والخطأ يسبب الضدية والتعاكس للواقع الحادث والحاصل عند تطبيق الفهم الديني على المجتمع والناس فيكون الانحراف الذي باستمراره يكون النخر والتهالك والعطب الذي يبدأ صغيرا وسرعان ما ينتشر ويتوزع ويكبر في جسد المجتمع .
إن الانحراف في الفهم خلق وصنع أيديولوجية شاملة (2) غير متوافقة وغير متناغمة مع الحياة ومتطلباتها وحاجياتها، هذا كله يضاف إليه الإصرار المزمن المتحجر من الجهلة والساذجين أتباع القديم على قدسية الفهم ، فكان هناك تصميم على استمرار التطبيق والتنفيذ مما كان يؤدي إلى تعطيل وإيقاف حركة المجتمع نحو التطور والرقي ، ويؤدي كذلك إلى حدوث وإحداث ركود وجمود كبير وعظيم في المجالات المختلفة من الحياة وفي نفس الوقت كانت العلمنة والبرجوازية المتطورة إلى قوة رأسمال استعمارية تشق وتخط طريقها إلى مصالحها وغاياتها إلى السيطرة والهيمنة ، فكان هناك تخطيط لضرب الشرق الإسلامي صاحب الخلل في المثلث الديني في الفكر والحركة المنحرفان والمزيفان كنتيجة طبيعية وحتمية لفساد وسائل استخراج الأيديولوجية المتغيرة ، والخلل في قواعد التفكير مما أنتج وصنع فكر فاسد منحرف قاتل للمجتمع وحركته للتقدم .
فما إن بزغت وبثت القومية العرقية حتى انهدم وسقط الدين المنحرف المزيف وعجز وفشل في الصمود والمقاومة فتحطمت الصخرة ودخل الاستعمار ليهيمن وليسيطر وليفرض شروطه وليحقق مصالحه ولكي يستغل ويمص دم هذا الشرق المسكين .
إن قيمة ووزن أي فكر وأيديولوجية في هذا العالم تكون عن طريق القدرة على التطبيق ، فقابلية ومرونة وكيفية تنفيذ الفكر على الأرض هو الامتحان الحقيقي والاختبار المثبت والمحقق لفائدة وجود الأيديولوجية التي إما أن تكون مع حركة الواقع أو تكون متعاكسة ومتضادة معها .
إذن نحن لدينا فرد ومجتمع مع آليات ونظم مؤسسية يدخل إليها الفرد ويمارس فيها نشاطاته وأموره العامة والشخصية .
إن الفرد هو الوحدة البنائية الأساسية للمجتمع وقل أيضا المجموع ، فالأفراد يصنعون المجتمع أو المجموع ، فإذا تم كسب الفرد حققنا استهداف المجتمع والمجموع ولكن كيف يتم ذلك ؟ وبأية طريقة ؟
بين الكامل والهدف
إن الوقت في حياة الفرد البشري شيء مستمر حدوثه ، فالوقت مستمر ولا يعود إلى الوراء وهو دائما يقفز إلى الأمام ، ونحن البشر المكونون لهذا المجتمع نعيش بين أجوائه ونحن نلاحظ ونلمس استمرار وعدم توقف الزمان ، فهو دائما إلى الأمام بانتظام ، فأين نحن من هذا التقدم المستمر المنتظم ، فهل نحن نتقدم كما هو يتقدم ؟ وما هو مفهوم التقدم لدينا ؟ هل نحن نتقهقر ونتراجع ؟
جرى العرف واصطلح على تعريف التقدمية على أنها اتباع النهج الثوري في التغيير والابتعاد عن النظم التقليدية الموصوفة باليمينية والرجعية في حين تصف القوى التقدمية نفسها باليسار .
ولكن هذا العرف والعادة في الاصطلاح السائدة في تعريف التقدمية والرجعية ، ولكن ما نريد تعريفه على أنه رجعية أو تقدمية ليس له علاقة إطلاقا بالتعريفات والمفاهيم السائدة والمعروفة مسبقا .
التقدمية والرجعية حسب مفهومنا وفهمنا
أولا : الرجعية
إن الرجعية عندنا هو ذلك الاتجاه والاندفاع إلى تحقيق منافع ومصالح الفرد من غير النظر إلى الجانب الضمائري والأخلاقي ، فهنا المصلحة وأنانية الفرد طاغية ومهيمنة ومسيطرة على الفعل والقرار وهذا يتم بدون الرجوع إلى الأيديولوجية الشاملة التي يتم الغاؤها من التطبيق في هذا الوضع ، ويكون الفكر هنا هو ما يخدم ويصنع الاتجاه المصلحي الصرف ، ونستطيع الاختصار بالقول ، أنه هنا تكون الغاية تبرر الوسيلة بشكل صارخ بعيد عن أي قيم وأخلاقيات .
إن الرجعية هنا تركز على تحقيق الجانب المادي من الفرد في أقصى جوانبها فهي اتجاه واندفاع إلى الماديات واللذائذ الغرائزية بقوة شديدة ، أي هنا يكون الإنسان في نقطة تبعده عن الجانب الروحاني من ذاته وهي تمثل نقيض التقدمية .
ثانيا : التقدمية
إن التقدمية حسب تعريفنا وفهمنا الخاص للكلمة ، هي السعي إلى الكمال عن طريق وبواسطة وجود الإنسان في حالة تكامل مستمرة ، ويكون هو بتلك الحالة باختياره ورغبته وهذا الوجود المستمر يدفع الإنسان إلى الكمال الذي ينشده ويرغبه ويسعى إليه ويحاول الوصول إليه ، يوضع نفسه في حالة تكامل للوصول إلى الكامل والكمال .
إن ما يحقق ويخلق ويصنع الاختيار والرغبة بذلك هي الأيديولوجية الشاملة ، مع الفطرة الإنسانية السليمة اللذان يدفعان ويحفزان الفرد نحو التكامل والسعي إلى الكمال وهذا يتم ويكون بالإرادة والاختيار الذاتي الحر .
إن الإنسان يشعر دائما بحالة من النقص الروحي ، ويحس أنه منتزع ومخلوع من شيء أكبر لا متناهي وغير محدود بحدود أو نهاية ، وهو لذلك في حالة ضياع وعدم استقرار وهو يسعى ويريد العودة إلى الأكبر اللامتناهي ليعوض ما به من نقص وحالة ضياع ، وهذه العودة تكون بمحاولة التكامل عند تطبيق وتنفيذ الأيديولوجية الشاملة ، وهي الدافع والحافز والوقود إلى السعي والرغبة إلى التكامل ، وبعبارة أخرى إن وجود الإنسان في حالة تكامل هو تنفيذ وتطبيق لنصوص الأيديولوجية الشاملة أي بما هو فكر نصنع ونخلق الحركة ، و لأننا نريد السعي إلى التكامل والى شيء كامل لا متناهي فنحن لذلك يجب أن نضيف صفة أخرى على شمول الفكر وهو كمال الأيديولوجيا .
إن من هي أيديولوجيا شاملة يجب أن تكون أيديولوجيا كاملة في نفس الوقت .
إن هذا الشمول والكمال هو الضامن والكافل للتكامل الصحيح والحقيقي للإنسان ، هو ما يضمن راحة الضمير والنفس بأننا نسير في الطريق السليم وعلى الوجهة والاتجاه الصحيح .
إذن إذا كان الهدف كاملا فان الوسيلة والدافع والمحفز إلى الهدف اللامتناهي واللامحدود يجب عليها أن تكون كاملة . فإذن هناك تطابق وتلاحم وانصهار بين الاثنين ، الوسيلة (3) والهدف .
وبما أن الهدف هو الخالق لنا ولما حولنا ، هل على الوسيلة أن تكون خالقا آخر ورب جديد ؟ بالطبع لا.
إذن هل نحن أمام حالة لإلغاء وشطب كل ما ذكرناه وقلناه سابقا ! هل كل ما كتبناه يتناقض ويتعاكس ويلغي بذلك بعضه بعضا ، فإذن هو هراء .. أيضا لا .
إن الأمر ليس كذلك ولن يكون هكذا ، نحن لا نؤمن ولا نعتقد بذلك .
إن ما نؤمن به ونعتقده هو أن الحاجة إلى أيديولوجية شاملة كاملة شيء ضروري وحيوي ولازم لأي إنسان ، فبها تكون الحركة والمسير إلى الكمال وبدونها يكون الضياع والشتات والتوهان .
بناءا عليه وتأسيسا على ما سبق : هذه الحاجة الضرورية والحيوية واللازمة يجب أن توجد وتنفذ ، ولكن كيف ؟ إذا لن نستطيع بطبيعة الحال والأمر والمنطق أن نجد خالقين اثنين يعطونا الكمال في الوسيلة والهدف .
إن الهدف اللامتناهي واللامحدود أوجد لنا رمزا وقدوة يحمل الوسيلة في ذاته هو ، وهذا الرمز والقدوة والمثل الحامل للوسيلة ليس إلها بل هو إنسان ولكنه مختلف عن البقية ، هو كامل لأنه يحمل الوسيلة ، انه يعرف ويلم بالأيديولوجية الشاملة الكاملة لقد أعطاها له الهدف وقدمها له .
إن هذا الإنسان أصبح كاملا لأنه بعد معرفته وإلمامه بالأيديولوجيا طبقها ونفذها وأقامها على نفسه وشخصه وكان ذلك بإرادته وباختياره الحر ، فأصبح كاملا ولكنه ليس إلها هو إنسان كامل .
إن هذا الكمال البشري هيأه ورفعه ليكون هو قدوة ورمزا ومثالا للبقية وللآخرين ، لقد أصبح قائدا للبشرية (4) التي باتجاهها وتوجهها إلى القائد الرمز القدوة الإنسان الكامل ومحاولتها تقليد وإعادة تنفيذ وتطبيق ما طبقه ونفذه هو ، تكون بذلك ساعية إلى الكمال وتصبح هي بموضع التكامل باختيارها وإرادتها الحرة النابعة من الذات.
إن وجود قائد ومنقادون شيء مهم لأنه بذلك نستطيع إلغاء الأمور والأشياء المتوارثة من القديم التي تتعارض ولا تتماشى مع الأيديولوجية الشاملة . والقائد عندما يقوم بإلغاء المتوارث من العادات والتصرفات بأفعاله وأقواله يكون قدوة ومحفز للآخرين على فعل وأداء ما يفعله ويقوله .
إن على الاثنين ( القائد والمنقاد ) الاختيار ، هم الاثنان بإرادتهما يقرران نوع الاختيار ، لقد وضعهما الهدف في امتحان واختبار فقد قدم لهما الإرادة والاختيار ، فمن يتكامل فقد أفلح وانتصر ومن تعاكس وتضاد في الاتجاه والتوجه فقد خسر .
إن الهدف قد وضع جائزة لهما وهذه الجائزة هما يحددان ماهيتها ونوعيتها بماهية ونوعية الاختيار الذي يرغبان اتخاذه بإرادتهما ، فهل يتجهان إلى النقص المادي الغريزي الطيني ، أم إلى الإلهي النوراني ، هذا الاختبار والامتحان قد وقعت به وخاضته كل البشرية في الماضي ونواجهه نحن في الحاضر المعاش وسيقابله الآخرون في المستقبل المنظور والمرتقب .
ماذا حدث وجرى ؟
إن ما جرى وحدث بعد انتهاء وانقضاء الفترة النبوية المحمدية من اختلاف وتنوع قواعد استخراج الفهم الديني البشري من الثوابت الإلهية المقدسة ، بل إضافة ثابت عند مجموعة وإلغاء ثابت من مجموعة أخرى أدى إلى إحداث ووجود نوع من الانحراف وبداية للخلل في الفهم الديني الغير مقدس والمتغير بتغير واختلاف المراحل الزمانية ، وعندما قامت نظم سياسية أو اجتماعية أو تنظيمية بتبني ودعم أحد هذه الأنواع من قواعد التفكير والاستخراج الفهمي المنحرفة والمتخلفة على حساب قواعد أخرى سليمة وصحيحة ، عندما وافقت وتطابقت مصالح ومنافع معينة مع هذه القواعد والنظم الاستخراجية الغير سليمة والخاطئة ، أدى هذا إلى زيادة وكبر درجة الانحراف في الفهم ، وكلما تقدم الزمن ازداد الانحراف وبعد عن تحقيق المراد وما هو المطلوب تحقيقه في التوافق المفروض مع حركة الواقع والمجتمع بواسطة الفهم المستخرج المتناسق .
ومع الكبت الواقع والحاصل على الآليات الاستخراجية الأخرى منحرفة كانت أو سليمة ، ومع استمرار النظم السياسية أو الاجتماعية أو التنظيمية ، الأقوى والأكبر والأكثر في السيطرة على مقدرات الأمور وعلى اختيار كيفية الفهم الديني ، أصبح الفهم الديني لمرحلة آنية وقتية مؤقتة ، الخاص بمرحلة وفترة معينة ثابتا ومقدسا دينيا .
شيئا فشيئا تم إحداث نوع من القدسية لآلية الاستخراج والفهم وقواعد التفكير المفروضة فرضا وبالقوة ، ونوع آخر من قدسية للفهم المنحرف المستخرج من آلية خاطئة وغير سليمة أيضا .
واستمر هذا الوضع طويلا حتى تحول الدين إلى شيء ضعيف شكلي يحمل الاسم فقط ، انهار وتدمر مع بوادر الاحتكاك والمواجهة الفكرية مع العالم الغربي الاستعماري الإمبريالي .
إن دين شكلي من هذا النوع هو ما نطلق عليه نحن ( دين .. نعم .. ) . هذا الدين جاء وأتى واستمر وفشل ولكنه موجود إلى الآن وينادي البعض من دعاته بإعادة التبني له والأخذ منه بنظرة تعود للماضي ، وتصدق إعلاميات التاريخ الرسمي الذي خلقه وصنعه عملاء ومرتزقة ، النظم التي أجبرت المجتمع بقوة الأمر والفرض على آليات استخراج خاطئة ومنحرفة ، خدمة لمصالحها ورغباتها ، هم يصدقون ذلك الإعلام الرسمي القديم ويعتبرونه حقيقة حصلت وحدثت ، مع أن التحليل العلمي والمنطقي لمجريات الأمور يوضح أن كل ذلك ما هو إلا كذبة كبيرة لم تكن موجودة في الماضي .
إن من يدعون إلى عودة من هذا النوع لا يشاهدون الماضي بعينين اثنين ، بل بعين عوراء واحدة ، ما يرغبون بتصديقه حسب هواهم ورغباتهم البعيدة كل البعد عن الحقيقة المؤلمة ، وهي أن ما يقرؤونه في كتب التاريخ مليء بكتابات الإعلام الرسمي القديم الصانعة لواقع مغلوط ومزيف عن حقيقة الأوضاع في الماضي ، مع أن كتب التاريخ المعارضة والمناهضة للإعلام الرسمي القديم موجودة ومتوافرة ، ولكنهم يظلون يفضلون القراءة والتحليل والمناقشة بعين عوراء وواحدة فقط لا غير .
إن الصحة والانحراف نستطيع أن نشبهما ونمثلهما بخطين متوازيين ينطلقان من نقطة واحدة وهي ثوابت الدين المقدسة .
إن هذين الخطين لكل منهما آليات وقواعد لاستخراج الفكر الوقتي اللحظي المختلف عن الآخر ، وفي بداية الخطين يكونان عند النقطة أكثر قربا والتصاقا لبعضهما ، ولكن مع وجود انحراف وميل لأحدهما ، فهذا الخط المنحرف يبتعد شيئا وشيئا عن الخط الآخر السليم والصحيح ومع مرور الوقت والزمن يصبح البعد والافتراق كبيرا وشاسعا وواسعا حيث يلاحظ ويشاهد الجميع والكل المسافة التي تفصل بين الخطين كم ازدادت وكبرت.
إذن في النهاية يظهر الاختلاف ، ويصبح أحد الخطين ضد حركة الواقع والحياة والثاني مع حركة الواقع والحياة .
بناءا على ذلك الدعوة إلى العودة إلى دين ( نعم ) خطأ فادح سيؤدي إلى كوارث ومصائب وفشل ذريع وعظيم عند التطبيق وستقسم هذه الدعوة إلى دين ( نعم ) الناس إلى قسمين : الأول رافض للدين كل الدين ، والثاني يقول بالعودة إلى الدين مهما كانت النتائج والعواقب معتبرا العودة إلى ما يظنه ويتخيله دين ، وما يختلط لديه من قدسية للفهم المنحرف هو الحل .
إن القسم الثاني ينادي بالرجعة إلى الماضي (5) والقسم الأول يرفض الدين كل الدين ، وهو بصراحة يدعو إلى الاستسلام والانهزام الفكري والأيديولوجي أمام الغرب وهو يدعو إلى الاستغراب .
فما هو الحل والطريق إذن ؟ والى أي قسم نتجه ونتوجه ، إلى أي اختيار ننحاز ؟
إن ما يجب إحداثه وتفعيله والدعوة له هو العودة إلى الدين ، ولكن ليس أي دين ، ليس إلى دين ( نعم ) ، يجب العودة إلى دين ( لا ) .
دين ( لا ) مع آليات الاستخراج وقواعد الفهم الديني السليم والصحيح للثوابت المقدسة ، هو المخرج والطريق السليم للعودة إلى الذات الحقيقية والى الدين الحقيقي لما يجب عليه أن يكون .
إن لا هي قاتلة لنعم ، لأنها مع حركة الواقع ماديا وروحيا ، هي من تلبي الحاجات وتحقق المطالب وتصنع المستقبل وتقرأ الماضي بصورة سليمة .
إن العودة إلى قاعدة فهم وآلية استخراج سليمة وغير منحرفة سيولد وسينتج لنا مفاهيم وفهم متعدد وكثير للدين وذلك يكون عن طريق تنوع المدارك والقدرات العقلية والذهنية للاستخراج ، ولكن يكمن ويوجد الفرق في أن عند سلامة وصحة الآلية نحن نضمن سلامة وصحة الفهم مما سيؤدي إلى تطابق الإفهام المتعددة مع حركة الواقع والحياة والدفع بها إلى الأمام .
ونحن نرى في هذه الناحية أن نطرح الفرق بين لا و نعم بإعطاء مثال على الفرق بين الفهمين للدين .
لا ونعم في موضوع المرأة
إن ركيزة عمل أي حركة وأي فكر مغلق يرتكز على العامل الاجتماعي كأساس لفهم وشرح ما هو دين هي المرأة .
ولماذا هي دائما وأبدا لدى هؤلاء ؟ لأنها بكل بساطة الأضعف والأهش في المجتمع ، مضطهدة ومظلومة دائما ، ولأنها في نفس الوقت بتحررها (6) يتحرر المجتمع ويندفع ويتحرك في الاتجاهات والمسارات السليمة .
إذن نخن أمام معادلة تنص على ما يلي : هاجم المرأة فلن تخسر وتفقد شيئا لأنها مظلومة ظلما دائما بشكل أصبح معه هذا الشيء طبيعيا ومطلوبا في العرف الاجتماعي والعادات والتقاليد السخيفة والبالية ، في حين أنه يجب أن يندرج ويوضع هذا الظلم والاستحقار الاجتماعي في خانة وراية اللاطبيعي .
إن المرأة في ظل وعند دين ( نعم ) ، تعيش في ظل حالة من التداخل والاندماج الكبير والواسع بين الاجتماعي بالديني ، بين ما يرضي المفاهيم المجتمعية والنظرة والرؤية المتوارثة للمرأة كمرآة وبين دين ( نعم ) .
إن هذا الامتزاج والاندماج جاء نتيجة أن بعض آليات وقواعد الفهم والاستخراج الديني المنحرفة والخاطئة تم تبنيها من قبل بعض السلط والنخب ، وكانت تستخدم هذه الآليات في التبرير الديني لأفعالها وممارساتها ومواقفها أمام العامة من الناس .
ومن ناحية أخرى قامت هذه النخب والسلط بتقديم وتبرير ما يرضي ويقبله الناس ويتفق مع موروثاتهم الاجتماعية القديمة ، ومن هذا الموروث الاجتماعي الأشياء والأمور التي تتعلق بموضوع المرأة ودورها في المجتمع ، وهذا ما تناقلته الأجيال كفهم ديني بشري مصلحي قدم منذ آنذاك إلى الآن على أنه الفهم الصحيح والمقدس لموضوع المرأة وهذا ما كان دين ( نعم ) يورثه ويقدمه للأجيال جيلا بعد جيل .
إن من تبنى ودعم دين ( نعم ) استخدم آلية الفهم المنحرفة لتبرير أفعاله ومواقفه ، وفي نفس الوقت أعطى القدسية والتبرير الإلهي المزيف من خلال نفس الآلية المنحرفة لعادات اجتماعية ورغبات مجتمعية أنانية وضيقة النظر والتفكير وجامدة الذهن تتعلق وترتبط بإنسانة حرة وهي المرأة ، أراد إنسان آخر استعبادها وتقييدها وهو الرجل .
فلنأخذ هنا رأي ما هو دين لنعم وما هو رأي لدين ( لا ) ونقارن بين الفهمين والاستخراجين في جزئية خصوصية تتعلق بالمرأة بشكل محدد لنعطي رأينا السابق مثالا يكون معه التوضيح أفضل وأوضح لما نريد إيصاله وطرحه
الحجاب بين دينين
في فهم دين ( نعم ) الحجاب هو أداة لرجوع الأنثى وبقائها قدر الإمكان في دائرة المنزل وحصرها وتقييدها في محيط الأسرة ، أي أن تحركاتها وتفاعلها وقدراتها تكون بيتية صرفة وخالصة ، تخدم وتساهم في كل شيء يتعلق ويتضمن دائرة الأسرة والبيت ، وهو ما يؤدي إلى فصل وانسلاخ يكاد يكون شبه تام للمرأة عن المجتمع وعن دورها الفطري المطلوب كإنسانة حرة ذات قدرات وإمكانات في القيام بالدورين الأسري الداخلي والمجتمعي الخارجي .
إن حجاب للحصار والانغلاق في داخل محيط ودائرة ضيقة تكون فيه هذه الانسانة الحرة شيء من الدرجة الثانية بعد الرجل والأسرة هو ما يقدمه ويعرضه دين ( نعم ) ، حجاب لإبعاد الذباب عن طبق الحلوى !!! حجاب للاستحقار ، حجاب للنظرة الدونية البهيمية الغرائزية القحة ، لإنسانة خلقها الله حرة واستعبدها الناس باسم الدين المزيف الاجتماعي المبرر للرغبات والأهواء المتوارثة منذ القدم ، والمرغوب باستمرارها ووجودها من أصحاب وحملة دين ( نعم ) .
وفي نظر دين وفهم دين ( لا ) ، الحجاب هو تشريع وضع للإفادة وليس للضرر ، للانطلاق والحرية وليس للاستعباد والقهر الاجتماعي ، للحركة والتحرك وليس الوقوف .
في حالة حجاب ( لا ) يكون هو أداة ووسيلة عازلة للأنوثة الموجودة في المجتمع وليس لاغيا للأنوثة بطبيعة الحال ، وهو عامل يجعل ويحوّل الأنثى إلى فرد متعادل في المجتمع .
فالأنثى بالحجاب ليست ذكرا أو أنثى جاذبة أمام الآخرين والناس ، وليست سالبا أو موجبا وليست عاملا للطرد أو للجذب .
فهي لا تجذب أحدا ولا تطرد وتبعد أحدا عنها ، فهي في حالة متعادلة بين الطرد والجذب ، ولكن لماذا ؟
لكي تشارك في خارج نطاق الأسرة الأصغر إلى دائرة المجتمع الأكبر لتتعلم ولتناقش وتحلل ، ولتشارك الجميع فيما هو حق وضرورة للجميع ، كإنسانة حرة من الدرجة الأولى عليها واجباتها ولها حقوقها الإنسانية والشرعية الضرورية والتي يجب أن تؤديها وتقدمها إلى خالقها ومجتمعها و إلى نفسها .
إن عليها أن تشارك في دائرتها ومحيطها الأكبر المتساوي بالأهمية مع محيطها ودائرتها الأصغر ، وبما أن هذه المشاركة والتفاعل الضروري والحتمي يتم مع ذكور وإناث بطبيعة الحال والأمر الحياتي المفروض على كل من يشارك في حركة المجتمع .
هذه المشاركة المفروضة على الجميع بحكم الواقع تتطلب وتحتاج إلى وجود حالة متعادلة مؤقتة للأنثى بالخصوص من عند الخروج من المحيط الأصغر إلى الأكبر .
وعند الأنثى تعتبر هذه العزلة المؤقتة للأنوثة مطلوبة وضرورية أيضا ، لأن الدين اللائي يريد لمن حولها أن ينظروا إلى روحها ، إلى إنسانيتها ، إليها كفرد وكإنسانة ، إلى أفعالها ومواقفها وأخلاقياتها وضميرها ، إلى الأساس وهو الروح وليس إلى القشرة الجسدية الخارجية الجاذبة والمستقطبة للجنس الآخر ، وهذه القشرة هي عامل إحباط وتقليل من النظرة إلى الروح والأخلاق والضمير والمواقف الشخصية عند المرأة ، هي إيقاف اكتشاف لماهيتها والى ما في داخلها .
إن انعزال الجانب الأنثوي الجاذب بصفة مؤقتة هو دافع إلى المشاركة وليس الانعزال والانحصار في نطاق المنزل .
إن دين ( لا ) يقدم الحجاب كوسيلة للمشاركة الإنسانية للمرأة بقدراتها وإمكانياتها في نطاق خارج المحيط الأصغر ، والحجاب هنا هو للخروج والوصول والاندماج بين المحيطين ( الداخلي والخارجي ) ، ودين ( نعم ) هو لقتل وذبح ولاستحقار إنسانية المرأة ، وهو امتهان وكبت لقدراتها وإمكانياتها في خارج المحيط الأصغر ، وهو للدخول في دائرة الأسرة والبقاء فيها حتى الموت ، وهو لقطع الرابط بين المحيطين الأسرة والمجتمع .
زيادة الكلام في موضوع المرأة
المرأة لأنها النقطة الأضعف في المجتمع يسهل الهجوم عليها ، وفي نفس الوقت يصعب الدفاع عنها ، لأن هذا الدفاع يجر صاحبه ويدفعه إلى الاصطدام والتصادم مع موروث أعطى كذبا وزيفا صفة القداسة ، فهو مقدس عند العامة وقاعدة صلبة في اعتقادهم ، وهذا كله يسبب ضغط قوي وجبار على كل من يريد أن يقول الحقيقة الصادقة الخاصة بالمرأة ، وهذا هو قدر ونصيب أي مفكر ومثقف أراد تغيير ما هو خطأ وإعطاء وتقديم ما هو صواب . وطبعا هناك جزء كبير من المثقفين والمفكرين (7) لا يريدون ويخافون المواجهة لمثل هذا الضغط ، فما بالنا بالأفراد والناس العاديين ، هذا إن اقتنعوا وقبلوا بما هو حقيقة .
إن هذه المشكلة حلها موجود في لغة المجتمع والوقود المحرك له وهو الدين ، فتقديم الحقيقة على أساس ديني هو الحل والطريق لتغيير ما هو كذب وانحراف وتزييف إلى حقيقة وصحة واعتدال ، انه الأمر الإلهي الرباني الموجود في الدين هو ما يدفع الفرد إلى الاطمئنان والراحة على ما يغيره ويبدله من موروث اجتماعي مرتبط بدين ( نعم ) .
هناك من يقنع الجميع أنه أيضا دين ، هذا هو دين ( لا ) الذي يجب أن نستخدمه ضد دين ( نعم ) .
عندما نقدم الدين ضد الدين هنا يكون الحل ، لأن ( لا ) هي قاتلة لنعم ، ولأن ( نعم ) بعيدة ومفترقه عن الواقع والعقل والمنطق فهي متعارضة وغير متوافقة معهم .
إن ( نعم ) هي الأفيون والمخدر المنوم للمرأة ، هي من تجعلها جامدة ساكنة ومتقوقعة داخل المنزل ومعزولة عن الخارج .
دعاة نعم والمرأة
إن الأفيونيون الذي يدعون وينادون إلى دين ( نعم ) هم من حوّل ونقل الدين كل الدين إلى امرأة ، نكاد لا نسمع في خطابات وفكر دعاة ( نعم ) الأفيونيون إلا المرأة وكل ما يتعلق بها من تصرفات وكلام وملبس وأفعال وحركات ، كانت وأصبحت وقامت وفعلت !!
لا نجد من الدين إلا هي ، كيف لا فليس هناك ما يخسره ويفقده هؤلاء ، فحتى المرأة أصبحت مخدرة ولا تحتج ولا تعارض ما يجري لها لأنها مخدوعة قد تندفع وتتحمس لدين مزيف أفيوني .
لقد اضطهدها وحاربها دعاة ( نعم ) ، لقد أخذوا منها حتى دينها المفترض فيه أن يكون ملاذها وحصنها الوحيد الباقي المدافع عنها والحامي لها .
انهم يقولون لها : هذا هو الدين احترمك ، فعالمك هو المنزل !! لقد احترمك فجعلك رمزا للجنس والبهيمية ، وقدرك ، فخلقك وصنعك عاهرة مثارة على الدوام ولكنك تمتنعين وأنت الراغبة ، اصمتي ولا تتكلمي لأنك أنثى ، أنت امرأة ، نعم تكلمي فقط عندما تطلبين وتريدين الجنس لأنه أنت الجنس ، ليس لك روح ، لديك واجبات ولا وجود لحقوق لك لأنه لا عقل لديك ، فنحن من كنا ذكورا نفكر ونقرر ونختار بدلا منك ، وكيف لا ونحن الرجال !!!
وهي المسكينة قد تصدق وتقبل كل ذلك ، بل هي قد تدافع عن كل ذلك بقوة وشراسة ، كيف لا وهو ما يفترض أن يكون دينا !! ولكنها قد تتمرد ولكن على الدين كل الدين بالفهمين المزيف الأفيوني والفهم الحقيقي الميقظ والمنهض .
هي تثور وتتمرد على كل الدين ، من تعتقد أنه حقرها واستحقرها ، من حبسها وأذلها ، من حرمها من الحقوق وأمرها بالواجبات ، هي ترفض الإهانة والاستحقار والذل وهذا بالطبع حقها ، ولكنها ضائعة فأين الطريق ؟ وأين الاتجاه ؟
هي تنسى وتلفظ الشرق مع ذلك الدين وما يقدمونه وما يعطونه لها من ذل ومهانة بواسطة التضليل وتتجه وتتوجه إلى الغرب ، هذا العالم الآخر ، ولكن إلى أي غرب هي تتوجه وتتجه ؟
إن العالم الغربي فيه قسمان ونوعان من أنماط وأنواع الحياة وهما الواقع والخيال ، فما حدث أنها أخذت الخيال وتركت الواقع ، لأن العالم الغربي قدم لها هذا الخيال وأخفى عنها الواقع ، فهو أيضا اضطهدها وحاربها فقدم لها نموذجه الخيالي الاستعماري الإمبريالي ، امرأة الاستهلاك .
هو لا يقدم لها المرأة العاملة العالمة المتفانية الواعية المكافحة ، بل يعطيها ويقدم لها صورة لفتاة غلاف استهلاكية ، يقول لها كوني كتلك ، ألا تريدين كرامتك المفقودة ، ألا ترغبين بالاحترام ، كوني كتلك ، انتظري وتوقفي بل انسي ولا تفكري بحريتك في السياسة والاقتصاد وفي التعليم والتربية وحريتك في اتخاذ القرار والاستقلالية عن وصاية وتحكم الآخرين ، انسي كل ذلك ، خذي هذا المخدر والمنوم الجديد القديم ، فتاة الغلاف كوني كتلك ، لا تفكري في هذه الأشياء ، هل تريدين الحضارة ؟! انزعي حجابك كوني كفتاة الغلاف كوني هي لتصبحي متحضرة !! ولكي تحصلي وتجدي ما فقدتيه في الشرق استهلكي واستهلكي واستهلكي أدوات التجميل والأزياء وطلاء الأظافر ! تجملي وتكحلي ! البسي الأحذية التي نصنعها لك ، أمسكي بيدك الحقائب الغالية التي نصدرها لك ، استهلكي كل ما نقدمه لك من بضائع وصادرات ، فقط اشتري ثم استهلكي ، ثم مجددا اشتري ما استهلكتيه سابقا ثم استهلكيه مجددا ثم اشتري ما استهلكتيه مجددا ، هكذا بدائرة لا تنتهي ولا تتوقف ، تحولي إلى فتاة غلاف والى امرأة تستهلك ولا تنتج شيئا ولا تعرف شيئا عن التحضر إلا الاستهلاك ولا تعلم من الكرامة والعزة والحرية إلا نزع الحجاب عن الرؤوس والأجساد .
هذه المسكينة تضيع وتتوه ، فالشرق والغرب يعطونها ويذهبون بها إلى النتيجة ذاتها ، هي تائهة ضائعة ولا تعرف أين تذهب وأين اتجاهها الصحيح؟ فهي إما أن تغوص وتتشدد في الدين الشرقي المزيف والمنحرف حتى النخاع ، وإما أن تتغرب وتستهلك حتى النخاع .
كم هي مسكينة ؟ لا تعرف أنهم خدعوها في الشرق ونصبوا وضحكوا عليها في الغرب ، فلا الشرق ولا الغرب كذلك ، وإنما ما يقدمونه ويقولونه لها هو ما يخدعها ويضللها ويسير بها إلى الضياع والتيه .
الخروج من المتاهة
إن الحل وخيط النور الذي سيخرج المرأة من الضياع وفقدانها للاتجاه والطريق هو أن تعود إلى ذاتها الحقيقية وهو دينها ، ولكن ليس دين ( نعم ) بل دين ( لا ) ذلك الفهم الديني الآخر الذي يلبي احتياجاتها ورغباتها في الوجود والعيش كإنسانة حرة .
إن الحل هو أن تعرف أن العيب ليس في الدين كدين ، بل هو في فهم الدين ، الخطأ الذي حصل وجرى أتى وجاء ، لأن ( لا ) تم إخفاؤها وإبعادها عنها .
لقد أضاعوا على المرأة الطريق والاتجاه الذي يكمن ويوجد في ( لا ) التي تعطي لها الحرية المطلوبة الحقيقية الواقعية والضرورية لها ولحياتها .
إن ذات المرأة الحقيقي هو في دينها اللائي وليس في دين نعمي ، إن ( لا ) هي الخروج إلى النور ( ونعم ) هي البقاء في الظلام .
………………….
* طبيب باطنية وغدد صماء وسكري-كاتب كويتي بالشئون العربية والاسلامية
الهوامش
1. لست أقصد هنا كل الدين ، بل فقط اسم الدين كشعار ويافطة وكرابطة عاطفية تجمع بين الناس على مختلف أعراقهم .
2. هي شاملة بالاسم فقط ، حيث أنها ناقصة ومدمرة ومميتة للمحيط الذي حولها من فرد ومجتمع ودولة ، فالاسم الأصح لها هي الأيديولوجية المنحرفة .
3. الوسيلة هنا هي الأيديولوجيا الشاملة .
4. نستطيع أن نقول أن محمدا كان المثال الحي على ما نقول ، فهو الكامل المعصوم بالأيديولوجية المقدسة ، حامل الفكر الإلهي الكامل ، المكلف من ا … … بتوصيل الرسالة ، وهو لذلك يطبق الفكر على نفسه ليكون بذلك قدوة ورمز يقتدي به ويقلده الآخرون ، وهذا التقليد المستمر يعمل على تثبيت وثبات الأيديولوجية في النفوس وجعلها كممارسة عادية طبيعية .
5. هذا الماضي لم يكن موجودا أصلا وهو ما وصل إلينا عن طريق كتب التاريخ ، وهو تكرار للإعلام الرسمي القديم الذي كان يزور ويزيف الحقائق والأوضاع ، فيلبس كل قبيح صورة جميلة ، ويعطي هذا الماضي المزيف صورة المدينة الفاضلة التي يحاول مزورون التاريخ طبعها وإلصاقها على فترتهم وحقبتهم .
6. يربط التغريبيون ودعاة الانهزام الفكري التحرر بمسألة إسقاط الحجاب ، وهذا الربط يشترك معهم فيه الدعاة إلى دين ( نعم ) وأصحاب الدين الاجتماعي ، الاثنان يربطون التحرر بمسألة الحجاب والاثنان يدورون في دائرة مغلقة ، التغريبيون لا يقدمون للمرأة الأرفع الحجاب عن الرؤوس ، ودعاة ( نعم ) يقدمون الحجاب كوسيلة لإعادة وحصر المرأة في نطاق المنزل ، والتحرر الحقيقي لا يعتمد على أي من وجهتي النظر السابقتين ، بل التحرر هنا هو بمعنى ممارسة الاختيار دون الوصاية من أحد على حق ممارسة أي من الحقوق المشروعة لأي إنسان ، وهنا التحرر مرتبط بالنظرة إلى المرأة على أنها انسانة حرة لها حق المشاركة والتفاعل مع المجتمع في مجالات السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة ، وليس التحرر المقصود هنا هو تحرر من أخلاقيات أو تحرر من حجاب .
7. لا أحترم شخصيا الأشخاص الذين يتنازلون عن حقائق دامغة وصادقة من أجل خوفهم من مواجهة الآخرين بها ، ولا اعتبرهم من أجل ذلك من المفكرين والمثقفين ، بل أن لفظ المتحدث المصلحي أقرب إلى الصواب بالنسبة إلى تعريف عمل أشخاص مثل هؤلاء .